بدون عنوان

إحدى جلسات اليوم الأول من الندوة

افتتح اليوم، الخميس 21 كانون الثاني / يناير، في الجامعة الأميركية ببيروت، وبالتعاون بين معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مؤتمر: "خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته"، الذي يستمر ثلاثة أيام وتشارك فيه نخبة من الباحثين العرب والأجانب، في محاضرات وجلسات بحثية متعددة، فضلًا عن حلقة نقاشية مع شخصيات شابة ساهمت في الثورات.

ألقى كلمتي الافتتاح كل من طارق متري عن معهد عصام فارس ومحمد المصري عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. أشار متري إلى أهمية نقاش تعريفات التحول الديمقراطي والتباساته وسياقاته في بلدان متميزة، وصفها بأنها تضفي صفة الموروث على الحديث. كما أوضح سعي المؤتمر إلى تعزيز روح التأمل الهادئ في دوافع التحول والعوائق التي وضعت في طريقه، ولاحظ أن الأوراق لم تجازف في الحديث عن المآلات وحاذرت أن تقع في "القراءة القيامية" لاضطرابات لم ينجل غبارها، على الرغم من أن هذه الأوراق لم تخف انحيازها للثورات. ونبّه متري إلى ما في برنامج المؤتمر من أولوية للداخلي والإقليمي على الدولي، دحضًا للمزاعم بأن مصائرنا يصنعها الآخرون، "فمعظم الأوراق ينكب على فهم أوضاع بلداننا في جوانب ثلاثة، هي: ما خلفه الاستبداد من خراب وعنف، والمشكلات البنيوية في بلداننا خصوصًا تأجيج العصبيات دون الوطنية، وإدارة المرحلة الانتقالية نفسها".

طارق متري ومحمد المصري في افتتاح الندوة

أما محمد المصري فقال إن عام 2011 كان تاريخيًا، "إذ أطاح مقولات الركود والاستثناء وعدم انخراط الأجيال الجديدة وسواها الكثير من الموروثات والمسلمات". كما أشار إلى أن الثورات العربية أذهلت العالم والمراقبين والسياسيين في رقيّها ونجاح سلميتها - في أكثر من موضع - في إدخال الأنظمة في مأزق وتحقيق أهداف المواطنين، على الرغم من بعض الفشل الناجم عن عنف الأنظمة المفرط. ورأى المصري أن عقد المؤتمر تأكيد على أن مرحلة تاريخية جديدة في طور التأسيس من منطلق الانحياز للانسان ورقيه وسيادته، ومن منطلق دولة المواطنة وحق المواطن في الحرية والرفاه والاستقرار.

وقدّم المصري عرضًا سريعًا عن نتائج المؤشر العربي لعام 2015. وكشف أن أغلبية الرأي العالم العربي لا تزال تؤيد الثورة رغم تدني نسبة التأييد مع مرور الأعوام، وأن الرأي العام العربي يرى أسبابًا متعددة للثورات، بتعدد المستجوبين.

ولفت المصري إلى أن تدني نسبة تأييد الثورة بعد مرور 5 سنوات تتصف بتركز هذا التقويم السلبي عند الفئات العمرية المتقدمة، في حين يتركز التقويم الإيجابي بازدياد التعليم وفي الريف قياسًا بالمدن. ولفت أيضًا إلى أن هذا التقويم السلبي لم يمنع المواطنين من أن يكونوا متفائلين، ويروا أن الربيع العربي يمر بحالة تعثر، وسيحقق أهدافه في نهاية المطاف، وأن أسباب هذا التعثر تتوزع على التدهور الأمني والتدخل الخارجي والتدهور الاقتصادي والحركات المتطرفة وفلول الأنظمة وسلوك الاسلام السياسي والعلمانيين.


إعادة قراءة

بعد الافتتاح، جرت جلستان متوازيتان، الأولى هي الحلقة الأولى من عنوان "الثورات العربية بعد 5 سنوات؛ إعادة قراءة وطرح أسئلة"، فيما جاءت الثانية بعنوان "حركات الاحتجاج في سياق الثورة العربية".

