الشعب يريد: حين تأكل الديمقراطية نفسها

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب أيمن البوغانمي الشعب يريد: حين تأكل الديمقراطية نفسها، ويقع في 280 صفحة.

يمكن تأويل الشعبوية على أنها ثأر الرغبات الثورية من الديمقراطية التي نجحت في احتوائها؛ فإزاء عزوف المواطنين في البلدان الديمقراطية عن الانتخابات، وتراجع شعبية الأحزاب التقليدية، وانعدام الثقة بالسلطات المنتخبة، وتراجع نجاعة الآليات الانتخابية في تحسين ظروف شرائح متزايدة من المواطنين، تصاعدت وتيرة المطالبة بتعميق الديمقراطية من أجل كسر احتكار النخب السياسية للسلطة، وذلك بإعادة الكلمة إلى الشعب والاقتراب الدؤوب من الديمقراطية المباشرة.

وقد عمل دعاة دمقرطة الديمقراطية على فرض إجراءات، مثل الانتخابات الأولية في داخل الأحزاب، واعتماد النسبية في الأنظمة الانتخابية، والاستفتاء، والمبادرات الشعبية في التشريع، وسحب الوكالة النيابية. غير أن النتائج العملية كانت مخيّبة للآمال، وولّدت مشاكل جديدة أسوأ من تلك التي زعم أنصار دمقرطة الديمقراطية أنهم يحلّونها.

اقتسام السلطات

في النظام الرئاسي، يقال إن الرئيس يعبّر عن عموم الشعب. ولكن أنّى له أن يفعل ذلك؟ أليس من طبع صاحب السلطة أن يرى نفسه معبّرًا عن ناخبيه؟ وإذا لم يكن كذلك، فكيف يبرّر وعودًا تخدم شرائح بعينها، من قبيل التخفيض في الضرائب على الشركات من أجل دعم الإنتاج أو رفعها من أجل توزيع الثروة؟ لا شك في أن من حق رئيس منتخب على أساس مشروع سياسي ووعود انتخابية، بل من واجبه أيضًا، أن يعرّف نفسه على أنه رئيس حكومة. أو على نحو أدق، إنه يرى نفسه على أنه قائدٌ لأغلبية، وصلاحيّاته وسيلة لخدمتها من خلال إنجاز وعوده الانتخابية، أو على الأقل بالتعبير عن القيم التي من أجلها انتُخب رئيسًا.

إذا كانت الدولة، باعتبارها تعبيرًا عن مختلف عناصر الشعب، تحتاج إلى قمة هرم جامعة، فالأفضل ألّا تكون منتخبة وأن تكون صلاحياتها رمزية. وليس من العسير أن نفهم أن الملكة في بريطانيا تعبّر عن الشعب البريطاني أكثر ممّا يعبّر رئيسٌ مثل باراك أوباما أو دونالد ترامب عن الشعب الأميركي، هذا بغضّ النظر عن شعبية هذا أو ذاك؛ ذلك لأن الملكة غير منتخبة، بل كل ذلك لأنها بالتحديد غير منتخبة.

وفي غياب الملكية الوراثية، يمكن التأليف بين الرمزية الجامعة من جهة، والانتخاب من جهة أخرى. وعادة ما يكون الانتخاب في هذه الحالات غير مباشر، وهو السبيل الذي تتبعه دول، كإيطاليا وألمانيا، لتجنّب الزخم الذي تتسبب فيه الانتخابات المباشرة للرئيس، حتى إذا كان محدود الصلاحيات كما هو الحال في النظام النمساوي والبرتغالي والسنغافوري والتشيكي والكرواتي. ويكفي فتح الباب أمام الانتخابات المباشرة للرئيس حتى تتسلل شخصنة السلطة، بغضّ النظر عما يقوله نص الدستور.

يحتاج صاحب السلطة إلى الحسم، وكثيرًا ما تكون قراراته لمصلحة طرف على حساب طرف آخر، أو أنها قد تَؤولُ إلى ذلك. وبناء عليه، يكون الرئيس، بمجرّد استخدامه لصلاحياته، قد انزلق بعيدًا عن رمزية التعبير عن كل الشعب، ولا يبقى أمامه بعد ذلك إلا لحن الكلام، يتشبّث به من قبيل لزوم ما يلزم. إن إصرار الرؤساء في الأنظمة الرئاسية على ادعاء تمثيل كل الشعب رغم استخدامهم لصلاحياتهم، أمر مفهوم؛ إذ إنه يعطيهم نوع قداسة تنبع من ذلك الكيان الهلامي الذي يسمى الشعب. ولعل الرئيس يحتاج إلى شرعية تمثيل كل الشعب أيضًا، لمقارعة السلطة التشريعية حين يصطدم معها؛ فالبرلمان في مجمله هو الأقرب في الحقيقة إلى تمثيل أكثر ما يمكن من شرائح المجتمع.

