بدون عنوان

في الخامسة من بعد ظهر الأربعاء 14 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وفي "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" - بيروت، عقدت "الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية" ندوة موضوعها "التربية والتعليم بين الدستورين العثمانيين". وشارك فيها سعاد سليم وسيمون عبد المسيح وإيلي ضناوي، وقدّم للندوة وأدارها منذر جابر.

وهذه هي ندوتها الأخيرة في سلسلة ندوات بعنوان: "لبنان بين الدستورين العثمانيين 1876 -1908".

حضر الندوة جمع من الأكاديميين والمهتمين، وقد شاركوا في نقاش أغنى المداخلات المقدمة.

أدوار الإرساليات المتناقضة

تناولت الدكتورة سعاد سليم، أستاذة تاريخ في جامعة البلمند، أدوار المدارس الإرسالية في "شرقنا التقليدي الفارق في أمجاد تراثه عن ماضيه"، وذلك ابتداءً من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، خصوصًا في بيروت ومتصرفية جبل لبنان. فمدارس الإرساليات الغربية "بتنظيمها الحديث ألفت وسائل التعليم التقليدية التي كانت منتشرة في المدارس القرآنية أو في الأدبار"، بحسب الباحثة التي رأت أن حضور التعليم الحديث ومدارسه وثقافته "قلبت مفاهيم الحياة (المحلية) وقيم المجتمع ومعيشة عائلاته".

ثم عرضت أنواع المدارس الإرسالية وأصنافها، من أميركية وبريطانية وروسية وفرنسية وإيطالية وألمانية وعلمانية، وتوسعت في عرض أدوار البروتستانتية والكاثوليكية والأرثوذوكسية الروسية، ذلك أن لتلك المدارس، "على الرغم من تشابهها، خصوصيات ومواصفات وتوجهات"، كان لها تأثير بالغ في "توجيه السياسات وقيم الحياة بلادنا" ومجتمعاتنا المحلية. فلكل من مدارس الارساليات "شخصيتها الخاصة" المؤثرة في الجماعة التي تتوجه إليها تربويًا وثقافيًا. والمثال على ذلك أن "التعليم الإرسالي الفرنسي والإكليريكي الماروني استطاع تأمين أصدقاء لفرنسا في سوريا كلها"، على ما ذكرت سليم. واستنتجت في مداخلتها أن معظم خريجي تلك المدارس عملوا في "التجارة وتنفيذ المقاولات والأشغال العامة"، لأن فرنسا "كانت المستورد الرئيسي لإنتاج شرانق الحرير في لبنان وسوريا، وهي من التزمت "معظم عقود بناء البنية التحتية وتحديثها" في السلطنة العثمانية.

دافع للهجرة

من العلامات على ارتباط نهج التعليم الإرسالي بالدول والجماعات والبعثات الصادر عنها، وعلى تأثيره الكبير في الجماعات المحلية التي توجه إليها، ذكرت سليم "حماسة" المتعلمين في المدارس الانجيلية والبروتستنتية الأميركية والبريطانية "للديمقراطية الغربية ونموذجها السياسي". وكان من نتائج ذلك، بحسبها، توجه خريجي هذه المدارس نحو "الهجرة إلى العالم الجديد، بعدما فرضت السلطنة العثمانية وجمعية تركيا الفتاة الخدمة العسكرية على المسيحيين في عام 1907".

توسعت سليم في الحديث عن الإرساليات الكاثوليكية، فذكرت أنها توجهت إلى الشرق وكثفت نشاطها فيه بغية "التعويض عن الخسارات التي أحدثتها انشقاقات الجماعات البروتستنتية في الغرب، وتوجهت أولى البعثات الكاثوليكية إلى الموارنة في لبنان لإصلاح طقوسهم وتقريبهم من القواعد اللاتينية". ثم شرحت المحاضِرة دور البعثات البروتستانتية والكاثوليكية اليسوعية في إنشاء أولى المطابع في بيروت وجبل لبنان.

وعرضت الباحثة التنافس الكبير بين البعثات البروتستنتية والكاثوليكية (اليسوعيين) على جذب أبناء السكان المحليين إلى مدارسها، بغية "تعريف الناس بعقائدها" المتباينة، وخصوصًا عبر "إنشاء مدارس لتعليم البنات". ثم تطرقت إلى نشاط البعثات الروسية الأرثوذوكسية وتوجهها إلى "الأراضي المقدسة في فلسطين"، ثم إلى بيروت. ولاحظت سليم تركيز مدارس هذه البعثات على "تحديث وسائل تعليم اللغة العربية، وترجمة المؤلفات الروسية، وعلى المساهمة في دعم الانتماء العربي". وهذا ما ساهم في "انتخاب بطريرك عربي في عام 1899 للكرسي الانطاكي في دمشق".

