بدون عنوان

استهلّ مؤتمر "دول مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظلّ المتغيرات الإقليمية والدولية" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، أعماله بجلسة ناقشت هواجس الهوية والمواطنة في دول مجلس التعاون الخليجي كونها القضية الرئيسة التي تلخّص المخاوف المرتبطة بالاختلال السكاني الناتج أصلًا من سياسات تنموية اعتمدت على استيراد عمالة أجنبية غير عربية في أغلبها، رافقت المراحل التاريخية التي مرّت بها هذه الدول.




من الجلسة الأولى للمؤتمر

وقد انطلقت صباح اليوم السبت (6 كانون الأول / ديسمبر 2014) أعمال المؤتمر السنوي الثالث لمراكز الأبحاث العربية الذي ينظّم تحت رعاية سموّ أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني. واختار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أن يناقش هذه السنة أوضاع دول مجلس التعاون الخليجي وآفاق تطوير مسار الوحدة والاندماج للمجلس. ويقام حفل الافتتاح الرسمي مساء اليوم بكلمةٍ للأمين العام السابق لمجلس التعاون لدول الخليج العربية سعادة الأستاذ عبد الرحمن بن حمد العطية، بعنوان: "تجربة مجلس التعاون الخليجي: تحدّيات وعناوين للإصلاح". كما يتحدث فيه سعادة الدكتور جمال بن عمر، المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن عن: "دور مجلس التعاون الخليجي في مقاربة الأزمات الإقليمية: دروس من التجربة اليمنية".


هواجس الهوية وتحديات التنمية الاجتماعية

المتحدثون في الجلسة الأولى من المؤتمر

أكّد المحاضرون في الجلسة الأولى لمؤتمر "دول مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظلّ المتغيرات الإقليمية والدولية"، على أهمية أن تتصدّى دول مجلس التعاون الخليجي للتحدّيات الحضارية المرتبطة بالهوية والمواطنة التي يثيرها الاختلال السكاني في هذه الدول. ورأى الدكتور علي فخرو في ورقة قدّمها تحت عنوان: "تحدّيات الهوية في دول مجلس التعاون" أنّ سياسة استيراد العمالة التي أعطت أفضلية لغير العرب، خصوصًا في السنوات الأخيرة، ستساهم في استفحال مشكلة هوية دول المجلس في المستقبل. وأوضح أنّ هذه المشكلة ستتفاقم مع تشديد المواثيق الدولية على ضرورة توطين العمّال المهاجرين ومنحهم تمثيلًا في المجالس المرتبطة بالحكم في الدول المستقبلة، مشددًا على أنّ تفاقم المشكلة مرتبط أيضًا بفشل السياسة في تقريب دول المجلس من وحدتها المنشودة، وفشلها في التوسّع نحو دول عربية مجاورة، وتعثّرها في إعطاء أولوية للعمالة العربية.

د. علي فخرو

ورأى فخرو أنّ مشكلة الهوية مرتبطة بإشكالية في الثقافة تعدّ خطرًا وجوديًّا على الهوية، والقضية المفصلية هنا هي قضية اللغة العربية، مع تنامٍ هائل لأعداد الطلبة الخليجيين الذين لا يتقنون اللغة العربية عند تخرّجهم في المدارس أو الجامعات. ولخّص الوضع بقوله: "في الواقع، فإنّ إشكالية الثقافة هي حصيلة طبيعية لإشكاليات ثلاث: التركيبة السكانية، والتنمية المشوَّهة، والممارسات السياسية الخاطئة.

وعلى المنوال نفسه، نسجت ورقة الدكتورة فاطمة الصايغ في التحذير من آثار اختلال التركيبة السكانية لدول مجلس التعاون الخليجي في مفهوم "المواطنة"، فإذا كانت نسبة السكان المحليين تقارب حاليًّا 15% فإنّها في غضون الخمسين سنة المقبلة ستقترب من الصفر. وتحدّثت عن تطوّر "المواطنة" في المخيال الاجتماعي والممارسة؛

د. فاطمة الصايغ

إذ كانت "مواطنة سخية" مع المواطن في مراحل تأسيس الدولة الخليجية بما أتاحته أسعار النفط من موارد لها، غير أنّ السنوات الأخيرة تعرف إعادة تنظيم حصول "المواطن" الخليجي على المزايا التي تتيحها له "المواطنة"، وأصبح مطالبًا أكثر بواجبات مرتبطة بالمواطنة. وخلصت إلى التأكيد على أنّ التصدّي للتحديات الحضارية مهمّ لاستقرار المنطقة والحفاظ على المنجز التنموي، فلا تنمية مستدامة من دون تنمية اجتماعية تكرّس مفهومًا جديدًا للمواطنة يقف في طليعة المفاهيم المجتمعية الجديدة التي تهدف للتصدي للعولمة.