والرئيس، باعتباره يبقى في نهاية المطاف شخصًا، غير مؤهل بطبعه لتمثيل التنوع الذي يخترق المجتمع. ولذا، فإنه مضطر إلى اللجوء إلى اللّبس الحاصل من جرّاء ازدواجية أدواره، وهو يستخدمه كلما اضطره تقسيم السلطات إلى الصدام مع البرلمان.

سيادة الشعب

لئن كانت بريطانيا المرجعية الكبرى لمبدأ الديمقراطية التمثيلية، فإن ألمانيا هي المصدر الأكبر لقواعد المنافسة السياسية؛ ذلك أنها جمعت بين مزايا الأنظمة الانتخابية النسبية، من عدالة في التمثيل وتعددية في الأحزاب، وبين فضائل الأنظمة الأغلبية، من نجاعة في ممارسة السلطة ومحاسبة لأصحابها. ويعود ذلك، بمصطلحات كارل ماركس، إلى التقارب الشديد بين واقع البنية التحتية اقتصاديًا واجتماعيًا من جهة، وانعكاساتها سياسيًا وحزبيًا من جهة أخرى؛ إذ إن النموذج الاقتصادي الألماني قرّب بين رأس المال والنقابات بفضل آلية المفاوضات المستمرة وإمكانية الاتفاقات التي تخدم مصالح مختلف الأطراف. وقد كان التقارب في وسط المشهد السياسي بين حزب المسيحيين الديمقراطيين وحزب الديمقراطيين الاشتراكيين عبارة عن محاكاة سياسية لعلاقات اقتصادية واجتماعية تنفر من الأطراف.

وقد تغيّرت الأمور حتى في ألمانيا؛ إذ ظهرت فئات جديدة تشعر بالغبن لأنها لا تجد نفسها في الإصلاحات التي انعطفت بالاقتصاد والمجتمع نحو المزيد من المرونة، فانبرت تبحث عن تعبيرات سياسية تمكّن من إفراغ هذه الشحنة السلبية، حتى إن لم تكن حلولها المقدّمة واقعية أو معتدلة. والواقع يثبت أنه ثمة لامساواة في القدرة على استخدام وسائل التأثير المباشرة التي تمنحها الديمقراطية، بل لامساواة حتى في الرغبة في الاستفادة منها؛ ما يعني ذلك أن تعقيد المسارات الديمقراطية وزيادة سلطة المواطنين في اتخاذ القرار أو في المحاسبة المباشرة للسياسيين لا يؤديان إلا إلى تعميق تلك الهوة.

ولعل أفضل الأمثلة على ذلك فتح قوائم المرشحين لمقاعد السلطة التشريعية، بحيث يتسنى للناخبين إعادة ترتيبها. ولئن أغرى هذا الإجراء بانتصار الأنظمة البرلمانية للشعب ضد الأحزاب، فإنه يؤدي في حقيقة الممارسة إلى انتكاسة السلطة إلى الشخصنة. وليست مثل هذه الإجراءات بأقل خطورة على العمل السياسي الجماعي في الأنظمة البرلمانية المعتمدة على نسبية التمثيل من الانتخابات الأولية التي ذكرنا أثرها في الأنظمة الرئاسية وفي الأنظمة الانتخابية الأغلبية عمومًا. فتلك تمظهرات مختلفة لظاهرة واحدة، هي شخصنة السلطة باسم الدمقرطة. أما ما يسمى التفاعل المباشر بين السياسي ومن يمثلهم، أو ما يعبَّر عنه مخاتلةً بالمحاسبة الفردية المباشرة للسياسيين من ناخبيهم، فتلك عبارات ليست أكثر من سرديّة مغرية لحقيقة منفّرة، أو لعلها لا تعدو أن تكون ذرًّا للرماد في العيون.

