بدون عنوان

حضور كبير ونوعي في جلسات المؤتمر

دعا المدير العام للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور عزمي بشارة في افتتاح المؤتمر السنوي الثاني لمراكز الأبحاث العربية إلى إعادة صوغ المشروع الوطني الفلسطيني بعد أن أصبح الخيار السّياسيّ في مأزقٍ، وخيار الكفاح المسلّح في حالة انفصالٍ عن السّياسة منخرطًا في صراعٍ على وجوده، وتحوّل من إستراتيجيّة تحريرٍ إلى خيار دفاعٍ عن النّفس. ورأى أنّ الأزمة أعمق من ذلك لأنّ "الخلاف الفلسطينيّ الفلسطينيّ حاليًّا هو صراعٌ على السّلطة. إنّه الصّراع الّذي يمنع من رؤية الواقع الفلسطيني الواحد والموحّد، والسياسات الإسرائيلية الواحدة؛ والمشكلة أنّه صراعٌ على السّلطة قبل مرحلة الدولة". وقدّر أنّ تحويل قضيّة فلسطين إلى أداةٍ استخداميّةٍ بيد أنظمةٍ استبداديّةٍ فاسدةٍ، أضرّ بها.

حاجة القضية الفلسطينية إلى التحليل العلمي

وقد ألقى الدكتور عزمي بشارة محاضرة بعنوان "المشروع الوطني الفلسطيني: أفكار وأسئلة حول المأزق والآفاق" في افتتاح أعمال المؤتمر السنوي الثاني لمراكز الأبحاث العربية وموضوعه هذا العام "قضية فلسطين ومستقبل المشروع الوطني الفلسطيني"، صباح اليوم (السبت 7 كانون الأول / ديسمبر). 

وقال المدير العامّ للمركز العربي إن من واجبنا أن نسترشد بالتحليل العلميّ لما يدور من حولنا في خدمة قضيّةٍ عادلةٍ، فإذا كانت المؤسّسة الجامعيّة الصهيونيّة تستخدم العلوم الاجتماعيّة النظريّة والتطبيقيّة وعلم التاريخ وغيره لغرض السيطرة وتبرير السّياسة، وفي طرح توقّعاتٍ من أجل المستقبل، فما بالك بالشّعب (الفلسطيني) الذي كان وما زال ضحيّةً للممارسة الصهيونيّة! ولهذا، تقرر عقد المؤتمر السنوي لمراكز الأبحاث هذا العام بعنوان "قضيّة فلسطين ومستقبل المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ".

الدكتور محمد المصري رئيس لجنة تنظيم المؤتمر بمعية الدكتور عزمي بشارة في الجلسة الافتتاحية

وأوضح أن مبرّرات المركز العربيّ للأبحاث لاختيار هذا الموضوع ثلاثة، وهي: أوّلًا، القيام بأمرٍ ما في وضع أجندةٍ بحثيّةٍ بشأن فلسطين تتجاوز ما جرى حتّى الآن. وثانيًا، إرسال إشارةٍ من أكاديميّين عربٍ وفلسطينيّين تعبّر عن عدم الرّضى عن تهميش قضيّة فلسطين. وثالثًا، التأكيد على الحاجة إلى بحث المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ ومستقبله في الظروف المتغيّرة دوليًّا وإقليميًّا. ولا يمكن تجاهل الاعتقاد المنتشر بأنّ المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ يعيش حالة انسدادٍ تحتّم التفكير في مستقبله.

ورأى أنّ القضية الفلسطينية تضررت من مأزق مشروعها الوطني مثلما تضررت من تحوّلها إلى أداةٍ استخداميّةٍ بيد أنظمةٍ استبداديّةٍ فاسدةٍ، لم يضرّ بها أخلاقيًّا وقيميًّا فقط، بل أضرّ بها فعليًّا؛ فالأنظمة ذاتها التي لم توجّه الطاقات إلى الصّراع مع إسرائيل، استخدمت قضيّة فلسطين في لغة الاستبداد، بحيث لوّثت الخطاب التحرّريّ الفلسطينيّ، مثلما لوّثت في مرحلةٍ ما كلمة "ثورة"، و"مجلس ثورة" قبل أن تعيد الشّعوب الاعتبار لهذه المفردات في الأعوام الثّلاثة الأخيرة.



الكفاح المسلح والعمل السياسي

وقال الدكتور عزمي إنّ المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ وقف دائمًا على رجلين؛ الأولى مقاومة الظّلم والعدوان، بدءًا بالمقاومة السلبيّة ونهايةً بالكفاح المسلّح. والثانية، العمل السّياسي، وذلك منذ أن بدأت اتّصالات الهيئة العربية العليا بالدول العربيّة والمجتمع الدولي قبل عام 1948، وحتّى طرح مشروع الدّولة الفلسطينيّة والصّراع على تحقيقه منذ السبعينيّات.

