بدون عنوان

ألقى سمو ولي عهد دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني كلمةً في حفل الافتتاح الرسمي للمؤتمر السنوي لمراكز الأبحاث السياسيّة والإستراتيجيّة، الذي أقيم مساء يوم السبت 15 كانون الأول / ديسمبر بعد أن انطلقت أعمال المؤتمر صباح اليوم نفسه، بجلسات خُصِّصت لمناقشة واقع مراكز الأبحاث في الوطن العربي. وحضر الحفل سعادة السيد طارق الهاشمي نائب رئيس الجمهورية العراقية، والأمين العام المساعد لشؤون فلسطين والأراضي العربية المحتلة السفير محمد صبيح، والسيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية في فلسطين (حماس)، والشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة في تونس، والسيد محمد بن مبارك الخليفي رئيس مجلس الشورى في قطر وعدد من الوزراء القطريين، ورئيس الوزراء الأردني الأسبق طاهر المصري، وضيوف آخرون.

وأكد ولي عهد دولة قطر في كلمته أنّ التخطيط والرؤية الشاملة اللذين تقتضيهما عملية إعداد السياسات العامّة، لا يمكن أن يتحققا من دون التعاون مع النخبة المهنية والثقافية في المجتمع، مردفًا بأنه سعد بفكرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة تنظيم مؤتمرٍ تتشاور فيه مراكز الأبحاث العربية فيما بينها، بشأن أوضاعها، ومكانتها، ومدى استقلاليتها، وقال: "لقد كان من دواعي سروري أن ألبي الدعوة لإلقاء كلمة في افتتاح المؤتمر الأول لمراكز الأبحاث التي تُعنى بالشؤون السياسية والسياسات العامة في الوطن العربي. وذلك لإدراكي أن هذه المرحلة المصيرية في تاريخ شعوبنا وأمتنا تتطلب تعاونا على درجةٍ أعلى بين الباحثين والأكاديميين من جهة وصناع السياسات من جهة أخرى".

نوّه ولي عهد قطر باختيار منظمي المؤتمر للقضية الرئيسة التي يناقشها، قائلًا: "لقد اخترتم لهذا العام موضوعا مصيريًّا للإقليم وللعالم، وهو موضوع التغيرات الجيوستراتيجية الناجمة عن التحول الكبير الذي تشهده منطقتنا والذي يطلق عليه تسمية الربيع العربي، وقلما أتيحت الفرصة لتناول هذا الموضوع. فجل الانتباه لا يزال متّجها إلى ظروف الدولة العربية الداخلية، لا سيما حيث لم تستقر الأوضاع بعد".

وذكر الشيخ تميم  في هذا السياق، أنّ الشعوب العربية لم تخرج إلى الشارع لأسباب إستراتيجية، بل لأسباب معيشية تشمل الخبز والكرامة وحقوق المواطن. وينفي هذا، من الأساس،  مقولة نظرية المؤامرة، التي يرددها البعض عند الحديث عن أسباب الثورات العربية. وتابع  يقول: "يمكننا الاتفاق أنه باستطاعة دولة عظمى أن تؤثر في جيش دولة أخرى ليصنع انقلابًا عسكريّا، مثلما كان يجري في أميركا اللاتينية في ستينيات القرن الماضي. ولكن ليس بوسع دولةٍ ولا مجموعةٍ من الدول أن تصنع ثورةً شعبية في دولة أخرى، ولا يمكننا إجراء نقاشٍ حقيقيّ حول ما يجري في وطننا العربي، من دون أن ندرك أن الناس خرجت لأن لديها أسبابا كافيه لذلك ... ولهذا فإن التعامل مع الثورات الشعبية الكبرى كأنها مؤامرة خارجية، لا يليق بنقاش بين مثقفين، ولا يصلح لفهم التحولات الاجتماعية والسياسية الكبرى". وقال أيضًا: "لا تكمن المشكلة في وجود أو عدم وجود مؤامرات في السياسة، فهي موجودة طالما هنالك من يحدد لنفسه أجنداتٍ وأهدافًا وخططًا للوصول إليها ولكن المشكلة تكمن في ما يسمى بــ "نظريات المؤامرة" التي تفترض أنه من وراء كل شيء مؤامرة، فمن يرى خلف كل حدثٍ لا يعجبه مؤامرةً، هو ذلك الذي  لا يريد الاعتراف بأسباب الحدث الحقيقية والتعرف عليها لكي يتمكن من معالجتها، أو مواجهتها. ومن يخشى العولمة، والتطور العلمي، والاقتصادي، ويعتبرها مؤامرةً، هو الشخص غير الواثق من رسوخ هويته الثقافية والحضارية، وغير القابل للتطور علميًّا واقتصاديا".

