بدون عنوان

افتتح المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات اليوم (السبت 18 آذار/ مارس 2017) في معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر أعمال المؤتمر السنوي السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يتناول هذا العام موضوعَي "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية" و"الشباب العربي: الهجرة والمستقبل". وتستمر أعمال المؤتمر ثلاثة أيام إلى غاية يوم الإثنين 20 آذار/ مارس. وأبرز الباحث جمال باروت، مدير البحوث في المركز العربي، في كلمة افتتاحية الأهمية العلمية والأكاديمية للمؤتمر الذي يعقده المركز سنويًا منذ عام 2011، مؤكدًا التزام المركز العربي تشجيع البحث العلمي الرزين والمحكم في ميادين العلوم الاجتماعية والإنسانية وعيًا بأهميتها في تحقيق نهضة الإنسان العربي، وفي هذا النطاق أيضًا أنشأ المركز العربي "الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية" تحفيزًا للباحثين العرب في هذه المجالات العلمية، وسيجري توزيع الجائزة على الفائزين في دورتها السادسة في ختام المؤتمر يوم الإثنين المقبل.



مؤتمر ضمن التقاليد العلمية المحكمة ومنصة للنهوض بالبحث الاجتماعي العربي

قال الباحث ومدير البحوث في المركز العربي، الأستاذ جمال باروت في الكلمة الافتتاحية إنّ المؤتمر السنوي للعلوم الاجتماعية والإنسانية هو مؤتمر أكاديمي متخصص، وهو مناسبة للتعارف بين الباحثين والمفكّرين ولتبادل الأفكار والطروحات. ويجري اختيار مواضيع المؤتمرات وفقًا لالتزام المركز العمل على تحفيز الباحثين العرب على وضع أجندات البحث العلمي الاجتماعي في الوطن العربي وفقًا لمتطلبات المجتمعات العربية بخصوصياتها، وتشجيع الدراسات التطبيقية من دون الإغراق فيها، وأخذ النظرية في الحسبان.

وأضاف باروت أنّ المركز يعقد مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية منذ عام 2011، وقد خصصت دوراته السابقة في محور العلوم الاجتماعية لموضوعات: سياسات التنمية الإنسانية المستدامة، وجدلية الاندماج الاجتماعي وبناء الدولة والأمة في الوطن العربي، والجامعات والبحث العلمي في الوطن العربي، وتحولات التمدين في المدينة العربية. وتناول المؤتمر في محور العلوم الإنسانية موضوعات: الهوية واللغة في الوطن العربي، وأطوار التاريخ الانتقالي: مآل الثورات العربية، وأدوار المثقفين في التحولات التاريخية، وسؤال الحرية في الفكر العربي المعاصر. وهي المواضيع ذاتها التي ناقشها الباحثون الذين تنافسوا في الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية في دوراتها السنوية المواكبة للمؤتمر، وتوزع الجائزة عادةً في نهاية جلساته.

وكشف مدير البحوث في المركز العربي أنّ نحو 400 باحث عربي شاركوا في دورات مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية (بما فيها الدورة الحالية)، وهم أساتذة وباحثون في الجامعات العربية والغربية ومؤسّسات البحث العلمي العربي، ومن مختلف البلدان العربية، بما يعكس توسعًا كميًا ونوعيًا كرّسه المركز تقليدًا له في إطار سعي إلى المساهمة في رفع المستوى العلمي للبحث العربي في مجال الإنسانيات والاجتماعيات، وحول الأسئلة والقضايا والإشكاليات التي تشغل هذا البحث وتتصل بقضايا النهضة العربية في الشروط الجديدة، والتي يضع المركز نفسه في قلبها.

وأكّد المتحدث حرص المركز العربي على المستوى العلمي للبحوث التي تقدَّم في المؤتمر؛ إذ يعتمد في دورات هذا المؤتمر كما في سائر مؤتمراته السنوية المحكمة على عملية التحكيم وفقًا للاختصاص الدقيق للمحكمين. ويقرّ المركز البحوث بناءً على جودتها الشكلية والموضوعية العلمية فقط.

وقد أصبح المؤتمر أحد أبرز المواعيد في أجندة البحث العلمي العربي، ويحظى باهتمام الباحثين العرب في العلوم الاجتماعية والإنسانية في الوطن العربي وخارجه، وليس أدل على ذلك من التزايد المطّرد في المقترحات البحثية التي يرسلها الباحثون بغرض المشاركة في المؤتمر من دورة إلى أخرى. فقد أوضح باروت أنّ اللجنة العلمية للمؤتمر السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية استقبلت أكثر من 350 مقترحًا بحثيًا للمشاركة في موضوعَي المؤتمر، ووافقت على نحو 150 مقترحًا منها طالبةً من أصحابها إنجازها، وبعد تحكيم ما استقبلته من بحوث جاهزة منهم، أقرّت 58 ورقةً بحثيةً من أصل مئة ورقة استلمتها.