وركّزت الدكتورة أسماء العطية في محاضرتها على توليفة صعبة، ولكنّها ممكنة تكون فيها المجتمعات الخليجية منفتحة على العالم مع الحفاظ على هويتها الخليجية بأبعاد واضحة شاملة تضمن طريقة وجود خليجي، مؤكّدة ضرورة استغلال كلّ مقوّمات صمود الهوية الخليجية.

ومن جانبه، أثار الدكتور أشرف عثمان تأثير المحيط الإقليمي في صوغ الهوية الخليجية، وتحديدًا صعود النموذج الإيراني، خصوصًا بعد الثورة الإيرانية (1979)، إذ أحدث ذلك هزة رأت فيها بعض الدول الخليجية تهديدًا ماثلًا، فنشأ نموذج سعودي قائم على نقض النموذج الإيراني. ونبّه إلى أنّ هذا النموذج يثير تساؤلات حرجة لدى شيعة دول الخليج العربية التي توصّف نفسها بالدول السنّية، ويصبح سؤال الهوية بالذات إشكاليًّا، فهل هم مواطنون يمارسون مذهبًا مختلفًا؟ هم قبل كلّ شيء شيعة يفترض فيهم أن يديروا وجوههم نحو وطن الشيعة ذاك الذي تجسّده إيران آيات الله، وفي الحالتين لا يمكن توقّع إحساسهم بالانتماء لهذه الدولة وهويتها التي تنفي هويتهم الخاصة أو لا تعترف بها، هكذا وبصورة منافية لما يبدو كـأنّه هدف سياسات الهوية تلك فإنّها تعزّز الحضور الإيراني في أوساط شيعة دول الخليج، بدلًا عن إصلاحات سياسية كان يمكن أن تعيد موضعتهم ضمن مشروع للدولة الوطنية.


المكانة الإقليمية والواقع السكاني

يشتمل برنامج المؤتمر الذي يدوم ثلاثة أيام على أكثر من سبعين بحثًا من مختلف تخصّصات العلوم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وباللّغتين العربية والإنكليزية. وقد جرى توزيع هذه الأبحاث على مسارين رئيسين: يتعلّق الأوّل بجيوبوليتيك الخليج وقضايا العلاقات الدولية، ويناقش الثاني التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تواجه دول مجلس التعاون الخليجي؛ ففي المحور الأوّل خصصت الجلستان الثانية والثالثة لمناقشة الأهمية الجيوسياسية لمنطقة الخليج العربي، وكذا مجلس التعاون الخليجي وقضايا الأمن الإقليمي. وتناولت الجلستان في محور التحديات الاجتماعية والاقتصادية موضوعَي: "الجاليات الأجنبية والعربية في الخليج: الواقع والتأثير"، و"الواقع السكاني في دول مجلس التعاون الخليجي: فرص ومخاطر".

وفي سياق هذه المواضيع قدّم الدكتور ناصر بن غيث محاضرة تحت عنوان: "دول الخليج: كيف تحوّل النفط من مورد للدخل القومي إلى أساس للأمن القومي؟" أكّد فيها أنّ دول الخليج قد استفادت كثيرًا من اكتشاف النفط فقد مكّنتها عوائده المالية من بناء دول تتمتع بدرجة عالية من الرفاهية في منطقة تعاني الفقر والتخلّف، إلا أنّ النفط كان من جانب آخر نقمة عليها بسبب تحوّل الوفرة التي جاء بها إلى لعنة ضربت المجتمعات الخليجية وأعاقت مسيرة نموّها الطبيعي سياسيًّا واقتصاديًّا. فقد مكّنت العوائد المالية للنفط الحكومات الخليجية من تجنّب الإصلاح السياسي والاستعاضة عنه بالرفاهية والرخاء الاقتصادي اللذَين قدّمتهما بديلًا عنه. أمّا من الناحية الاقتصادية، فقد أدّت الوفرة المالية إلى إعاقة تطوّر الاقتصادات الخليجية ووصولها إلى مرحلة النضج من حيث الكفاءة والإنتاجية والتنافسية. ومن ناحية ثالثة فقد كان وجود النفط سببًا في تداعي القوى الدولية الكبرى على دول الخليج والتدخّل في أدقّ شؤونها ممّا أفقدها جانبًا كبيرًا من سيادتها واستقلال قرارها السياسي والاقتصادي. فكّكت الدكتورة عائشة التايب إشكالية العمالة الأجنبية في ورقة تحت عنوان: "العمالة الأجنبية في دول مجلس التعاون الخليجي: قراءة سوسيولوجية في التحديات الاقتصادية والاجتماعية الراهنة". وقالت إنّ استجلاب اليد العاملة الأجنبية لدول مجلس التعاون كان حلًّا أريد من خلاله معالجة اختلالات الهيكلة العامة لسوق العمل إبّان تدشين المراحل الأولى للطفرة النفطية، وما استلزمته حركة التنمية المتصلة بها، ولكنّ الدراسة التحليلية للهيكلة العامة لسوق العمل اليوم في دول مجلس التعاون الخليجي لا تزال تفصح عن اختلالات جوهرية في تلك السوق تبرز في تباين نسب المشاركة النوعية والعمريّة، واختلاف خصائص قوّة العامل بوضوح بين اليد العاملة المحلّية والأجنبية. وأضافت أنّ وجود اليد العاملة الأجنبية اليوم في عمق اقتصاد دول مجلس التعاون أصبح أكثر من أيّ وقت مضى مشكلًا مسلّطًا على الاقتصاد والمجتمع أكثر من كونه حلًّا لمشاكلهما، بما أضحى يسرّع من نسق استحداث دول المجلس سياسات للحدّ من استقدام تلك اليد العاملة الأجنبية وترشيده، ومسارات إدماجها في سوق العمل.