ترأس الجلسة الأولى وجيه كوثراني، وقدّم فيها الباحث مولدي الأحمر دراسة بعنوان "الثورة التونسية والتحوّل الآخر: الموارد والاعتبارات والقيم"، قارن فيها بين مفهوم الحالة الانتقالية في الكيمياء والعلوم السياسية. ففي الكيمياء، يشير هذا المصطلح إلى سلسلة عمليات تسير سببيًا مفضية إلى وضعية جديدة إيجابية لا تترك إمكانًا لفكرة التراجع. أما في العلوم السياسية، فثمة احتمالات للنكوص والثورة المضادة، واحتمال ألا تؤدي الحالة الانتقالية إلى الديمقراطية، واحتمال قيام حالة كيفية جديدة. ورأى المولدي أن البحوث التي تتناول الحالة الانتقالة أقرب إلى الغوص النظري لا الاجتماعي، بحيث تفقد حالة منهجية هي حلقة التفكير بالانتقال في حد ذاته، بخلاف الوضعية التي يتم الانطلاق منها والوضعية التي يتم التوصل إليها.

وكان بحث المولدي في الحقيقة حصيلة بحث ميداني أجراه في 2012 في المناطق التي انطلقت منها الثورة التونسية. وتوصل إلى قراءة معاني مفهوم الانتقال وأزمنته.

جاءت المساهمة الثانية من دينا الشرنوبي من مصر، بعنوان "ثورة مصر وأثرها في تكوين ذوات شابة جديدة". وعرضت مراحل استيقاظ الشباب على السياسة في مصر، وبداية أول حركة شبابية مستقلة في 2008، بينما كانوا قبل ذلك يلتحقون بأحزاب الكهول.

جاءت المداخلة الثالثة بعنوان: "الربيع العربي والتحول الديمقراطي: ملاحظات حول التجربة الليبية"، لمصطفى التير، عرض فيها تطورات ما جرى في ليبيا من خروج الشباب ثم الكبار، ورد النظام العنيف على نحو يختلف عن تونس ومصر، مع إشارة إلى أن الثورة الليبية لم تكن صناعة ليبية خالصة.

وأشار التير إلى أن القمع أدى إلى عكس المرجو منه، إذ ازداد اشتعال الانتفاضة، لافتًا إلى دور الجزيرة ودور القوات الدولية وإلى ما تكوّن بعد انتهاء الحرب من جمعيات مجتمع مدني قبل نشر قانون ينظم هذا المجال، وإلى انتشار الكيانات السياسية بأسماء متقاربة وأحزاب مغرقة في محليتها من دون أيديولوجيا تميزها من غيرها.

كانت خاتمة الجلسة مع حمزة المصطفى، بمداخلة عنوانها: "الثورة السورية من المدنية إلى النزاع المسلح"، أشار فيها إلى حيرة المراقب في توصيف حصيلة 5 سنوات من الثورة السورية، حيث نجد أنفسنا أمام نظرات عديدة إلى الحدث، وكل له ما يبرره. فثمة من يراها ثورة، ومن يراها حربًا أهلية طائفية، وأزمة جهادية، وساحة صراع إقليمي مع تدخلات مباشرة، وأزمة دولية ذات شقين، أولهما اللجوء والثاني التدخل العسكري.

تساءل المصطفى: ما العوامل التي أوصلت الثورة إلى هنا وجعلتها ثورة بلا منجز، على الرغم من استمرارها؟ بمعنى آخر، كيف نوصف انتقال الثورة السورية من السلمية إلى المسلحة؟ وعرض إلى عدد من محاولات الاجابة، كالمحاولة الأنثروبولوجية التي تجد الثورة السورية ثورة أرياف وفقراء مهمشين، تقطع الطريق على المدينة بالعنف، ما يجعل التمرد سببًا للعنف والسلاح، والمحاولة التي ترد هذا التحول إلى عنف النظام المفرط، الذي يماهي بينه والدولة، وبينه وفئات من المجتمع، ما يجعل إسقاطه يعني تفكيكًا للمجتمع وإسقاطًا للدولة.