وحتى حين لا تؤكد الممارسة الانتخابية استغلال الناخبين على نحو مكثف لممكنات القوائم المفتوحة، فإن وجود هذه الإمكانية يكفي لدفع القيادات الحزبية إلى تفضيل السياسيين المحبّذين جماهيريًا، حتى حين يكونون غير منضبطين سياسيًا؛ أي إن الاعتبارات الانتخابية تصبح حائلًا أمام العقلانية السياسية، وتلك من خصائص الشعبوية.

ديمقراطية الطبقات الوسطى

لقد كانت الطبقة الوسطى سوسيولوجيًا الدعامة التاريخية لأغلب الديمقراطيات؛ فنجاعة المنظومة الاقتصادية الرأسمالية قد مكّنت من تجاوز مطلب المساواة الاقتصادية المطلقة إلى الاكتفاء بإمكانية التساوي في الحركية الاجتماعية الصاعدة. وتعتبر الاستفادة الواضحة للفئات الشعبية من الامتداد العددي للطبقة الوسطى مؤشرًا على وجود حدٍّ أدنى من التوازن بين مختلف الأطراف المشكّلة لمعادلة الديمقراطية الليبرالية في البلدان المتطورة.

ولكن مقومات هذه المعادلة تشكو اليوم اضطرابًا عميقًا لم يصل على الأرجح بعدُ إلى أقصى درجاته؛ إذ يتمتع رأس المال العالمي، مقارنة بباقي الشرائح، بأسبقية فائقة في القدرة على استغلال ممكنات العولمة. وهو سرّ اختلال التوازن الذي أصبح يحكم العلاقة، لا بين رؤوس الأموال الكبرى وباقي الفئات الاجتماعية، بل أيضًا بينها وبين الدول؛ إذ تفرض العولمة وانفتاح الأسواق معادلةً صفرية تضطر الدول إلى استرضاء قوى الاستثمار، وخلاف ذلك قد يعرّض سلامة اقتصادها للخطر. وفي المقابل، يعني تحرر رأس المال العالمي من الضغوط تراجع إمكانات إعادة توزيع الثروة، بما يفسّر الاتساع المطّرد للفوارق الاجتماعية في أغلب البلدان الديمقراطية.

أعطى انهيار الاتحاد السوفياتي لهذه النهاية بعدًا كونيًا عبّر عنه كتاب فرانسيس فوكوياما المشهور بعنوان: نهاية التاريخ والرجل الأخير. ولكن الأزمات الاقتصادية المتتالية كشفت هشاشة منظومات قامت على توافقات بين قوى اجتماعية منظمة ومُمَأسَسة حزبيًا أو نقابيًا. وقد كانت تلك التوافقات مقبولة ما دامت قادرة على إدماج أغلبية متزايدة من الناس، ومن ثم أهمية الطبقة الوسطى وهيمنة قيمها. ولكن العولمة غيّرت المعادلة، ولا بد من فهمها على أنها نهاية احتكار الغرب للتطور الاقتصادي، أو بعبارة أخرى، تباطؤ الغرب وصعود الآخرين. ومع تصاعد المنافسة، ظهرت في الديمقراطيات شرائح اجتماعية تعتبر أن مصعدها الاجتماعي قد تعطّل؛ بل إنه قد بدأ في النزول فعلًا؛ ذلك أن قدرة المنظومتين الاقتصادية والاجتماعية على مزيد الإدماج قد تراجعت في الوقت نفسه الذي انخفض ضغط الشرائح الشعبية؛ لتفكك جبهاتها الحزبية والنقابية ولتراجع حاجة الفئات المرفّهة إلى تقديم التنازلات. وبطبيعة الحال، لم تتراجع انتظارات الجميع ورغباتهم، وهو ما أضعف جاذبية الوسط السياسي وعزّز إغراء الأطراف، أو لعل التركيبة السوسيولوجية الجديدة تدفع ببطء، ولكن بقوة لا تقاوم، متوسط المواطنين نحو ما كانت الأطراف تمثّله في الماضي القريب، بحيث تحلّ الشعبوية محلّ الاعتدال، ويستعيد التطرف ما فقد من جاذبيته.

في هذه السياقات الجديدة، تدور رحى الدمقرطة، فتخلق دوّامة من التوتّر والحماسة، وهي تسرّع من نسق الابتعاد عن الوسط؛ إذ إنها تزيد من الحضور السياسي للشعبوية من خلال إجراءات تُضعف الأحزاب القوية القادرة على المقاومة، فتتعدد الفقاقيع السياسية في شكل أحزاب صغيرة أو قيادات مشهدية.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات