بدون عنوان

ألقى الباحث البريطانيّ بيتر ودورد محاضرة أكاديميّة على هامش مؤتمر العرب والقرن الأفريقيّ "جدليّة الجوار والانتماء"، الذي ينظّمه المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السّياسات. وشرح فيها مجموعةً من العوامل والمحدّدات التي تحكم الاتّجاهات العامّة في دراسة منطقة القرن الأفريقيّ من خلال التّجارب التاريخيّة في دول هذا الإقليم خلال القرن العشرين، وكيفيّة تحوّل الاهتمام الدوليّ بهذه المنطقة وفي مقدّمتها التغيّر في السّياسات الأميركيّة، حيث حاولت الولايات المتّحدة الأميركيّة الاستفادة من دروس الماضي في كيفيّة التّعاطي مع الأزمات بطرقٍ جديدة تقلّل من التدخّل العسكريّ المباشر على غرار ما حصل في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي، والاتّجاه نحو إنتاج حلول مختلفة.

وقد اعتبر ودورد أنّ  طريقة عرض تاريخ هذه المنطقة هي الفكرة الأولى التي يجب أن تنطوي عليها عمليّات البحث حول مستقبل العلاقات بين دول هذه المنطقة، مع التّركيز على الجانب الاقتصاديّ الذي صنّفه في المرتبة الثّانية من حيث الأهمّية التي تحكم المحدّدات المتعلّقة بالقرن الأفريقيّ. فعلى الرّغم من الاندماج الإقليميّ الكبير المشجّع على الاستثمار والاهتمام الدوليّ والعربيّ الكبير الذي تَبدَّى من خلال الاستثمارات الكبيرة في دول القرن الأفريقيّ وخاصّة في السّودان، إلا أنّه يجب توخّي الحذر في الطريقة التي يتمّ من خلالها الاستثمار في هذه المنطقة نتيجة هشاشة البنية الاستثماريّة والتي تشكّل - بحسب وصف ودورد - تحدّيًا أمام البيئة الاستثماريّة في القرن الأفريقيّ.

وقدّم ودورد في هذا السّياق أمثلةً عن اتّجاهات الاستثمار الأجنبيّ في منطقة القرن الأفريقيّ، فعلى سبيل المثال كان الاستثمار في المعادن وخاصّة الذّهب هو السّبب الرّئيس للنّجاح الذي حقّقه السّودان وبعض دول أفريقيا في معدّلات الاستثمار، لكن هذا النّوع من الاستثمار يحتاج هو نفسه إلى أدوات استثماريّة جديدة تخرج من النّمط الموجود حاليًّا. كما يحتاج  دعم الاستثمارات إلى تقليل النّزاعات الحاصلة في هذه المنطقة، فقد أسهم الصّراع بين القوى الدوليّة عقب اكتشاف النّفط عام 1993 في وسط السّودان في تأخّر إنتاجه 15 عامًا، حتّى استطاعت الشّركات الصينيّة التفوّق على مثيلاتها الغربيّة. وهذا ما يطلق عليه ودورد تسمية "لعنة الموارد"، وهي اللّعنة التي تحدّ مثلا من الاستثمار في القطاع الزراعيّ نتيجة التّنافس على موارد المياه وبناء السّدود. ولا تزال هذه القضيّة تشكّل التّحدّي الأكبر أمام الاستثمار الزّراعيّ في منطقة القرن الأفريقيّ.

كما  نبّه ودورد إلى ضرورة تلمّس التأثير الاجتماعيّ للزّارعة وتحديد الوسائل الكفيلة بالتّعامل معه، فالسّودان كان في سبعينيّات القرن الماضي يشكّل سلّة الغذاء العربيّ  على خلاف الواقع اليوم، وسبب التّراجع في الاستثمار في الزّراعة يعود بشكل أساسيّ إلى عدم استقرار المجتمع المحلّي، وهذا العامل أيضا كان مؤثّرًا في أثيوبيا.