ورأى الباحث أن استخدام عنف سياسي يستبطن العنف الطائفي كان سياسة اتبعها النظام طلبًا لمزيد من العنف والتمرد المسلح، الذي يؤدي إلى الزج بالجيش ويبرره. ورأى أن النظام هو المسؤول الحقيقي والأول عن العنف، على الرغم من وجود أسباب عدة أخرى، مثل النخب المعارضة المأزومة، وعدم ردع النظام بتدخل خارجي، وغياب سلطة الدولة عن كثير من المناطق وما أثاره ذلك من فوضى وعمليات إجرامية.

أما الجلسة الثانية الموازية، فقد رئستها مارلين نصر، تحدث فيها حيدر سعيد من العراق عن "حركات الاحتجاج في عراق ما بعد الاستبداد: تحدي الدولتية"، متابعًا موجات الحركة الاحتجاجية التي اندلعت في العراق بعد الاحتلال الأميركي وسقوط نظام صدام حسين في عام 2003، وأهمها تظاهرات 17 و25 شباط/فبراير 2011 في السليمانية وبغداد على التوالي، ثم في مدن أخرى كثيرة، تأثرًا بالربيع العربي. رفعت هذه التظاهرات شعارات "إصلاح النظام"، و"إنهاء المحاصصة"، و"القضاء على الفساد"، والتظاهرات التي اندلعت في بغداد ومدن الجنوب صيف 2015، وطالبت بالإصلاح السياسي. قال سعيد إن هاتين الموجتين هما الأهم؛ لأن باقي الموجات غلب عليها الطابع المطلبي، وحركة الاحتجاج في المحافظات السنية (2012 - 2013) كانت جزءًا من سجال الهويات في مجتمعٍ متعدد ومنقسم، مع أنها رفعت شعارات الإصلاح السياسي.

بحسب سعيد، تنجح حركات الاحتجاج في إحداث تغيير سياسي في حال نجح المكون السياسي، الذي ينادي عادةً بالحريات السياسية والديمقراطية وتداول السلطة، بدمج المكون المطلبي داخله. فنجاح ثورتَي تونس ومصر تحقق بسبب النجاح في دمج هذين المكونين، وهذا ما لم ينجح فيه ناشطو المكون السياسي في الحركة الاحتجاجية في العراق.

وفي دراسة الخوف من التغيير السياسي في الجزائر، حاول عبد الناصر جابي معرفة الصعوبات التي تواجه التغيير السياسي في الحالة الجزائرية التي عرفت كيف تتجنّب موجات التغيير العربي العاتية في سنة 2011، "وهي الصعوبات التي كانت حاضرة كذلك قبل هذا التاريخ بمناسبة أحداث أكتوبر 1988، والتي أنتجت نوعًا من التغيير في واجهة النظام السياسي، من دون المس بالدولة العميقة التي بقيت بعيدةً عن تأثير هذه الأحداث التي أنجزت، على الرغم من ذلك نوعًا من التعددية الحزبية والإعلامية، وفتحت مجال العمل الاقتصادي الحرّ بدل الخيار "الاشتراكي" الذي كان سائدًا، من دون أن تمسّ أساسيات قواعد اللعبة السياسية الأساسية التي بقيت من دون تغيير، ما جعل الحالة الجزائرية تبدو حالة مستعصية مقارنةً مع محيطها المغاربي، حالة لم تفلح معها الأدوات المعروفة للتغيير؛ كالانتخابات والهزّات القوية نسبيًا التي كانت وراءها الحركات الاجتماعية الاحتجاجية".

