بدون عنوان

كان لافتاً انتقال العلاقات السورية-التركية، خلال مدة قصيرة جداً، من علاقات استراتيجية كاملة متعددة الجوانب، كما صرح أكثر من مسؤول سياسي في البلدين، إلى علاقات متوترة لا تخلو من العدائية من قبل كل من الطرفين، وعادت أخيراً إلى علاقات حذرة يشوبها التحفظ والشكوك والانتظار.

عداء تاريخي

كانت العلاقات عدائية بين السياستين السورية والتركية طوال معظم القرن العشرين، رغم الحدود المشتركة (850 كم) والقرابة بين السكان على طرفي الحدود، والأنهار والملكيات الزراعية المشتركة، ورغم أربعمئة عام من العلاقات كانت فيها سورية ولاية تتبع السلطان العثماني مباشرة.

ولعل أهم أسباب العداء ناجمة عن ضم لواء اسكندرون لتركيا بقرار فرنسي عام 1938، ورفض تركيا الاعتراف بأن نهر الفرات نهر دولي، وتجاهلها حل مشكلة أملاك السوريين على الجانب التركي من الحدود، إضافة إلى دخول تركيا حلف شمال الأطلسي وإقامة علاقات تعاون مع إسرائيل، بينما كانت سورية متحالفة مع حركة التحرر ثم مع منظومة الدول الاشتراكية. وكادت الخلافات تجر البلدين إلى حرب مرتين: أولاهما عام 1957 أيام حلف بغداد، وثانيهما عام 1998 بسبب تعاون سورية مع حزب العمال الكردستاني العدو اللدود لتركيا، وتقديم المساعدة وقواعد التدريب له، وقبول لجوء رئيسه عبد الله أوجلان في سورية.

تحول العداء إلى صداقة

مع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكومة في تركيا بدأ التصاعد السريع لنمو العلاقات وصولاً لعلاقات استراتيجية وشراكة، عبرت عن نفسها بتوقيع 55 اتفاقية بين البلدين متعلقة بمختلف الجوانب، قضت بإلغاء التأشيرات، وتطهير مناطق الحدود من الألغام، وتفعيل اتفاقية "أضنة 1998" التي تسرب أنها تسمح للجيش التركي بملاحقة (الإرهابيين) داخل سورية لعمق 15 كم دون أن يعطى الجيش السوري حقا مماثلا، وتوقيع اتفاقية التجارة الحرة، ورفع حجم التبادل التجاري إلى ملياري دولار (وقريباً إلى خمسة مليارات)، وفتح الأسواق للبضائع التركية ومعاملتها معاملة خاصة وغير ذلك.

وهكذا اتسعت العلاقات بين البلدين حتى شملت جميع جوانب الحياة الأمنية والسياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وغيرها، واعتقد الجميع أن لا رجعة في هذا التطور، وكان كل من الطرفين يعتقد أنه رابح. وقد سئل أحد المسؤولين السوريين الكبار كيف استغنت السياسة السورية عن لواء اسكندرون بمثل هذه البساطة وبدون ثمن تقريباً، فقال متباهياً: لقد خسرنا اسكندرون لكننا ربحنا تركيا.

الدور التركي غير المباشر في الأحداث السورية

انفجرت الأحداث في سورية في منتصف آذار/ مارس الماضي، وتنامت الاحتجاجات والمظاهرات وتحولت إلى انتفاضة شاملة، وعلى خلاف توقع السياسة والسياسيين السوريين وحتى الشعب السوري، أيدتها السياسة التركية منذ يومها الأول. وأعلن أردوغان أنه نصح الأسد بإجراء إصلاحات ديمقراطية أكثر من مرة دون جدوى، وقال إنه ينتظر حصول مثل هذه الإصلاحات، وأرسل مدير جهاز مخابراته إلى سورية للتباحث مع المسؤولين السوريين و"نقل التجربة التركية إليهم"، واتصلت القيادة التركية بمثيلتها السورية وعرضت أفكاراً للخروج من الأزمة، لكنها لم تستطع إقناعها بالاستجابة لطلبات المحتجين ونبذ العنف.

