بدون عنوان

انطلقت اليوم (السبت 12 آذار/ مارس 2016) أعمال المؤتمر السنوي الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي ينظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ويناقش موضوعين رئيسين هما: "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر"، و"المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة".


"المستبد العادل" خرافة،
والحرية أسبق من العدل

من الجلسة الافتتاحية للمؤتمر

في محاضرة تأسيسية في موضوع الحرية وبعنوان "أسئلة الحرية: هنا ... الآن"، أكّد المفكر والكاتب فهمي جدعان أنّ "الحرية" وأسئلتها لا تزال مثار نقاشٍ كبيرٍ على مختلف الصعد بين المفكرين والفلاسفة والسياسيين. وقدّم، من وجهة نظره، خمسة أسئلةٍ رئيسةٍ تستحثها "الحرية" اليوم في واقعنا العربي. ونبّه في البداية إلى أنه يتجاوز الأسئلة التي يرى أنها خارج السياق الراهن في طرحها؛ ومنها مسألة الرق والعبودية مثلًا التي ترتبط بتاريخ الرق والنخاسة التي أصبحت محرمة في القوانين الحديثة جميعها، غير أنه استدرك بأنّ لهذه المسألة أوجهًا أخرى ليست "خارج السياق"؛ إذ يرى أنّ "الرق والاستعباد ما زال ماثلًا في مواطن عدة من العالم في العمالة الرخيصة التي لا تختلف عن الرق التقليدي إلا بدرجة، أو إلحاق المرة أة بالرجل والحجر عليها، أو الاتجار بالأعضاء البشرية". وقال إنّ هناك رقًا "جماعيًا" لا يزال حيًا في طائفة النظم الاستبدادية الدينية أو الفاشية أو الاستعمارية التي تصادر حريات شعوب بأكملها، وليس أدل على ذلك من الحالة الفلسطينية.

وبالعودة إلى أسئلة الحرية الرئيسة الراهنة "هنا ... الآن، في زمننا المباشر"، يرى جدعان أنّ أول الأسئلة إلحاحًا هو سؤال "الاستبداد"، ويرى أنّ استبداد الدولة الوطنية العربية إرثٌ تاريخيٌ ضاربٌ في الوقائع التاريخية، ووجد له مسوغات في الثقافة العربية – الإسلامية، وقد وصّفه الكواكبي في طبائع الاستبداد بداية بتحوّل الخلافة الإسلامية إلى "الملك العَضود" الذي وجد له لدى فقهاء السياسة الشرعية السند الديني بإلزامية الطاعة وتحريم الخروج على الحاكم، واستمر ذلك طوال قرون الخلافة إلى منتهاها على يد العثمانيين، وبعد ذلك نشأت الدولة الوطنية العربية مستندة إلى استبداد بمرجعية مدنية أو علمانية حديثة.

فهمي جدعان

وفي مسألة مرتبطة بنشأة الاستبداد في الدولة العربية أيضًا، طرح فهمي جدعان سؤال "الحرية والعدالة"، وخلص من دون أي ترددٍ إلى رفض مقولة السلطان المستبد العادل التي قامت عليها فكرة السلطة والحكم في المجتمعات العربية منذ عهد الخلافة الإسلامية. وقال إنّ الحرية أسبق من العدل، وأنه لا وجود لطاغية عادل لأنّ العدل لا يحتمل أن يجتمع مع نقيضه "الاستبداد"، فالاستبداد ينقض الحرية، والحرية حق طبيعي أساسي لا يمكن لمبدأ العدل أن ينكره.

وانتقل المحاضر بعدها إلى طرح سؤال "الحرية الدينية"، مناقشًا التراث الفقهي والفكري الإسلامي، وكيف تطور في مسألة حرية الاعتقاد التي جاءت صريحة في العديد من آيات القرآن الكريم، إلا أنّ الإجماع الفقهي أثبت حكم القتل للمرتد، قبل أن يأتي كثيرٌ من المفكرين المسلمين المعاصرين لنقض هذا الحكم.

ورأى جدعان أنّ السؤال الرابع الراهن في حقل الحرية يتعلق بحرية التعبير؛ وهو المجال الذي يشهد أبرز مظاهر الاستبداد والتضييق، من ملاحقة حق التعبير والرأي، والخوف من الحرية بالتضييق عليها أو قهرها أو ممارسة العنف في حقها، بدواعي الدفاع عن النظام السياسي أو المقدس الديني أو النسق الاجتماعي. ويستدرك المحاضر أنّ حرية التعبير يجب ألا تكون حقًا مطلقًا جذريًا، فكما لا يمكن تسويغ الإرهاب السياسي أو الديني الذي يلحق بحرية التعبير، فلا يمكن أبدًا القبول بالإساءات المادية والمعنوية والنفسية بمشاعر الآخرين ومعتقداتهم.

وكان آخر سؤال طرحه الدكتور فهمي جدعان في محاضرته عن أسئلة الحرية الراهنة في السياق العربي هو سؤال "الحرية والتعددية والاعتراف"، وهو في جانب منه سؤال حرية الهويات التي تتفجّر وتطالب بحقوقها. وأكد ضرورة أن تراعي الدول العربية حقوق الأقليات التي تعيش فيها.