ويقول جابي إن 700 ألف جزائري خرجوا في تظاهرات احتجاجية في 2015، لكن النظام كان عصيًا على التغيير من الداخل، والضغط الخارجي فشل في إحداث التغيير المأمول، كما فشلت الآليات التقليدية في التغيير، لأن الدولة العميقة موجودة وقوية. ورأى أن الإسلاميين في الجزائر مختلفون عن الاخوان المسلمين، لأنهم في الأساس حركات إجتماعية، وأن الخوف من التغيير تحول مع الربيع العربي إلى تخويف من التغيير.

وتناول الدكتور عبد الهادي العجمي من الكويت، في ورقته "الحراك الكويتي والربيع العربي - ديناميك الإيحاء الجمعي والخروج من البراغماتية"، مدى تأثّر الكويت بالإيحاء الجمعي لحراك دول الربيع العربي، وأسبقية الحراك الكويتي على حالة الربيع العربي. وقدم في ورقته فرضية أنّ الحراك السياسي في الكويت خسر الكثير على المستوى الفعلي والواقعي، نتيجة لآثار الربيع العربي الإيحائية التي قادت إلى ارتفاع سقف المطالب مدعومة في فترة من الفترات بالنجاحات التي يحقّقها الربيع العربي. لكنّها اليوم ومع ما تعانيه دول الربيع، وجدت نفسها في مواجهة أمام ما تملكه من قدرات واقعية؛ فقوة السلطة، وموجة الثورة المضادة للربيع العربي في العالم العربي، أنتجتا مشهدًا بدت فيه المعارضة عاجزة عن خلق واقعٍ جديد أو بديل يعيد إليها ما فقدته".

وقال العجمي إن العقل الجمعي الكويتي تحرر من قيود السلطة التي كانت مقتنعة بأن الربيع العربي لن يمر في الكويت.

وختامًا، تناولت كارمن جحا من لبنان في ورقتها "أخطبوط الطائفية: ديناميكيات التعبئة والشرذمة في نظام تقاسم المحاصصة الطائفية اللبناني"، التحديات التي تعترض التعبئة الجماهيرية في مواجهة حركات الاحتجاج غير الحزبية؛ أي الحركات التي لا تقودها أو تنظمها الأحزاب أو الائتلافات السياسية. وتقوم من خلال ذلك بعرض نتائج دراستين لحالتين عيانيتين.

وبحسبها، جرت الحالة الأولى في عام 2011، واستمرت ثلاثة أيام في شهري شباط/فبراير وآذار/مارس، وتبنّت شعار إسقاط النظام الطائفي. وشكّلت الحالة الثانية أحدث محاولات مجموعات المواطنين تنظيم احتجاجات تتذمّر من أزمة القمامة وتطالب بالإصلاح السياسي الفوري، قادتها حركة "طلعت ريحتكن".

وقالت جحا إن القادة السياسيين في لبنان يستخدمون نظام تقاسم السلطة للحؤول دون تعبئة الجماهير خارج الأطر الحزبية، وإن المؤسسات الرسمية اللبنانية ضعيفة نتيجة غياب سلطة القضاء والمحاسبة، وحضور الزعماء القوي، وإن الحركات الشعبية خاضعة لمجموعات سياسية تحركها من خلف الستار.

 

شهدت أعمال المؤتمر في الفترة المسائية من يومه الأول جلستين متوازيتين، أولاهما بعنوان "الثورات العربية بعد 5 سنوات: إعادة قراءة وطرح أسئلة"، برئاسة مهى يحيى، تناول فيها حفيظ هروس من المغرب، في مداخلته "سجال الهوية وأثره في عسر الانتقال الديمقراطي في المرحلة الانتقالية - حالتا مصر وتونس: دراسة مقارنة"، مآلات الحراك العربي بعد مرور خمس سنوات على انطلاقه، فوجدها محيِّرة، إذ آل بعضها إلى صراعات داخلية أهلية، أو قبلية، أو طائفية، "بينما نجحت التجربة التونسية في تحقيق قدرٍ من الانفراج نحو تحقيق التحول الديمقراطي، وانتهى الوضع في التجربة المصرية إلى الانقلاب على التجربة الديمقراطية الوليدة والتقهقر إلى عهد التسلط والاستبداد".