غير أنّ كلًّا من المحورين استند إلى حاضنةٍ عربيّةٍ، وسياساتٍ عربيّةٍ مختلفةٍ، وهو ما فرّقتهما في كثيرٍ من الحالات الصراعات العربيّة، كما استند كلٌّ من المحورين إلى سياساتٍ وصراعاتٍ دوليّةٍ.

وأوضح أنّ قبول مبدأ الدولة الفلسطينية دوليًّا اقتضى التخلّي عن خيار الكفاح المسلّح. ولكن التّخلّي عن الكفاح المسلّح، لم يكن لهذا السبب فقط، بل ساهمت في الدفع إليه أيضًا تغيّرات بنيويّة في الوطن العربيّ وفي حواضن الكفاح المسلّح وامتداداته العربيّة والدوليّة.

وتابع بالقول إنّ الكفاح المسلّح انفصل فيما بعد تحت تسمية المقاومة ليشكّل خيارًا خارج العمليّة السياسيّة، ومن دون مشروعٍ سياسيٍّ في الحقيقة، وإن أطلق من حينٍ إلى آخر مبادراتٍ سياسيّةً وغيرها في مواجهة محاولات شيطنته في الغرب. وليس صدفةً أن تتبنّاه بمثابرةٍ، قوى من خارج منظّمة التحرير التي تحوّلت بمجملها إلى مشروع السّلطة الوطنية الفلسطينيّة. وسوف نشهد أنّ الفصائل التي تبنّت الاستمرار في خيار المقاومة المسلّحة من خارج ما يسمّى بالعملية السياسيّة سوف تقع في المأزق نفسه حين تدفعها العملية الانتخابية إلى التّورّط في مشروع سلطة.

الدكتور عزمي بشارة خلال إلقاء محاضرته

في المقابل، يرى الدكتور عزمي أنّ اشتراط أن يكون مشروع الدّولة عن طريق المسار السياسي الخيار الوحيد على الطّرف الفلسطيني، جعل هذا المشروع رهينة عمليّةٍ سياسيّةٍ تفاوضيّةٍ يرافقها توسّعٌ استيطانيٌّ إحلالي مذهلٌ ينجم عنه على الأرض حصر كيانٍ فلسطيني في ما يسمّى المناطق "أ" و"ب"، وهو كيانٌ منقوص السّيادة، ولا مانع لدى إسرائيل أن يسمّى دولةً، ولكنّها تريد مع ذلك ثمنًا في المقابل. وتابع بالقول: "إنّ بعضنا توقّع هذا السيناريو بتفاصيله منذ توقيع اتّفاق أوسلو، وبعضنا لم يتوقّعه، وتحليل الوقائع القائمة حاليًّا يكاد يقود الجميع إلى إدراك السيناريو الكارثيّ. ولكن، حين أصبحت النتائج واضحةً للجميع، نشأ خلافٌ جديدٌ، وهو ليس خلافًا على قراءة الواقع للأسف؛ فالجميع يدرك المأزق. وإنّما الخلاف الفلسطينيّ الفلسطينيّ حاليًّا هو صراعٌ على السّلطة. إنّه الصّراع الّذي يمنع من رؤية الواقع الفلسطيني الواحد والموحّد، والسياسات الإسرائيلية الواحدة؛ والمشكلة أنّه صراعٌ على السّلطة قبل مرحلة الدولة".

وفي الجهة المقابلة، يرى عزمي بشارة أنّ ما يتمّ الإشادة به حاليًّا كمقاومة هو ليس ما سمّي مقاومةً في السابق، فقد كانت المقاومة إستراتيجيّة تحريرٍ بغضّ النظر عن واقعيّتها، ثم تحوّلت إلى خيار "مقاومة الاحتلال". ولكنّ المقاومة المسلّحة المنظّمة حاليًّا إستراتيجية دفاعٍ عن الذّات وعن الإقليم الذي تسيطر عليه، وهذا لا يقلّل من أهمّيتها.

وخلص الدكتور عزمي إلى أنّ الخيار السّياسيّ في مأزقٍ، وخيار الكفاح المسلّح في حالة انفصالٍ عن السّياسة منخرطٌ في صراعٍ على وجوده، وتحوّل من إستراتيجيّة تحريرٍ إلى خيار دفاعٍ عن النّفس. ومن هنا، لا بدّ من العودة إلى التفكير في مستقبل المشروع الوطنيّ الفلسطيني على ضوء المتغيّرات التالية: 1. مأزق المفاوضات، 2. مأزق الكفاح المسلّح، 3. انشغال العالم العربيّ لمرحلةٍ غير قصيرةٍ بالثورة والثّورة المضادّة حتّى تستقرّ الأمور إلى ديمقراطيّاتٍ عربيّةٍ ناميةٍ كما نأمل.