ثم صعَّدت السياسة التركية موقفها، فأعلن أردوغان شخصياً أن لديه مخاوف من أن "اشتباكات طائفية قد تنفجر في سورية ويمكن أن تقسم البلاد"، و"نحن لا نريد مثل هذا الشيء"، وقال إنه يخشى من انقسام سورية طائفياً إذا استمر التوتر، وذكّر أن طول الحدود بين البلدين يصل إلى 850 كم، ولذلك فإن ما يحدث في سورية سيكون له تأثير على تركيا. واعتبر أحداث سورية وكأنها "شأن داخلي تركي". وأرفق أردوغان تصريحاته هذه ومخاوفه بدعم المعارضة السورية؟

ضاعفت التصريحات والمواقف التركية آمال المحتجين والمنتفضين السوريين وأشعرتهم أن لديهم عوناً خارجياً أسعدهم أنه ليس أميركياً ولا أوروبياً، وليس لديه مطامع استعمارية أو مطامح هيمنة، ولا تحركه مصالحه المباشرة لاتخاذ هذا الموقف، وهو جار وصديق ومسلم وللشعب السوري معه علاقات تاريخية. وكان لهذه المشاعر تأثيرها الذي لا شك فيه في تشجيع المحتجين وتصعيد شعاراتهم وتعميق أهدافهم. كما كان لهذا الدور التركي تأثير كبير في دفع الأحداث وتشجيع المتظاهرين لا يوازيه أي تأثير آخر أميركي أو أوروبي أو حتى عربي. وأعطى للتيار الإسلامي في الانتفاضة أهمية ودوراً، وللإسلاميين بشكل عام دعماً معنوياً كانوا ينتظرونه.

الدور التركي المباشر

تبدّى الدور التركي في توجهات ثلاثة هي:

أولا: تبني المعارضة السورية، ودعمها سياسياً، وإتاحة الفرصة لها كي تعقد مؤتمرات في مدن تركية، وتطلق تصريحات صحفية من هناك، وتعقد اجتماعات لقياداتها، ولقاءات مع قيادات سورية معارضة أخرى، وصارت تركيا في الواقع الأرض الصلبة التي تتحرك فوقها المعارضة السورية.

عقد أول الاجتماعات (المؤتمرات) العلنية في مدينة اسطمبول في 26 نيسان/ أبريل بدعوة من (منظمات مجتمع مدني تركية) لبحث (مجريات الأحداث في سورية) وكان هذا المؤتمر في الواقع مقتصراً على الإخوان المسلمين والإسلاميين وحلفائهم، وأطلق المؤتمرون بعد انتهاء مؤتمرهم تصريحات ضد ممارسات النظام وأعلنوا مواقفهم بدون تحفظ. وقد فوجئت السلطة السورية بعقد هذا المؤتمر (الاجتماع) دون أن نجزم بأنه جزء من خطة تركية مناوئة لها، وجزء من دور تركي جديد ومشاركة في تصعيد الأحداث السورية أم مجرد اجتماع عارض. ثم تتابعت استضافة تركيا للمعارضين السوريين، والسماح لهم بعقد مؤتمرات ولقاءات في مدنها، وإطلاق التصريحات التي يريدون.

عقدت جهات معارضة سورية من تيارات سياسية عديدة مؤتمراً في مدينة أنطاليا المجاورة لسورية، حضره 300 شخصية معارضة متخذاً اسم "المؤتمر السوري للتغيير". وكان من قراراته إعلان دعم الانتفاضة السورية، والدعوة إلى إسقاط النظام. وقد سهلت تركيا للمؤتمر انعقاده وإجراءاته ودعمته، ولم تمنعه من اتخاذ قرار بالدعوة لإسقاط النظام، وحمته من أنصار السلطة السورية الذين قدموا لمنعه من مواصلة أعماله. وكان المؤتمر محط دهشة السلطات السورية التي أدركت عندها أن تركيا تدعم الانتفاضة صراحة، وتتصرف على أنها راعية لها.