وتحدث هروس عن تأثير التوافق الوطني أو غيابه في نجاح المرحلة الانتقالية أو فشلها من خلال التركيز على قضية سجال الهوية العلماني/الإسلامي عن طريق المقارنة بين تجربتين مختلفتين، شهدت إحداهما انفراجًا نسبيًا نحو الاستقرار والتحول الديمقراطي، وهي التجربة التونسية، بينما عرفت التجربة الأخرى انتكاسًا مريرًا نحو الاستبداد والتسلط، وهي التجربة المصرية، وقال: "قدرة هذا الحراك على إسقاط رؤوس الكثير من الأنظمة المستبدة أسفرت عن انفراجات سياسية مهمة أدّت إلى تفتق اللحمة الوطنية وانقسام الكتلة التاريخية على أسس أيديولوجية خلقت استقطابات حادة، خصوصًا بين الأطراف العلمانية والأطراف الإسلامية".

وقدمت ليندا مطر ورقة بعنوان "سورية: السياسات الاقتصادية في زمن الصراعات"، فرأت أن الحرب مزقت الاقتصاد السوري من دون أي بوادر لحل سياسي، مع عدوانية عسكرية متصاعدة. وأدت المخاطر العالية وعدم اليقين اللذان يرخيان بظلالهما على الاقتصاد السوري إلى صعوبة تنفيذ الحكومة السورية أي نشاط أو تعامل اقتصادي بيسر وعلى نحو مجدٍ كما في الظروف الطبيعية. وتدرس هذه الورقة الاقتصاد السوري في ظل الأزمة، وتبحث في السياسات الاقتصادية الكلية في أوقات الصراع. ونظرًا إلى لأزمة الإنسانية الهائلة التي تعدّ ربما إحدى أسوأ الأزمات في التاريخ الحديث، تمّ تكريس أولويات الحكومة طوال السنوات الخمس الماضية، لضمان إمدادات الغذاء والدواء وغيرها من الضروريات للمواطنين الذين يقيمون في مناطق ما زالت تحت سيطرة نظام الأسد.

وقالت إن النزاع السوري يحتاج إلى تفاهم دولي قبل التفاهم المحلي، وقد أجبرت الحكومة السورية على الاعتماد على التجار المحليين في مجال النفط في العامين الأولين ما أدى إلى ضغط على العملة المحلية مقابل ارتفاع الطلب على العملة الأجنبية لا سيما في الأسواق السوداء، "وفي الواقع هناك حاجة لأن يكون هناك وقف دولي لتمويل الحرب وإعادة ترشيد وصول الموارد المالية لأن ذلك يساعد على التخفيف من حدة النزاع والنزعة إلى إضرام الحرب".

وفي مداخلة بعنوان "ثورة وإعادة انبعاث في سورية"، قالت ويندي بيرلمان إن التعريفات التقليدية بين الثورة واستبدال الشعب تساوي نظامًا سياسيًا معيّنًا بآخر، لكن هذا المنظور قلل من قيمة ركائز الهيمنة النفسية والثقافية والعاطفية.

وأضافت: "عانى الكثير من السوريين من نظامي حافظ وبشار الأسد مما دفعهم نحو الخوف. وكانت أولى الخطوات التي قام بها المواطنون السوريون هي كسر حاجز الخوف، والمشاركة في التظاهرات جعلت السوريين يشعرون بأنه لا يمكن كتم أفواههم بعد الآن وتمكنت كلماتهم من نقل أفكار ومشاعر تصف هذه الولادة الجديدة".

