إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية

 نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار

يحلل حسام الدين درويش في كتابه الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات تحت عنوان "إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا بول ريكور وعلاقتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية: نحو تأسيس هيرمينوطيقا للحوار (608 صفحات بالقطع الوسط)، إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا ريكور، ويوضح صلتها بالعلوم الإنسانية والاجتماعية، ويحاول تقويم نجاح ريكور في التأسيس النظري لعلاقة الفلسفة باللاهوت والعلم، من دون أن يتجاوز خطوطًا فاصلة بينها.

يقول درويش في كتابه إن للهيرمينوطيقا الريكورية خصوصيتها، و"ثمة صعوبة في تصنيف الفلسفة الريكورية، نتيجةً لانفتاحها على الفروع المعرفية كلها تقريبًا. وأتاح هذا الانفتاح إمكانية وصف ريكور بفيلسوف التخوم، ونعني حرصه، في فلسفته وتأملاته، على أن يبيّن التكامل والتضمُّن المتبادل بين ميادين المعرفة المختلفة، وتجنُّب الاقتصار على ميدان معرفي وحيد، أو الانشغال بفرع معرفي وحيد؛ لأن من شأن هذا الاقتصار أو الانشغال أن يضع جانبًا العلاقات الوثيقة المتبادلة التي تُقرِّب كل فرع معرفي من سائر الفروع المعرفية الأخرى".

وبحسب درويش، يسعى كتابه إلى دراسة مشروع الفلسفة الريكورية تحليليًا نقديًا، وهو المشروع الذي يتشكَّل من خلال إقامة حوار دائم وعلاقات وثيقة بين الفلسفة والعلم عمومًا، والعلوم الإنسانية والاجتماعية خصوصًا، مركّزًا على إشكالية المنهج في دراسة علاقة الفلسفة بالعلوم الإنسانية والاجتماعية. كما يتناول الحيز الذي يمكن أن يشغله التفسير في الهيرمينوطيقا وفي العلوم الإنسانية والاجتماعية، والدور الذي يمكن للفهم والتأويل أن يؤدياه في هذه الهيرمينوطيقا وهذه العلوم. ومن الأسئلة التي يجيب عنها: كيف يمكننا أن نصالح بين المقاربة التفسيرية والمقاربة التفهمية أو الفهمية في ميدانَي الهيرمينوطيقا والعلوم الإنسانية والاجتماعية؟ وما المكان الذي يمكن أن تشغله محاولات الموضَعة العلمية، أو إعطاء الصفة الموضوعية في العلم، ومنهج التفسير في ميدان الهيرمينوطيقا، بصفته ميدان الفهم والتأويل؟ وهل يوجد مكان أو دور للفهم والتأويل في منهجية العلوم الإنسانية؟

يُقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام. يضم الأول، وعنوانه إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا الرموز والعلامات عند ريكور، ويتكون من ثلاثة فصول.

منهج ريكور الخاص: هيرمينوطيقا الرموز وقراءته للتحليل الفرويدي

يوضح الفصل الأول "إشكالية المنهج وتأسيس الفينومينولوجيا الهيرمينوطيقة: المنهج الريكوري الخاص" مقاربة الهيرمينوطيقا الريكورية للرموز، عارضًا تمفصل الأبعاد التفكُّرية والفينومينولوجية والهيرمينوطيقية في فلسفة ريكور، وأسباب الانتقال من الفينومينولوجيا الماهوية إلى الفينومينولوجيا الهيرمينوطيقية، والمستويات الثلاثة لظهور الرموز وتحليلها القصدي، وأسباب الانتقال وكيفيته من رمزية الشر إلى الهيرمينوطيقا الفلسفية التفكُّرية للرموز، من منطلق الفهم التأويلي للرمز، ليبين أخيرًا صراع التأويلات والمراحل الثلاث للطريق الطويلة لهيرمينوطيقا ريكور الفلسفية: الدلالية والتفكُّرية والوجودية.