ثم عقد مؤتمر آخر في اسطنبول في منتصف شهر تموز/ يوليو تحت اسم "مؤتمر إنقاذ الشعب السوري" شارك فيه نحو 400 مشارك، صار معظمهم من الإسلاميين بعد انسحاب الأكراد منه، وكاد المؤتمر أن يشكل حكومة انتقالية، لكنه شكل بدلاً من ذلك هيئة قيادية بمثابة حكومة، ودائماً برعاية السياسة التركية واستنكار السلطة السورية.

ثانيا: استقبال اللاجئين السوريين الذين تعرضت مدنهم وبلداتهم الحدودية لاجتياح الجيش السوري وقوات الأمن، وبناء مخيمات لهم (وأحياناً بناءها مسبقاً)، واستقبالهم ورعايتهم وربما تشجيع المواطنين السوريين في هذه البلدات على اللجوء، واستقدام الوفود الرسمية ووسائل الإعلام لزيارة المخيمات، والإعلان غير الرسمي بأن السلطة التركية ستعمد إلى إقامة مناطق حدودية آمنة داخل الأراضي السورية، تطبيقاً لاتفاقية أضنة. وقد شجعت هذه الاجراءات والتصريحات والتسريبات كثيرين على اللجوء، ولولا تغير الموقف هذا التركي فيما بعد، لبلغ عدد اللاجئين السوريين عشرات الألوف. وكان لهذا على أي حال أثر كبير لدى أبناء الشعب السوري، عمّق اطمئنان المنتفضين لوجود حليف لهم.

ثالثا: الجهد الذي بذلته السياسة التركية لإقناع الاتحاد الأوروبي والإدارة الأميركية بتصليب مواقفها من الحدث السوري، وتحريض هذه البلدان للضغط على سورية بمختلف الوسائل والأساليب، لتقوم السلطة السورية بإصلاح نظامها، وتحوله إلى نظام ديمقراطي تعددي. وفي الوقت طلبت تركيا من العرب الضغط على سوريا للقيام بذلك ، ومن إيران تخفيف دعمها لسورية، مؤكدة لها أن لا علاقة للموقف التركي بالنزعة السنية.

تراجع الدور التركي

فتر الحماس التركي الداعم للانتفاضة السورية، وتراجعت التصريحات التي كانت تطالب النظام بالإصلاح والتحول الديمقراطي، وقد عبرت عن هذا الموقف سلسلة تصريحات لمسؤولين أتراك كباراً، فقد صرح إرشاد هرمز، مستشار الرئيس التركي، في نهاية شهر حزيران/ يونيو الماضي أن "العلاقات التركية السورية قوية وراسخة ولا تتأثر بالأحداث الطارئة، وتركيا لا تصمم بيوت الآخرين، ولا تملي عليهم ماذا يفعلون" كما صرح أحمد داوود أوغلو وزير الخارجية أن "العلاقات التركية السورية أقوى من علاقات الجيرة، ولدينا علاقات قرابة على طول الحدود بأكملها".

وأخيراً، قال أردوغان "في حال وصول الانفتاح الديمقراطي في سورية إلى النجاح، فإننا سنكون سعداء جداً". ومن الواضح أن هذه التصريحات تعبد طريقاً لعلاقات جديدة، ولتراجع في الموقف التركي ودورها. وقد ترافقت بالتضييق على اللاجئين السوريين ومحاصرتهم، إلا أنها لم تحد من نشاط المعارضة السورية الإسلامية التي تتخذ من تركيا قاعدة لنشاطها وانطلاقها، بل يبدو أنها ما زالت تحظى بالتشجيع والرعاية.