وأردف قائلًا: "وإذا ما سلمنا بأن الثورات في العالم العربي هي ظاهرةٌ اجتماعيةٌ وسياسية مركبة، لها أسبابها وظروفها وعواملها، فمن شأن ذلك أن يساعد الأنظمة الرشيدة على تجنب هذه الأسباب، لأن الثورات ليست الطريقة المثلى للتغيير، وإنما يلجأ إليها الناس في غياب أي أفقٍ لأي وسيلةٍ أخرى: ولو توفر بصيصُ أملٍ للتغيير من دون التضحية الهائلة والمجازفات الكبرى بعدم الاستقرار لما خرجت الناس للثورة".

وفي شأن التحولات الإستراتيجية الناجمة عن الثورات العربية، قال ولي عهد دولة قطر: "لا شك في أنّه سيكون للمتغيرات العربية تأثيرٌ على الأوضاع الإقليمية والدولية، ولكن الباعث والداعي حتى في هذا الموضوع الخارجي يبقى داخليّا. فالمرجح هو أن تأثيرها على الساحة العالمية سوف يكون تعبيرًا عن التوافق بين السياسة الخارجية للدول العربية بعد التغيير، وبين الرأي العام المحلي". وأكد أن "الرأي العام العربي ليس مجهولًا، ولا في حكم الغيب، وله مجموعة ثوابت معروفة متعلقة بالسياسة الإقليمية والدولية". وتابع يقول: "فقط الأعمى سياسيًّا لم ير إحباط الشعوب العربية مما جرى ويجري في فلسطين، ولم يربط بين نقمة الشعوب العربية على الحكام وبين إحباطها من عجز الحكام على فعل شيء بخصوص تهويد القدس أو قمع إسرائيل للانتفاضتين الأولى والثانية، أو حرب لبنان 2006 أو احتلال العراق ونتائجه. فالجميع شعر بغضب الشعوب العربية واحتقانها الحقيقي من الأوضاع الإقليمية". وخلص إلى أن "من أهم نتائج عملية التغيير الجارية هو نشوء رأي عام محلي وعربي لابد أن يؤخذ بعين الاعتبار".

وقال إنّ الصفعتين المتتاليتين اللتين تلقاهما الاحتلال الإسرائيلي في غزة وفي الأمم المتحدة مؤخرا، هما من صنع التغيير الذي أحدثته الشعوب العربية.

وعبّر الشيخ تميم بن حمد عن تفاؤله بمسار الثورات العربية قائلا: "سوف تستقر الأوضاع في الدول العربية في النهاية إن شاء الله بعد أن تتوافق قواها السياسية الفاعلة على قواعد الديمقراطية التي تراها والتي تعني فيما تعنيه تقبل نتائج الانتخابات مهما كانت، وحماية حقوق الأقلية السياسية، وتوفير ما يتيح لها أن تعمل لتصبح أغلبية. وسوف تتغلب رغبة الشعوب بالحياة والعمل والإنتاج وعندها سوف تتضح ملامح المرحلة القادمة. وأنا أرى أن المرحلة القادمة هي مرحلة بناء المواطنة والحكم الرشيد واقتصاديات الإنتاج والمعرفة والنهضة الثقافية العربية". وتابع قائلا: "إنني لعلى يقين أنّ أفق هذه المنطقة ينفتح للتطور على المدى البعيد بوجود سياسات عربية مشتركة، في توفير الطاقة، والغذاء، والتعليم، والحفاظ، على البيئة والتطوير التكنولوجي وتوفير حركة حرة للبضائع والاستثمارات بين الأسواق العربية".