وحللت بيرلمان مقابلات أجريت مع سوريين يصفون التغلب على الخوف والمشاركة في الاحتجاج نوعًا من الولادة الجديدة، فترى أن الاحتجاج الجماهيري في سورية كان ثوريًا، لأنه ميّز رفض الشعب لأداء دور المواطنين الخانعين الذي روّج له النظام الاستبدادي وطالب به. ويواجه هذا التحليل الإنساني للانتفاضات العربية أولئك الذين يقيسون نجاحها في المقام الأول بدرجة إرساء الديمقراطية، "فحتى لو استمرت مظاهر الاستبداد، فإنّ توقّعات المواطنين لما يعني أن يُحكموا تغيّرت جذريًّا، ويجب أن نهتمّ، أثناء إجراء جردة حساب لهذه الثورات، بالتحولات في العنصر المجتمعي للعلاقات بين الدولة والمجتمع"، كما قالت.

وجاءت الجلسة الثانية "الاتصالات والإعلام والثورات العربية"، أدارها وليد نويهض، وشارك فيها عمر البزري بمداخلة عنوانها "أي دور للعلوم والتكنولوجيا والابتكار في بلدان الربيع العربي؟ أي ملجأ بعد فشل الخطط القديمة؟"، قدم فيها أطروحات عدة، أولها التسليم بسوء أوضاع الشعوب في بلداننا، وثانيها أن أحد الأسباب الرئيسة لذلك هو الفشل الفادح في نقل واستخدام وتوطين المعارف، خصوصًا العلمية والتكنولوجية، وثالثها أن الاحتجاجات في سورية بدأت في الجزيرة خصوصًا بسبب الجفاف الشديد على مدى سنوات، والتي رافقته ملوحة الأرض، ما أدى إلى تعطيل عدد كبير من المشروعات الزراعية، الأمر الذي أحدث هجرة إلى حواشي المدن الكبيرة، وانهيار شبكة الدعم الاجتماعي، ما أدى إلى زيادة استعداد الشباب للتسلح مقابل المال، ما يعني صلةً متينة بين المعرفة وما نعانيه اليوم، ويمكن أن نعانيه في المستقبل.

أما اللازمة التي تنتج عن الأطروحات السابقة، كما يرى البزري، فهي تلازم الفقر المعرفي مع تنامي واستشراء الاقتصاد والثقافة الريعيين، وسياسة تنمية عاجزة عن التماشي مع العولمة، الأمر الذي كان له أثر فادح في اقتصادات ومجتمعات المنطقة.

وأتت المداخلة الثانية بعنوان "تطور الإعلام حول سورية: الوجه المزدوج للمساعدات الخارجية"، قدمتها بيلي جاين براونلي، وتناولت فيها، بالإشارة إلى سورية، ما يعنيه التطور الإعلامي، وكيف جرت مساعدة التطور الإعلامي في الشرق الأوسط من الخارج، وبنية المعونة الإعلامية التي قدمت في سورية وبخصوصها، وذلك في محاولة للإجابة عن أسئلة تتعلق بما جرى في سورية من تحولات، وما إذا كانت المساعدة الخارجية في المجال الإعلامي ساعدت في صناعة الانتفاضة في سورية.

وقدمت سالي حمارنة مداخلة بعنوان "ظاهرة التواصل الجماهيري في الحواضر العربية: الوسائل والتحديات"، تناولت فيها الربيع العربي بوصفه ظاهرة تواصل جماهيري متبادلة، مثلها نزول الشباب إلى الشوارع بأعداد كبيرة. وعرضت لدور الإعلام في نحت البيئة المدينية في التاريخ الحديث، خصوصًا دور الصحافة والبث في خلق الصالونات والمقاهي وإغناء الحياة الاجتماعية العامة، ونشوء الأيديولوجيات الحضرية، واختطاف الحياة الاجتماعية من خلال ظواهر مثل الأوتوستراد وسواه، تلغي الفراغات في المدينة.