الحقوق في مدرسة كفتين

كانت المداخلة الثانية للدكتور سيمون عبد المسيح، الدكتور في التاريخ والأستاذ في كلية التربية بالجامعة اللبنانية، تناول فيها مدرسة كفتين الوطنية (1881) في منطقة الكورة في جبل لبنان، والناشئة عن تعاون الكنيسة الأرثوذوكسية ومع وجهاء الطائفة وأغنيائها في طرابلس. فركز الباحث على دور هذه المدرسة في "النهضة التعليمية والتربوية في الكورة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر"، وفي "إعداد الجسم الحقوقي في إطار التنظيمات العثمانية"، وبروز عمل القضاء والمحاكم المدنية الحديثة.

في صلب مداخلته، عرض عبد المسيح دور مدرسة كفتين في تعليم مواد حقوقية وقضائية لإعداد خريجها للعمل في السلكين القضائي والإداري الناشئين في زمن الإصلاحات الدستورية العثمانية. ثم ركز على دور المطران صفرونيوس النجار ووجهاء الطائفة الأرثوذوكسية في طرابلس والكورة في إنشاء المدرسة وتطويرها "بدعم روسي- يوناني"، في مواجهة المدارس البروتستانتية" الأميركية والبريطانية.

كان للإصلاحات العثمانية الدستورية والإدارية والقضائية دور بارز - بحسب عبد المسيح - في توجه المدرسة التعليمي، لإعداد متعلمين يتولون شؤون القضاء والعمل الإداري في منطقة الكورة نفسها. وقد دعم وجهة نظره هذه بحديثه عن أنواع خريجي المدرسة وانخراطهم المتواتر في العمل القضائي والإداري في المنطقة وفي لبنان عامة. وهذا ما قاد الباحث إلى تقصي شؤون العمل القضائي وعمل المحاكم في متصرفية جبل لبنان وفي مدينة طرابلس، للوقوف على "العلاقة بين مدرسة كفتين الوطنية والعمل القضائي والعدالة"، عبر رصد خريجي المدرسة وعملهم في السلك القضائي.

إستباق الحداثة التربوية

المداخلة الأخيرة للدكتور إيلي ضناوي، الأستاذ المشارك ومدير مركز الإنسانيّات الرقميّة في جامعة البلمند، تناولت "الوضع التربوي في المدارس الوطنية بين الدستورين العثمانيين"، واتخذت من مدرسة كفتين الوطنية نفسها في الكورة، أنموذجًا للتقصي والدرس ما بين عامي 1881 و1914.

رأى ضناوي أن مطلع القرن العشرين شكل "نقطة تحول في تاريخ التربية، ارتبطت بالنظريات التي عرفتها العلوم التربوية والنفسية والاجتماعية". لكنه تساءل: "كيف كانت التربية قبل القرن العشرين؟"، تمهيد لتقصي اتجاهات التحول المستجد.

ضيّق الباحث منظاره "لضرورات منهجية" تمكنه من فتح "آفاق أرحب" للبحث، فتناول مادة كتيب خريجي مدرسة كفتين وجوائزها للمتفوقين في عام 1887، فاستنتج أنه يركز على "النظريات التربوية الحديثة، وأهميتها في تنمية مهارات الطالب وبناء شخصيته الفردية والمعرفية".

لاحظ ضناوي أن مدرسة كفتين الوطنية الأرثوذوكسية "أدركت منذ أواخر القرن التاسع عشر أهمية المهارات "العابرة"، فعملت على مساعدة الطلاب في تطويرها". لذا ركزت على مواد "الإنشاء والخطابة والمباحثات (الندوات) العلمية، فأنشأت لذلك جمعيات تضم المدرسين والطلاب معًا". وذلك بهدف تعويد أعضاء هذه الجمعيات، وخصوصًا الطلاب، على "بسط الكلام وحسن اللفظ في التكلم الارتجالي". أما اللافت في تلك المدرسة، بحسب الباحث، "إدخالها النشاطات اللاصفية" في برامجها التربوية. وفي في عام 1883، أطلقت مدرسة كفتين مجلتها لُباب الألباب، وهي جريدة مدرسية لنشر إنجازات الطلاب وأعمالهم الكتابية.

خلص ضناوي إلى أن مدرسة كفتين "عاشت بعضًا مما أخبرتنا عنه النظريات التربوية في القرن العشرين، فساهمت في توطيد فهمنا للبعد الإنساني في التربية".