يطبع ثراء كبير برنامج أعمال المؤتمر كما درج عليه في دوراته الخمس السابقة، ويشمل ما يناهز 60 ورقة بحثية محكمة يجري تقديمها خلال جلسات تجمع كلّ واحدة منها عددًا من الأوراق المشتركة في ما تناقشه من أفكار. ومن أجل تمكين الباحثين المشاركين من عرض أبرز ما توصّلوا إليه من استنتاجات في بحوثهم ومناقشته مع المشاركين الآخرين والحضور من الجمهور الأكاديمي من أساتذة وباحثين وطلبة. ينقسم برنامج الجلسات إلى مسارين بحسب الموضوعين المختارين للمؤتمر هذا العام. وتجري جلسات متزامنة في كل واحد منهما. ويضم البرنامج إضافةً إلى عشر جلسات في كل مسار، أربع محاضرات عامة على ما درج المؤتمر عليه من دعوة عدد من أبرز الباحثين والمفكرين والأساتذة العرب في الجامعات العربية والغربية للمحاضرة في موضوعَي كلّ دورة من دورات المؤتمر. ويقدّم المؤتمر في هذه الدورة محاضرات لكلٍّ من فهمي جدعان وجورج زيناتي في موضوع الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية، وأيمن زهري ومحمد الخشاني في موضوع الشباب العربي والهجرة.


القيم الجديدة والعولمة وعودة سؤال الأخلاق

المحاضران جورج زيناتي (على اليمين) وفهمي جدعان يتوسطهما جمال باروت

انطلقت أعمال المؤتمر بمحاضرتين رئيستين تطرحان الإشكالات المهمة التي تتناولها أوراق الباحثين في الموضوع الأول للمؤتمر وهو "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية الإسلامية"، بينما ستخصص المحاضرتان الرئيستان في اليوم الثاني من المؤتمر للإشكاليات التي يطرحها المؤتمر في موضوع "الشباب العربي: الهجرة والمستقبل".

تناول الدكتور فهمي جدعان في محاضرة بعنوان "مركب أخلاقي حديث للاجتماع العربي"، عدة مسائل متعلقة بما أفرزته التطورات الكونية من أفعال وقيمٍ جديدة كليًا، تفرض تجاوز الأخلاق الكلاسيكية التي حكمت العديد من الظواهر الإنسانية. فطرح السؤال الأخلاقي اليوم يستوجب إنفاذ مدونة أخلاقية معززة بسياسات مرتبطة بسيادة القانون. وأكد أنّ التطورات العلمية اليوم في البيئة والتنمية الاقتصادية المحكومة بالرأسمالية والبيولوجيا، باتت تنذر بتغيير الإنسان والسياسي الذي يستخدم القوة والهيمنة والفنون التي تضرب عمق الذائقة البشرية. ومقابل ذلك تظهر قيم جديدة لا سبيل إلى تجاهلها: الحرية، والعدالة، والمساواة، والكرامة الإنسانية، والمسؤولية، والنزاهة، وجودة الحياة، واحترام الحياة، والمشاركة، والديمقراطية، والمواطنة، والاعتراف، والإنصاف، وغيرها. وإزاء كلّ هذا يثور السؤال الأخلاقي بقوة، ومن دون أن يقطع مع معاني الخير والشر والسعادة التي كانت وما زالت الموضوع الرئيس للأخلاق النظرية، وتطرح أسئلة أخلاقية، من قبيل: إلى أي مدى يخضع الممارس الطبي للمساءلة؟ هل تتم المحاسبة في الأمور المتعلقة بالمخالفات الأخلاقية؟ ماذا عن الاستغلال والتمييز بين الجنسين؟ هل يلتزم الإعلاميون والساسة الأخلاق؟ هل ثمة التزام بأخلاق مهنية ومدونة سلوك في الأمور الاجتماعية والسياسية والإعلامية والتنمية؟

وخلص المحاضر إلى أنّ التجليات الجديدة للعالم تفرض إنفاذ مدوّنة سلوك أخلاقية صريحة معززة بالقانون وبسياسات الدفاع الاجتماعي. ولا يكفي أن يقال إنّ الضمير أو الدين يمنعان من هذه الإساءات. وكذلك لا يستقيم القول إنّ منظومة "الأخلاق المطبقة" ليست إلا إحدى "بدع الحداثة" البشرية العقلية، وأنّ الأجدى للمجتمعات العربية هو استنطاق النصوص الدينية والأخلاق الدينية حيث تجد كلّ هذه الاختلالات أحكامها المطابقة في النصوص. ويؤكد جدعان أنّه لا يتصور تعارضًا بين الإثنين، فأيّ نظام أخلاقي متسق مع منطق العصر واشتراطاته من حيث المسؤولية، والتضامن، والعدل، والنزاهة، والصدق، والمشاركة، والالتزام، والرحمة، والنظام، والحرية، والكرامة الإنسانية، واحترام النفس – الجسد، والخير العام، لا يمكن إلّا أن يكون، من حيث المبدأ على الأقل، متضافرًا مع "النصوص المُحْكَمة" ومع "الرؤية المقاصدية" لـ "الكتاب".