ويرى الباحث أنّ هذا الواقع قد فرض تحدّيًا كبيرًا أسماه "الرّخاء" النّاجم عن الاستثمارات في قطاع الصّناعات الاستخراجيّة وإهمال الاستثمار الزّراعيّ، حيث أنّ القرن الأفريقيّ يشهد مجاعات في جزء كبير من أثيوبيا وإرتيريا والصّومال. وعلى الرّغم من التوجّه العالميّ الذي برز لإنقاذ هذه البقاع من المجاعات، إلا أنّ الاقتصار على محاولات الإنقاذ يصطدم بشكل دائم بالوضع السياسيّ والنّزاعات الأهليّة هناك، ما يشكّل خطرًا حقيقيًّا على الأمن البشريّ في بعض دول القرن الأفريقيّ. وعليه، لا بدّ من التّفكير على المدى الإستراتيجيّ والانتقال من التّفكير في المساعدة إلى إنتاج آليّات ترتبط بالبعد السياسيّ والاقتصاديّ تمنع حصول مثل هذه المجاعات في المستقبل. كما يجب تسليط الضّوء على النموّ الدّيمغرافيّ المتزايد في هذه المنطقة وخاصّة في كينيا وأثيوبيا، والذي يسهم بشكل أو بآخر في تفاقم هذه المشكلة.

إضافةً إلى ذلك، نجد أنّ النّشاط الرعويّ الذي يشكّل نمطًا حياتيًّا للسكّان في منطقة القرن الأفريقيّ يؤثّر بشكلٍ مباشر في الأمن الزّراعيّ، الأمر الذي يفرض إنتاج أساليب جديدة حديثة للحياة الرعويّة.

كما ركّز الباحث على موضوع التغيّر المناخيّ، والذي اعتبره مسؤوليّة العالم أجمع وخاصّة الدّول المصنّعة كالولايات المتّحدة، فمشاكل الأمن الغذائيّ في هذه المنطقة لا تعود فقط إلى قلّة الأمطار وإنّما إلى اختلاف أوقات سقوط الأمطار الذي تأثّر بالتغيّر المناخيّ العالميّ.

في القسم الثّاني من المحاضرة، أشار ودورد إلى موضوع الأمن والإستراتيجيّة الذي يشكّل المحدّد الأساس والحاكم لمستقبل دول هذه المنطقة. ويتعلّق هذا البعد بصيغة الأنظمة ذاتها وطبيعتها، التي كانت سببًا في تقسيم بعضها كما هي الحال مع جنوب السّودان، كما يطرح خيار التّقسيم نفسه الآن في الصّومال. ورأى ودورد أنّ خطر تقسيم الدّول ناتج أساسا من انقسامها إلى مجتمعات لها هويّات فرعيّة، كما هي الحال مع تقاليد القبائل الصّوماليّة التي تواجه مفهوم الدّولة هناك وتتغلّب عليه. انطلاقًا من ذلك يجب تدارك المخاطر التقسيميّة التي يمكن أن تؤدّي إلى نزاعات أهليّة خاصّة في ظلّ غياب آليّة دوليّة للتّعامل مع هذه المشاكل أو إخفاقها في حلّها، وقد يكون النّظام الفيدراليّ أو الكونفيدراليّ أحد أبرز الحلول النّاجعة في التّعامل مع التنوّع الدّاخليّ في هذه الدّول وتفادي التّقسيم.

كما طالب ودورد بإنتاج آليّة للتّنسيق بين دول هذه المنطقة وأبرزها تفعيل دور منظّمة "الإيغاد" والدّفع من أجل العمل على القضايا الاقتصاديّة والتّعاون بين الدّول بشكل يسهم في إحلال السّلام ومنع الحرب. وبذلك، يجب تفعيل دور هذه المنظّمة وإخراجه من التّجاذبات السّياسيّة التي تحاول أرتيريا وإثيوبيا إنتاجها من خلال رغبتهما في أن يكون لهما الدّور الأساس منفردة في هذه المنطقة.

وفي القسم الأخير من محاضرته، ركّز الباحث على "الإعلام العربيّ" وضرورة تناول مشاكل هذه المنطقة وتسليط الضّوء عليها، إضافةً إلى ضرورة اهتمام المراكز البحثيّة العربيّة بقضايا القرن الأفريقيّ؛ وخاصّة مسائل: الهويّة، واللاجئين، والقرصنة؛ وإنتاج نقاش جدّيّ علميّ في شأن هذه القضايا، منوّهًا ببدء المؤسّسات الأكاديميّة الغربيّة مثل معهد " تشاتم هاوس" و"أوكسالا" في إنتاج مثل هذه الدّراسة.