ورأى أنّ المنطلق إلى إعادة صوغ المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، هو الواقع على الأرض، مهما اختلفت تسمياته "احتلال استيطاني"، "حالة أبرتهايد"؛ ليست المسألة هي التسميات، بل هي ما يحول بيننا وبين طرح هذا الواقع الوطنيّ الفلسطينيّ، وواقع العدوان الصهيونيّ بكلّيته، وليس كقضايا منفصلةٍ؛ والمسألة هي أيضًا وجود عنوانٍ سياسيٍّ يتعامل مع مجمل الواقع الفلسطينيّ، ويطرح هذا الواقع بكلّيته بلغةٍ مفهومةٍ دوليًّا.

وقد تطرق الدكتور عزمي بشارة إلى تجربة نيلسون مانديلا في جنوب أفريقيا في مناهضة الأبرتهايد، وقال: "نحن لا نستطيع نسخ تجربة المؤتمر الوطني الأفريقي بسبب وجود خلافٍ حول مفهوم الدولة والعمل العربيّ - اليهوديّ المشترك، خلافًا للعمل المشترك بين الديمقراطيّين البيض والسّود من أجل دولةٍ واحدةٍ، وبسبب المسألة اليهودية دوليًّا، وبسبب المفاوضات الجارية على كيفيّة فصل الشعبين، وليس على كيفيّة عيشهما سويّةً. ولا نستطيع في الوقت ذاته أن ننسخ تجربة حركات التحرّر الوطنيّ في الستينيّات؛ فهذه مرحلةٌ انقضت بلغتها ومحاورها الدوليّة. ولكن، هذا لا يمنع أن نتعلّم من جنوب أفريقيا وخطاب المؤتمر الوطنيّ الأفريقي عالميًّا، ومن نقاط قوّة حركات التحرّر الوطني، وقبل هذا كلّه، أن نتعلّم من تاريخنا نحن لكي نبلور خطابًا ضاغطًا فعلًا على إسرائيل، وقادرًا فعلًا على استقطاب أوسع تأييدٍ ممكنٍ في الرأي العامّ العربي، وعلى الساحة العالميّة".


برنامج ثري ومشاركة نوعية
تلت المحاضرة الافتتاحية أربع حلسات من أعمال المؤتمر الأكاديمية عن "الكولونيالية الإسرائيلية وسياساتها"، و"الربيع العربي والصراع العربي الإسرائيلي"، و"السياسات الكولونيالية الإسرائيلية وانعكاساتها على المجتمع الفلسطيني"، و"أنماط في تحولات حركات المقاومة الفلسطينية".

ويستضيف المركز العربي في مؤتمره الذي يدوم ثلاثة أيام العديد من السياسيين البارزين من مختلف الدول العربية، إلى جانب عددٍ من الشخصيات العامّة والدبلوماسيين من المنطقة العربية؛ بحضور حشدٍ من وسائل الإعلام والصحفيين المشاركين.

إضافةً إلى أوراقه الأكاديمية، يتميّز المؤتمر بالندوات السياسية؛ إذ قبل يوم افتتاحه، عُقدت ندوتان عامّتان نشطهما عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" ومسؤول ملفّ المفاوضات صائب عريقات ومسؤول العلاقات الخارجية في حركة "حماس" أسامة حمدان.

وستعقب حفل الافتتاح الرسمي للمؤتمر – مساء يوم السبت 7 كانون الأوّل / ديسمبر - ندوةٌ سياسية تتناول القضية الفلسطينية من أبعادٍ ورؤًى مختلفة، يتحدّث فيها مصطفى بن جعفر رئيس المجلس التأسيسي التونسي، ومقرّر الأمم المتحدة الخاص لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية ريتشارد فولك؛ والمفكّر السياسي الهندي إعجاز أحمد ورئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري.

ومن الجدير بالذكر، أنّ المؤتمر بمنزلة التظاهرة الأكاديمية والسياسية الأوسع التي تتناول القضية الفلسطينية في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة. ويتوقّع أن يمثِّل مساحةً فريدة للتباحث والنقاش بشأن القضية الفلسطينية، بعد أن غيّبتها التطوّرات الإقليمية والعربية عن ساحة النقاش العربي، أكاديميًّا وسياسيًّا وإعلاميًّا.