وعن دور القوى الخارجية في هذه المرحلة التي يمر بها الوطن العربي، قال ولي عهد قطر: "لا يمكن أن نسمح أن تتحكم قوى خارجية ودول أجنبية بوحدة مجتمعاتنا، فتستغل التنوع القائم فيها وتستثمر إساءة إدارة هذا التنوع في بعض الحالات"، وتابع يقول: "المجتمع العربي هو تاريخيًّا نواة الحضارة الإسلامية وقلبها، وفى الوقت ذاته متعدد المذاهب والطوائف والأصول وكان هذا دائمًا مصدرا لغناه الحضاري والثقافي وليس مصدرًا للخلاف والشقاق".

وفي السياق ذاته قال: "لا يمكن في عصرنا مجرد التفكير بالدولة خارج التفاعلات الإقليمية والدولية والصراعات على النفوذ. ومن يريد دولةً وليس ساحةً لتصفية الحساب بين الدول الأخرى عليه أن يشكل حالة دولية قادرة على حماية سيادته ومصالحه. والتاريخ والجغرافيا والثقافة وفي مركزها اللغة كلها تصب في اتجاه أن يتعاون العرب لكي يمنعوا تحولهم إلى مجرد مناطق نفوذ ونحن نأمل أننا على أعتاب مرحلةٍ جديدةٍ في هذا الشأن أيضا.  وهذا يصح حتى في حالة سوريا المؤلمة لنا جميعًا. لقد تلقى الشعب السوري  أي مساعدة يمكنه الحصول عليها، بغض النظر عن نوايا أصحابها، لأنه في وضعٍ يجعله لا يستغني عن أي مساعدة، ولكن التجارب في دول العالم كافة تظهر لنا أن التضامن في زمن الثورات لا يعني التبعية لمن قام بالتضامن بعد الثورات، لا سيما حين تكون سيادة الشعب هي محصلة الثورة النهائية ومن الذي يمكنه أن يضع شروطا مسبقة على سيادة الشعب...".

وفي المقابل، يرى الشيخ تميم، أن النهوض بالأمة العربية يتطلب علاقات تعايش وتعاون مع جميع الدول التي تحترم إرادتها فليس ممكنا العيش في عزلة عن أميركا وأوروبا ودول الشرق الأقصى. كما يتطلب علاقات تعاونٍ وحسنِ جوارٍ مع القوى الأقرب جغرافيا وحضاريًا وتاريخيا. وأكد بخصوص قوى الجوار أن الأمة العربية يجب أن تفرح لنهوضها التكنولوجي الاقتصادي والسياسي، مردفا بالقول: "حين نحدد علاقاتنا معها كعلاقات جيرة وتعاون تصبح قوتها قوة لنا، وأي خلافٍ بيننا وبينهم يجب أن يحسم بالحوار الإقليمي. المهم أن نعرف نحن ماذا نريد وأن نحدد مصالحنا. ومن نافل القول إنه ليس من مصلحتنا حدوث أي إخلال بأمن الخليج وليس من مصلحتنا وقوع أي حربٍ من أي نوع".

واختتم ولي عهد دولة قطر كلمته بتمنياته بنجاح أعمال المؤتمر. وتواصل برنامج حفل الافتتاح الرسمي للمؤتمر بعد ذلك بندوة فكرية شارك فيها كل من برهان غليون وناصر آل خليفة وحسن نافعة وجمانة غنيمات وصلاح الدين الجورشي، وأدار الندوة الإعلامي علي الظفيري.