يخصص المؤلف الفصل الثاني "الصراع المنهجي في التحليل النفسي الفرويدي وانطلاقًا منه -تأويل وتفسير تيليولوجيا وأركيولوجيا"، لقراءة ريكور وتأويله للتحليل النفسي الفرويدي الارتيابي مقابل هيرمينوطيقا الإيمان، ولتقدير مدى اعتبار التحليل النفسي الفرويدي أركيولوجيا للذات معارضة لتيليولوجيا الذات التي تمثل الفينومينولوجيا الهيغلية مثالًا أنموذجيًا لها. كما يتناول هذا الفصل الجدل الذي حاول ريكور إقامته بين أركيولوجيا ضمنية وتيليولوجيا صريحة في الفينومينولوجيا الهيغلية، وبين أركيولوجيا صريحة وتيليولوجيا ضمنية في التحليل النفسي الفرويدي.

في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان "نحو هيرمينوطيقا عامة للرموز - صراع الأركيولوجيا والتيليولوجيا"، ينبري المؤلف لتحديد الرمز تحديدًا متضافر العناصر ومتعدد الدلالات، ودراسة محاولة ريكور مَفْصَلة تأويل تيليولوجي مع تأويل أركيولوجي فرويدي لوعي الذات في المِلكية والسلطة والقيمة، ومناقشة مسألة أصالة منهج هيرمينوطيقا ريكور للرموز والعلامات، متسائلًا: إلى أي حد نجح ريكور في تأسيس علاقة جدلية بين المناهج الهيرمينوطيقية المتنافسة، وفي داخل كلٍّ منها؟ وإلى أي حد نجح ريكور في تحقيق المهمات الأساس التي ينبغي أن تؤديها الهيرمينوطيقا، على المستويين الإبستمولوجي والمنهجي؟

تطبيق منهج ريكو على النص والسرد بين المكتوب والرمز

يتألف القسم الثاني من الكتاب، وعنوانه "إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا ريكور للنص والسرد"، من فصلين اثنين. الفصل الرابع "إشكالية المنهج في هيرمينوطيقا النص عند ريكور" وهو مخصص لمحاولة ريكور إقامة علاقة جدلية بين التفسير والفهم في نظريتي النص والاستعارة، وتبيّن كيفية انتقاله من هيرمينوطيقا الرموز إلى هيرمينوطيقا النصوص، وأسباب هذا الانتقال ونتائجه، مع إبداء تعريف للنص بوصفه خطابًا مكتوبًا، وتعريف السمات المؤسسة لهذا الخطاب، وإنجاز هذه السمات في اللغتين الشفهية والمكتوبة، باعتبار النص أنموذجًا إرشاديًا، ومناقشة إمكان اعتبار النص أنموذجًا هيرمينوطيقيًا يسمح بإقامة جدل بين الفهم والتفسير، وأخيرًا رسم المسارين الممكنين للجدل بين التفسير والفهم، في نظريتي النص والاستعارة: من الفهم إلى التفسير، ومن التفسير إلى الفهم.

في الفصل الخامس "من النص إلى السرد - إشكالية المنهج في نظرية السرد"، يعالج درويش الجدل بين التفسير والفهم في نظرية السرد، منطلقًا من مناقشة اللحظات الثلاث لعملية المحاكاة في العمل السردي: لحظة الجدل بين الفهم المسبق للفعل وتصويره في عملية الحبك أو السرد؛ ولحظة الجدل بين فهمنا المسبق لماهية السرد والتفسير البنيوي للسرد؛ ولحظة الجدل بين فعل الحبك أو القصِّ أو السرد وتلقِّي القرَّاء ذلك. تؤلف هذه اللحظات مجتمعةً القوس الهيرمينوطيقي للتأويل عند ريكور، وهي مقدمات لمحاولاته التالية لحلِّ مشكلة علاقة التفسير بالفهم في المقاربتين الهيرمينوطيقية والعلمية للنص والسرد.