وتناولت أيضًا الإنترنت وأثره في العمران والمدينة، كما وصفت خصائص الحياة الاجتماعية الحديثة في الوطن العربي بوصفها حياة أفراد بجغرافيات منفصلة، لدرجة أن الرصيف يكاد يكون الفراغ الوحيد المتروك كمكان عام.

واعتبرت حمارنة الربيع العربي مرحلة مرتبطة بانتهاء مرحلة سيطرة الإعلام الأحادي الجانب، مرحلة بدأت في نهاية الثمانينات مع دخول الساتلايت، ثم الإنترنت ومقاهي الإنترنت، ما يستدعي مزيدًا من تناول أثره في العمران والمدينة.


ديمقراطية يتيمة

وتابع المشاركون في المؤتمر وجمهوره بثًا لمحاضرة غسان سلامة المصورة، الذي لم يتمكن من الحضور، بعنوان "ديمقراطية يتيمة" أشار فيها إلى أنّ هنالك شعور في بلاد العرب أن الديمقراطية يتيمة، تكاد تكون بلا أهل، على الرغم من اتجاه العرب فصيلًا بعد فصيل إلى الدعوة إليها وإدخالها في صلب إعلاناتهم، سواء كانوا شيوعيين أم قوميين أم من الإسلام السياسي.

لكنّ قصة الديمقراطية، كما يوضح سريعًا، ليست قصة تبنٍّ شكلي، بل قصة إقامة مؤسسات ديمقراطية، وليست مجرد طريقة وصول إلى السلطة بل إصرارٌ على العيش في الشرعية الدستورية وتداول السلطة وضمان الحريات. وبذلك تكون هدفًا لا وسيلة، ويكون أهلها قليلين وهامشيين كما كانت على الدوام في بلاد العرب.

قدّم سلامة بعد ذلك نوعًا من السرد التاريخي لحضور الديمقراطية في التاريخ العربي الحديث من العثمانيين وإصلاحاتهم حتى اليوم، مرورًا بإيران ومشروطتها والخديوي إسماعيل ولحظة الليبرالية بعد الاستقلال وانقلابات العسكر وأنظمة الحزب الواحد. وهي مراحل غالبًا ما كان فيها مناصرو الديمقراطية رهطٌ من الوجهاء الذين يقلّدون أوروبا تقليدًا فارغ المضمون. وبهذا المعنى فإنّ أهل الديمقراطية كانوا أقليّة بخلاف أهل القومية أو الإسلام أو الاشتراكية، فما بالك بأهلها في عهد الجمهوريات الوراثية ونُخبها الجديدة باستحواذها الفئوي على الدولة التي باتت إرثًا خاصًّا يُورَّث.

هكذا تراكمت العقبات التي منعت من اللحاق بالموجة الديمقراطية التي بقيت محلّ خوفٍ من الإسلاميين ومحل إرجاءٍ لها بدل أن يكون الإلحاح عليها أهم من المخاوف التي قد تأتي بالإسلاميين إلى سدّة السلطة. وبذلك ربما كان حضور الديمقراطية في المنطقة لا نتيجةَ المطالبة بها بل نتيجة الحاجة إليها لحلّ أزمات قائمة، أي أنها ديمقراطية بلا ديمقراطيين. ديمقراطية بلا أهل. ديمقراطية يتيمة.

وأشار سلامة إلى أنّ الديمقراطية في العالم العربي ما بعد الموجة الديمقراطية لم تتجاوز التبنّي اللفظي وصولًا إلى أواخر 2010 وحلول الربيع العربي. والسؤال هنا هل كان هذا الربيع فرصةً لأن تجد الديمقراطية العربية أهلها؟ هل انتهى يُتمها؟

