بدون عنوان

استضاف برنامج السيمنار الأسبوعي الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يوم الأربعاء 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 الدكتورة لينا سلايمة، الأستاذة-الباحثة الفلسطينية المختصّة بالقانون وتاريخ الفقه الإسلامي، ومقارنة الفقه اليهودي بالفقه الإسلامي. وقد تناول السيمنار موضوع "البدايات القانونية-التاريخية: تدوين الفقه الإسلامي في أواخر العصور القديمة"، وذلك من خلال تقديم الفصل الأول من كتاب الدكتورة لينا سلايمة الصادر حديثًا بعنوان بدايات الشريعة الإسلامية: الثقافات القانونية الإسلامية في أواخر العصور القديمة[1].

وقد طرحت الباحثة في هذه المحاضرة فهمًا أصوليًا جديدًا لمصادر إسلامية من أواخر العصور القديمة، داعيةً إلى قراءتها قراءة تزامنية، مقارنة، قراءةً نقدية، مؤكّدةً أنه عندما يصف المستشرقون المصادر الإسلامية بـ "الإشكالية"، فهم غالبًا ما يقومون بمقارنتها بسجلات الدولة الحديثة، فيصفونها بالتحيز لأنها ذات طابع ديني. ذلك أنّ وصف المصادر الإسلامي المنتمية إلى أواخر العصور القديمة، والعصور الوسطى بأنها "إشكالية"، وبأنها غير موثوق بها، هو بحد ذاته وصفٌ مشكوك فيه أساسًا؛ لأنه مبني على افتراض أنّ المصادر الحديثة أقلّ إشكاليةً وأكثر مصداقيةً من المصادر القديمة. ويعود السبب في هذا الوصف إلى طريقة سرد تاريخ الفقه الإسلامي، والتي مرّت بمراحل تأسيسية وكلاسيكية مع المصادر المتأخرة والوسطى الموصوفة بالإشكالية. والواقع، بحسب الدكتورة سلايمة، أنه لا يوجد للتراث الفقهي الإسلامي نشأة أو أصل ملموس، فهو عبارة عن انتقالات وتحولات في الممارسات والنظريات الفقهية الإسلامية ضمن المجتمعات المسلمة المتماسكة، وهكذا كانت بداية الإسلام في أواخر العصور القديمة.

وترى سلايمة أنّ هناك اختلافًا بين علماء العصور الوسطى وباحثي العصر الحديث في طريقة الاستدلال وتجميع الأحاديث، ولكنهم جميعًا متحيزون، ولم يكن عملهم تامًّا أو خاليًا من النواقص مع التفاوت بينهم في الكفاءة والفعالية. فعندما يرفض المستشرقون علم الحديث الإسلامي التقليدي، فإنما يفككون الأرشيف الشفهي والمكتوب لعلماء أواخر العصور القديمة والعصور الوسطى، ثم يقوم بعدها المستشرق بإنشاء أرشيف جديد وحديث، بناء على منهجيته التي تنظر إلى المصادر التاريخية الإسلامية، وخاصة الأحاديث، بحسب رأي الدكتورة سلايمة، أنها مصادر فولكلورية ومجرد أساطير وليست تاريخًا واقعيًا.

لتصل سلايمة إلى نتيجة مفادها أنّ أرشيف المستشرقين يقوم بإخضاع (Subalternization) للمصادر الإسلامية لمنهجيته المتحيزة ثقافيًا. أي أنه يقوم بإخضاع مزدوج، يبدأ بإخضاع راوي الحديث إلى تحليل الانتقاد النصي التسلسلي، من أجل تحديث وتحويل شهادته التاريخية أولًا، ثم تجاهل المؤرخ المسلم من العصور الوسطى، من خلال تطبيق مناهج انتقاد المصادر ثانيًا. وتوضح نظرية الإخضاع (Subaltern Theory) أنّ استخدام مناهج انتقاد المصادر في الدراسات الإسلامية لا يساهم في تدوين التاريخ، بل في استعمار المصادر التاريخية.

وتخلص سلايمة إلى أنّ العرض المكثف للانتقادات التقليدية الاستشراقية لثلاثة أنواع من المصادر التاريخية؛ الوثائق والنصوص السردية والأحاديث، يعدّ عملًا غير علمي من منظور فلسفة علم التاريخ أولًا، وغير شرعي من منظور النظرية النقدية ثانيًا. وباختصار، لا تخرج المناقشات المنهجية حول المصادر الإسلامية من ظل الأيديولوجيا، فالدراسات الإسلامية الاستشراقية تتورط في سياسة الإسكات والهيمنة.

وفي عقب المحاضرة، قام الدكتور معتز الخطيب بالتعقيب على طرح الدكتورة سلايمة، وهو أستاذ المنهجية والأخلاق في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، بكلية الدراسات الإسلامية في جامعة حمد بن خليفة بالدوحة، تناول فيه جملة من قضايا تدوين الشريعة الإسلامية والفقه الإسلامي، من منظور أصولي، ومن منظور نقدي للمقاربات الاستشراقية للموضوع.

وقد ركّز الباحث في تعقيبه على المحاضرة على مسألتين مركزيتين؛ أولاهما مناقشة الافتراضات الاستشراقية التقليدية بخصوص المصادر الإسلامية المبكرة. وفيها جرى نقدُ تلك الافتراضات الثلاثة (النقل الشفهي، المسافة التاريخية، الاختلافات) من منطق التراث نفسه، وكيف أنها افتراضات مبنية على التحيز إلى المكتوب، في حين أنّ التقليد الإسلامي نشأ متحيزًا إلى المرويّ والشفاهي، وليس إلى المكتوب ("أهل القرآن" مقابل "أهل الكتاب"). ولذلك ليس هناك مسافة تاريخية، وقد كان "التقليد الإسلامي" واعيًا بالاختلافات نفسها، وطوّر منهجيات للتعاطي النقدي معها، بل إنه جعل الاختلاف قيمة أخلاقية ومعرفية، نجد آثارها وتجلياتها في مناحٍ متعددة؛ في علم الكلام، والفقه، والأصول، ونقد الحديث. وأما المسألة الثانية التي تناولها الدكتور الخطيب فهي مناقشة فكرة النقد الاستشراقي للمصادر الفقهية والحديثية، القائم أصالة على فكرة "تاريخ الحديث"؛ للوصول إلى "أصل" الشريعة. وقد أوضح الباحث كيف أنّ هذا النقد قائم على فكرة التحيز إلى المكتوب على حساب الشفاهي، وأنه يتبنى تصورًا حداثيًّا عن "المُنشئ" بوصفه "مؤلِّفًا"، في حين أن مسار الفقه مسار معقد ومركب، وليس له نقطة بداية واحدة ومحددة؛ لأنه نتاج مسارات متوازية ومتقاطعة، بناء على حلقات العلم والشيوخ (علم المشيخات والطبقات)، وبناء على البلدان (تواريخ البلدان)، أي أنه مستند إلى فكرة "التقليد الحي". 


[1] Lena Salaymeh, The Beginnings of Islamic Law: Late Antique Islamicate Legal Traditions (Cambridge: Cambridge University Press, 2016).