الهيرمينوطيقا الريكورية في العلوم الاجتماعية والإنسانية

يحمل القسم الثالث من هذا الكتاب عنوان "التوسُّعات المتتالية لهيرمينوطيقا النص الريكورية: الفهم والتفسير في العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي هيرمينوطيقا الخطاب الشفهي"، وهو مؤلّف من فصلين.

ففي الفصل السادس "إشكالية المنهج في العلوم الإنسانية والاجتماعية -امتداد الهيرمينوطيقا الريكورية إلى نظريّتي الفعل والتاريخ"، يتناول درويش إشكالية المنهج في نظرية الفعل بين الدافع والحافز، وفي نظرية التاريخ بين التفسير والفهم، وبين الموضوعية العلمية والذاتية التأويلية، كما يوضح السمة الهيرمينوطيقية لعلم التاريخ بإبراز السمة التأويلية المحايثة للأوجه الثلاثة المكونة لعملية الكتابة التأريخية، عارضًا التقارب والصلة الوثيقة بين نظريات النص والفعل والتاريخ، والجدل بين العلة والسبب في نظرية الفعل، والمماثلة بين النص والفعل الحصيف بوصفه موضوع بحث العلوم الاجتماعية.

في الفصل السابع والأخير، وعنوانه "نحو تأسيس هيرمينوطيقا للخطاب الشفهي والحوار انطلاقًا من الهيرمينوطيقا الريكورية"، يتوسّع المؤلف في محاولة تأسيس هيرمينوطيقا للخطاب الشفهي عمومًا، وللحوار خصوصًا، انطلاقًا من هيرمينوطيقا ريكور للنص والفعل، فيناقش الأسباب وراء إقصاء ريكور الخطاب الشفهي من هيرمينوطيقاه، وإمكان - بل ضرورة - تأسيس هذه الهيرمينوطيقا استنادًا إلى الهيرمينوطيقا الريكورية نفسها. كما يقابل المؤلف بين بعض أنواع الخطاب الشفهي كالخطاب التلفزيوني والإذاعي والنص باعتباره أنموذجًا هيرمينوطيقيًا ويماثلهما، ليكشف عن سمات مميزة للنص في الخطاب التلفزيوني والإذاعي أيضًا. ويتطرق إلى ظاهرة عدم الفهم في تبادل الحديث الشفهي عمومًا، وفي الحوار خصوصًا، والعلاقات المعقَّدة بين الفهم والتأويل والتفسير في الحوار، باحثًا عن حلٍّ لظاهرة سوء الفهم أو عدمه في الحوار، انطلاقًا من أخلاق الحوار والفهم. وينهي هذا الفصل بالتطرق إلى الترجمة، بوصفها أنموذجًا إرشاديًّا للهيرمينوطيقا.

في خاتمة الكتاب، يقول درويش: "تمحورت الإشكالية المنهجية لهذا الكتاب حول مفهوم القراءة بالدرجة الأولى. وينبغي التمييز، في هذا السياق، بين مفهومين للقراءة: أحدهما ضيق والآخر واسع. القراءة، بالمعنى الضيق للمفهوم، هي النظير الجدلي لعملية الكتابة، وهي العملية التي يتمُّ من خلالها، أو الهادفة إلى الكشف عن دلالة المكتوب أو معناه. القراءة، بالمعنى الواسع، تحتفظ بالهدف ذاته، لكن موضوعها يتجاوز المكتوب، ليصبح كلَّ ما له، أو يمكن أن يكون له معنى. ويتجسَّد المعنى الواسع للقراءة في حديثنا عن قراءة الواقع وقراءة الحوادث وما شابه".

يضيف: "يتداخل مفهوما القراءة في معظم المناقشات المنهجية، حيث يحيل كل مفهوم إلى الآخر أو يستدعيه بالضرورة. وعلى هذا الأساس، يمكننا أن نفهم جزئيًا كيف يمكن قراءة النص أن تكون أنموذجًا لقراءة الفعل الإنساني أو الحدث التاريخي، في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وكيف يتمُّ التشديد على القراءة بوصفها فعلًا في الهيرمينوطيقا ونظريات القراءة".

اقــرأ أيضًــا

فعاليات