مؤتمر أكاديمي

د. مروان قبلان يلقي كلمة استهلالية للمؤتمر

يذكر أنّ أعمال مؤتمر "دول مجلس التعاون الخليجي: السياسة والاقتصاد في ظلّ المتغيرات الإقليمية والدولية" تستمرّ لمدة ثلاثة أيام. وأوضح الدكتور مروان قبلان رئيس لجنة تنظيم المؤتمر، ومنسّق وحدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، في كلمة استهلالية سبقت أولى جلسات المؤتمر، أنّ المركز العربي اختار موضوع المؤتمر السنوي لمراكز الأبحاث هذا العام انطلاقًا من عدة عوامل، من بينها  أنّ مجلس التعاون الخليجي يواجه تحدّيات غير مسبوقة، وأنّ هناك تباينًا في مواقف دول مجلس التعاون واتجاهاتها وقراءاتها تجاه التهديدات الحالية، إضافةً إلى أنّ المجلس بوصفه منظومة تعاون سياسي – اقتصادي - أمني بين دول ذات خصائص متماثلة بدأ فكرة متطورة جدًّا في ظروف استقطابٍ وانقسام شديدين على المستويين العربي والعالمي. لكن هذه الفكرة المتطوّرة في ذلك الوقت لم تتقدم كثيرًا فيما بعد على الرغم من تزايد التحديات والتهديدات التي تواجه هذا التكتل. ويضاف إلى هذه العوامل ما أصبحت تمثّله ثورة الغاز والنفط الحجريَّين من تحدٍّ لموقع دول المجلس بوصفها أكبر منتج للغاز والنفط في العالم.

وأكّد أنّ هذا المؤتمر أكاديمي أساسًا. وقد استقبلت اللجنة المنظمة أكثر من 140 مقترحًا بحثيًّا، اختير 54 منها، ثم خضعت هذه الأوراق لتحكيم علمي دقيق ورصين بالاستعانة بباحثين مشهود لهم بالكفاءة والخبرة العلمية. وجرى قبول 14 ورقة بحثية محكّمة. وفضلًا عن ذلك، جرى استكتاب عشرات الخبراء والمختصين في شؤون الخليج، وكان أكثرهم من دول الخليج العربية. ويتميز هذا المؤتمر أيضًا بكونه من المؤتمرات القليلة التي تدرس علميًّا بنية مجلس التعاون وبنية دوله ومشاكلها واتجاهاتها وقراءاتها وهمومها وقضاياها والتحديات التي تواجهها. وما يميّز هذا المؤتمر عن غيره أيضًا هو انعقاده قبل يومين فقط من قمة سياسية خليجية تُعقد أيضًا في الدوحة، وقد تكون الأهمّ منذ سنوات نظرًا لطبيعة الظروف والتحديات وارتفاع سقف التوقعات، بخاصة أنّها تأتي بعد مصالحة خليجية طوَت خلافًا كاد يهدّد مسيرة التعاون الخليجي، كما يأتي المؤتمر في وقتٍ تعاظمت فيه المسؤوليات على دول الخليج للتقدم إلى صدارة الأحداث والقيام بدور مميّز في السياسات الإقليمية.

وضمن اليوم الثاني من برنامج المؤتمر (الأحد 7 كانون الأول / ديسمبر 2014)، سيلقي المفكر والأستاذ الجامعي إيمانويل والرشتاين محاضرة تحت عنوان: "تداعيات انحدار القوة الأميركية وأثرها في منطقة الخليج".