وقدّم الدكتور جورج زيناتي محاضرةً بعنوان "سؤال الأخلاق في الحضارة العربية - الإسلامية وبعض قضاياه في عصر العولمة". وتناول المحاضر استلام الحضارة العربية الإسلامية مهمة البناء المعرفي الإنساني في أعقاب انهيار روما وإمبراطورية الشرق (القسطنطينية). وحدث ذلك على الخصوص بعد إنشاء "بيت الحكمة" في ظل الخلافة العباسية في بغداد على يد الخليفة المأمون. وانطلق المحاضر من إسهامات ابن باجة وابن طفيل، وتأثيرهما في الغرب والتنظير للفردانية الغربية التي جاءت مع الرأسمالية الصناعية. وانتقل بعد ذلك لمناقشة الإشكالات القيمية والأخلاقية التي جاءت بها العولمة التي استبدلت الثورة الصناعية بالرأسمالية المالية، وهيمنة عالم التواصل والحضارة الرقمية، وهذا ما خلق مشاكل جديدة تهم كل مستقبل البشرية. وتوقف زيناتي عند قضايا البيئة من تلوثٍ واحترار مناخي، ثم انتقل إلى مشكلةٍ بدأ العلماء يطرحون خطورتها وهي دور الذكاء الاصطناعي والروبوتات والوجه المظلم الخطير الذي ربما يواجه الإنسانية. وتوقّف عند بعض الأسباب التي مثّلت عائقًا أمام نجاح الأنظمة العربية في إنجاز ديمقراطيتها، ونبّه أولًا إلى الوقائع التاريخية وكيف أنّها تطرح مشكلة الزمان، وهي مشكلة أهملتها تمامًا حضارة التواصل والثورة الرقمية. فإلغاء المسافات لا يعني إلغاء الماضي وترسباته وأحقاده. وقال إنّ "العقل يتقدم من دون اعتبار أخلاقي فيجد السدود أمامه، إذ إنّ ماضي البشرية هو حروب متلاحقة وصراعات لا تنتهي، ولا بد من خلق ذاكرة سعيدة للبشرية، كل البشرية فإنسانيتنا تجمعنا كلنا"، غير أنّ إرادة الهيمنة تمثّل دومًا بؤرةً مفتوحة لصراعات متجددة. وخلص إلى أنّ ديالكتيك الاستقرار والتقدّم وحده يفتح أبواب المستقبل ويتغلب على أشكال العنف غير المبرر، إذًا يبقى الأمل ويتجدد ولا يموت، لأنّ النور يبدد دومًا كلّ ظلامية.


بحوث مهمة وتتويج لفائزين في الجائزة العربية

ناقشت الأوراق البحثية المقدمة في جلسات اليوم الأول من المؤتمر العديد من المسائل المهمة في نطاق كل واحد من محورَي المؤتمر. وقد قدّمها عدد من الباحثين من مختلف الأقطار العربية، وبينهم نسبة كبيرة من الباحثين الشبان. وخصصت الجلسة الأولى في محور "سؤال الأخلاق" لموضوع "الأخلاق الإسلامية وأسئلة الحداثة"، في حين تناولت الجلسة الثانية قضيةً علميةً وطبيةً مهمةً إذ ناقشت "الجينوم وسؤال الأخلاق من منظور إسلامي"، وطرحت أوراق الجلسة الثالثة "سؤال الأخلاق في الفلسفة الإسلامية"، وتناولت الجلسة الرابعة "سؤال الأخلاق في المدونات الفقهية والصوفية".

أمّا جلسات المحور المتعلق بمحور "الشباب العربي والهجرة" فقد خصصت أولاها لموضوع "الهجرة والجندر: هجرة الفتاة العربية"، والثانية لموضوع "الشباب العربي وأسئلة الهجرة الطلابية"، والثالثة لموضوع "الهجرة الخارجية للشباب العربي: الإشكالية الاجتماعية والثقافية". وتناولت الجلسة الرابعة والأخيرة من برنامج اليوم الأول في هذا المحور موضوع "هجرة الكفاءات العربية والهجرة العائدة".

وستستمر أعمال المؤتمر في جلسات متوازية ضمن محوريه (سؤال الأخلاق، وهجرة الشباب) خلال اليومين المتبقيين من المؤتمر، مع تقديم محاضرتين عامتين في اليوم الثاني ضمن موضوع الشباب والهجرة: أولاهما يقدّمها الدكتور أيمن زهري بعنوان "الشباب العربي والهجرة الدولية"، وثانيهما للدكتور محمد الخشاني بعنوان "هجرة الشباب العربي إلى دول الاتحاد الأوروبي: قراءة نقدية في السياسة الأوروبية للهجرة".

وستختتم أعمال المؤتمر السنوي السادس للعلوم الاجتماعية والإنسانية يوم الإثنين بحفل توزيع الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية في دورتها السادسة. وهي جائزة أنشأها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ عام 2011 بهدف تشجيع الباحثين العرب داخل الوطن العربي وخارجه على البحث العلمي الخلّاق والمبدع في قضايا وإشكالياتٍ تهمُّ صيرورة تطور المجتمعات العربية وبنيتها وتحولاتها ومساراتها نحو الوحدة والاستقلال والديمقراطية والتنمية الإنسانية.