"التمدين" في كل أحواله و"الحرية" في الفكر العربي

إحدى جلسات المؤتمر

وشهد المؤتمر السنوي الخامس للعلوم الاجتماعية والإنسانية في يومه الأول أربع جلسات في كل واحدٍ من موضوعاته الرئيسة؛ ففي موضوع "سؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر" قدّم المشاركون في الجلستين الأوليين عروضًا تحليلية ونقدية عن الحرية في الإنتاج الفكري والفلسفي العربي المعاصر. ونوقشت من خلالها أفكار حسن حنفي وراشد الغنوشي والمنصف المرزوقي وطروحاتهم، مثلما جرى تناول مفهوم الحرية في الفكر الفلسفي العربي عمومًا. وتناولت الجلسة الثالثة في هذا الموضوع مفهوم الليبرالية والنزعة الليبرالية في المقاربات الفكرية العربية الحديثة للحرية. وخصصت الجلسة الرابعة لمناقشة البيئة الثقافية والاجتماعية والسياسية العربية وتأثيرها في الحرية، وتناولت إحدى أوراق هذه الجلسة حرية المرأة في المغرب في ضوء الجدل بين المرجعية الإسلامية والمواثيق الدولية.

أما في الموضوع الثاني للمؤتمر الخاص بـ"المدينة العربية: تحديات التمدين في مجتمعات متحولة"، فقد ركزت أوراق الباحثين في الجلسة الأولى على مناقشة إشكاليات التمدين والاندماج والاغتراب، وذهبت أغلبية الأوراق في اتجاه ينتقد السلبيات العديدة لمسار التمدين في الدول العربية والآثار الاجتماعية والثقافية لهذه السيرورة المشوّهة. وناقشت الأوراق المقدمة في الجلستين الثانية والثالثة في موضوع المدينة العربية قيمة الجوار في المدينة العربية المعاصرة وكيف تأثرت بنمط العمران والتمدين الذي تأسست عليه مدن جديدة. وقدّم باحثٌ موريتاني تحليلًا لوضع مدينة نواكشوط التي تعد ثاني أكبر المدن الأفريقية من دون أن تستجيب في تكوينها وتوسعها لأي من معايير التمدين الحديثة. وقدّم باحث مغربي ورقةً عن أشكال الإقصاء والتهميش في مدينة فاس المغربية، وحللت ورقة أخرى أزمة التحضر في المدينة العربية من خلال مقاربة سوسيو-مجالية في علاقة العشوائيات الحضرية بالهجرات القبلية. وعرض الباحث المصري هاني خميس نمطًا آخر من المدن في المشهد العربي وهو ما سماه "المدن المسيّجة" للفئات الغنية والقسم الأعلى للطبقة الوسطى؛ وهي المدن التي تتعدى منطق النمو الحضري إلى منطق "المكانة الاجتماعية". وأخذت الجلسة الرابعة في موضوع "المدينة العربية" طابعًا تقنيًا؛ إذ طرحت أوراق الباحثين المشاركين فيها حوكمة المدن والمخططات التنظيمية للمدن العربية.


برنامج ثري يُختتم بتوزيع الجائزة العربية

ويضم برنامج المؤتمر، الذي يستمر ثلاثة أيام، محاضرةً رئيسة يلقيها في اليوم الثاني الدكتور عزمي بشارة، فيما يقدّم الدكتور عبد الرحمن رشيق محاضرةً رئيسة أيضًا في اليوم الثالث. ويحضر المؤتمر عددٌ من الضيوف المميزين من الباحثين والأكاديميين العرب.

وخلال جلسات المؤتمر، يقدم نحو 61 باحثًا عربيًا أوراقًا بحثيةً. ويشهد اليوم الأخير حفل توزيع جوائز "الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية" التي تنافس فيها باحثون من مختلف الدول العربية ضمن الموضوعين المختارين للمؤتمر ذاتهما.

وأصبح المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي ينظمه المركز العربي بعد أربع دورات سابقة، أحد أهم المواعيد السنوية بالنسبة إلى الباحثين والدارسين في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويوفر المؤتمر منصةً متفردةً للوقوف على تطورات البحث واتجاهاته في العلوم الاجتماعية والإنسانية. ويشمل برنامجه مساهمات باحثين من 13 بلدًا عربيًا، هي: مصر، المغرب، الجزائر، قطر، سورية، السودان، تونس، فلسطين، لبنان، السعودية، الكويت، العراق، موريتانيا. ويسجل الباحثون الشباب حضورًا لافتًا في المساهمة بأوراق بحثية في المؤتمر، كما يقدم أساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا مساهمات نوعية أيضًا.

وكان المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات قد خصّص مؤتمره السنوي الأول للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي عقد في الدوحة في آذار/ مارس 2012 لموضوعي: "الهوية واللغة في الوطن العربي" و"من النمو المعاق إلى التنمية المستدامة: أي سياسات اقتصادية واجتماعية للأقطار العربية؟"، وفي الدورة الثانية في عام 2013 في الدوحة اختار المركز العربي مناقشة موضوعي: "جدليّة الاندماج الاجتماعي وبناء الدّولة والأمّة في الوطن العربيّ"، و"ما العدالة في الوطن العربيّ اليوم؟"، وعقد المركز المؤتمر السنوي الثالث للعلوم الاجتماعية والإنسانية في تونس في عام 2014، وناقش موضوعي: "أطوار التاريخ الانتقالية، مآل الثورات العربيّة" و"السياسات التنموية وتحدّيات الثورة في الأقطار العربيّة". واحتضنت مدينة مراكش في المغرب الدورة الرابعة من المؤتمر وتناولت موضوعي "أدوار المثقفين في التحوّلات التاريخية" و"الجامعات والبحث العلمي في العالم العربي".