يرى سلامة أن ثورات الربيع العربي انتقلت من التماثل إلى التمايز في تونس ومصر وليبيا وسورية. ونجده يسارع إلى القول إنه لم يتحدّث عن ربيع بالأمس كي يتحدث عن خريف أو شتاء اليوم. ويقول إن ما يجري قد لا يكون مجرد عِسرٍ في التحوّل الديمقراطي بل اختناق دامٍ له آلاف الأسباب من المال الريعي والطبقة الوسطى وهوية المحتجّين إلى مسلك النخب، ... إلخ. لكنّ كل ما جرى يعزّز من تشديد سلامة على أهمية الديمقراطية بمعناها العميق، معنى الهدف لا الوسيلة. ولذلك نراه يقدّم ما يشبه النصائح لإنجاح الديمقراطية وترسيخها واحترامها في سياق ما يجري الآن، خصوصًا بعدم الخلط بين المراحل وعدم سلقها في صوغ الدستور تحديدا، وفي إطار التمييز بين النظام والدولة، ومن ناحية الإعلاء من شأن أخلاق القادة الانتقاليين كنقيض للفساد والاستبداد الخاويَين من الشرعية، الأمر الذي يكرّس الديمقراطية هدفًا لذاته وبذاته.

وكان ختام اليوم الأول مع الشيخ عبد الفتاح مورو، أحد أبرز وجوه الحركة الإسلامية التونسية، مقدمًا محاضرة بعنوان "من إطاحة الاستبداد إلى حماية التحول الديمقراطي: قراءات في النموذج التونسي". يرى مورو أن خمس سنوات ليست كافية للتقييم، وقال إن الإسلاميين هم أول متهم بالسعي إلى نقل الحراك الشعبي إلى العالم العربي بعد الثورة في إيران، لذا عطّل حراكهم، وما حصل في الجزائر في التسعينيات خوّف الناس من الإسلاميين.

كان للحبيب بورقيبة، بحسب مورو، تاريخ وكاريزما، وهيأ البلد ليتقدم، "لكن حزبه أصبح في ما بعد حزبًا أحاديًا بعد إقصائه اليساريين، وتضاءل تأثيره بظهور طبقة من الشغيلة والطلبة، أظهرها النظام الرأسمالي". وبدأت الحركة الإسلامية في تونس تأخذ موقفًا من القضايا الاجتماعية بعيدًا عن الأنماط العقدية فقط، وصارت القوة الأولى في الجامعة، التي لم يستطع بورقيبة أن يصد أبوابها.

قال مورو: "من إيجابيات حكم بورقيبة أنه استبعد العسكر من الحكم وهو ما أثر في قيام الثورة، ومن إيجابياته أنه استبعد التوريث على الرغم من وجود ابن لبورقيبة، كان وزيرًا للخارجية".

أضاف: "كلما سئل بورقيبة عن الحزب الواحد وغياب التعددية كان يتحجج بعدم تعود الشعوب على التعددية، وأتى بن علي وظن أنه بمجرد الاعتراف بالحقوق والحريات سيحصل على شرعية لا يستحقها، ونحن أخطأنا في تصديق من لا يصدق".

رأى مورو أن الطبقة المثقفة كانت ضمانًا للحراك الثوري الذي تفادى الصدامات الدموية، من أجل ألا يصل الشعب إلى تقويض الدولة والتقاتل على الطريق. وأضاف: "بدأ الإسلاميون يتحدث عن قضية لم تطرح مسبقًا في تونس، وهي مسألة تطبيق الشريعة، والدستور هو ما وضع حدًا للجدال حول أي مجتمع يريده التونسيون".

إلى ذلك، بدأ الإسلاميون يقتنعون من خلال متابعتهم القضايا الاجتماعية أنهم لا يملكون شرعية الصناديق التي تكسبهم قدرة الإمساك بالحكم، والقضية الأهم هي القضية الاجتماعية صاحبة التأثير الأكبر في الناس، لأن الشعب هو الرقيب الدائم في شارعه".

وصاح مورو في محاضرته: "يا صنّاع العقول اصنعوا العقول في أمة العرب، فالتطور لا يأتي بالأطباء والمهندسين بل بأصحاب الفكر والعلوم الإنسانية، ولن يغير الإسلاميون الواقع بعلوم الشرع بل بعلوم الفكر".