العنوان هنا
تقييم حالة 15 يونيو ، 2011

سيادة اللغة العربية، أين هي في مسار الثورة التونسية؟

الكلمات المفتاحية

محمود الذوادي

أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، تونس.

تُنادي شعارات الثورة التونسية بالقطيعة مع النظام السياسي لعهديْ بورقيبة وبن علي اللذيْن حكما البلاد دون ديمقراطية وحريّة تعبير ولا عدالة في التنمية بين مناطق البلاد. فهي في رأيي ثورة في منظومة الرموز الثقافية: القيم والفكر والرّؤية للذات، وتصوّر لماضي المجتمع التونسي وحاضره ومستقبله. وممّا زاد في غضب التونسيّين وتثوير بوصلتهم الثقافية القبضة الحديدية البوليسيّة لنظام بن علي واستشراء الفساد في حاشيته وفي طليعتها زوجته "حاكمة قرطاج" وأسرتها (عائلة الطرابلسي) التي عاث أفرادها فسادًا داخل المجتمع التونسي وخارجه.

يطالب روّاد الثورة ومعظم التونسيّين اليوم بتأسيس ثقافة جديدة تحتضن ديمقراطيةَ حقيقيّةَ وحريّة تعبير وعدالة كاملة في تنمية كلّ الجهات، بحيث يوضع حدٌّ لثقافة إرث النظام السياسي المستبدّ والقمعي خلال عهديْ بورقيبة وبن علي اللذيْن امتدت فترة حكمهما معًا أكثر من نصف قرن.


صمت عن الاستعمار اللغوي الثقافي

من مفارقات هذه الثّورة الثقافية، أنّ أغلبيّة التونسيّين تلوذ بصمت شبه كامل بشأن الإرث اللّغوي الثقافي الاستعماري الذي عمل على تجذيره نظاما بورقيبة وبن علي في شخصيهما وفي مؤسّساتهما وفي ثقافة المجتمع التونسي بصفة عامّة، بحيث أصبح معظم التونسيّين عن وعي ودون وعي يفتخرون بذلك الإرث وينادون بالإبقاء عليه وبصيانته. ويتمثّل هذا الصمت في سكوتهم عمّا أسمّيه التخلّف الآخر متمثّلاً في الإرث اللغوي الثقافي الاستعماري الفرنسي الذي نجح بورقيبة وبن علي في المحافظة عليه على حساب الاستقلال اللغوي الثّقافي من المستعمر الفرنسي[1]. إنّ مناداة بورقيبة وبن علي بصيانة الإرث اللغوي الثقافي الفرنسي على حساب لغة البلاد وثقافتها تعدّ شهادةَ على ضعف رؤيتهما للوطنية الحقيقية وقصورها.

يعلن الدستور التونسي في بنوده الأولى أنّ اللغة العربية هي اللّغة الوطنية للمجتمع التونسي المستقلّ، فكيف يجوز وصف نظاميْ بورقيبة وبن علي والنّخب السياسية والفكرية والمتعلّمة بالوطنية الحقيقية وهم قد عملوا ويعملون على تهميش اللّغة العربية وثقافتها[2]؟


غياب السيادة الأخرى

تقترن مفردة السّيادة في القاموس السياسي التونسي بقدرة الدولة على الدّفاع عن حدود الوطن وصيانة أمنه الداخلي والحفاظ على استقلاليّة سياستها الخارجية. ومن ثمّ، سُمّيت وزارات الدّفاع والداخلية والخارجيّة وزارات السّيادة. وفي المقابل، يلاحظ المرء اليوم غيابًا مفزعًا لدى التونسيين لما أودّ تسميته السّيادة اللغوية، أي اعتبار اللغة العربية/الوطنية رمزًا لسيادة البلاد التونسية، مثلها مثل العلم التونسي وبقيّة معالم السّيادة التي تتبنّاها اليوم الأقطار الصّغيرة والكبيرة في العالم. فمثلا، تتبنّى المجتمعات المتقدّمة مبدأ السّيادة اللغوية عقيدةً مقدّسة لا تقبل التّشكيك فيها أو التعدّي عليها. وهذا ما نلاحظه في الاتّحاد الأوروبي الذي يضمّ أكثرَ من عشرين دولة تحترم فيه بالتساوي لغة أكبر الأعضاء كألمانيا وأصغر الأعضاء كمالطا، إذ اللّغة هي رمز لسيادة كلّ واحدة منها ولا يجوز التّنازل عنها[3].


معايير السيادة اللغوية في المجتمعات المتقدمة

من خلال ملاحظة المجتمعات المتقدّمة اليوم، يمكن استخلاص أبرز معالم سيادتها اللغوية والمتمثّلة في العناصر التالية:

  1. الاستعمال الكامل للّغة الوطنيّة على المستويين الشّفهي والكتابي.
  2. احترامها والاعتزاز بها والغيرة عليها والدّفاع عنها.
  3. معارضة استعمال لغة أجنبيّة بين مواطني تلك المجتمعات.
  4. شعور عفوي قويّ لدى المواطنين بالأولويّة الكبرى لصالح استعمال اللّغة الوطنيّة في مجتمعاتهم.
  5. مراقبة ذاتيّة واسعة لدى المواطنين تجعلهم يتحاشون استعمال الكلمات والجمل الأجنبيّة، مع وجود سياسات وطنيّة متواصلة عند السلطات لترجمة المصطلحات والكلمات الأجنبيّة الجديدة إلى اللّغة الوطنية.
  6. اقتران اللغة الوطنيّة بتحديد هويّات الأفراد والجماعات في تلك المجتمعات.

[1]  محمود الذوادي، التخلف الآخر: عولمة أزمة الهويات الثقافية في الوطن العربي والعالم الثالث، (تونس: الأطلسية للنشر، 2002).

[2]  محمود الذوادي، الوجه الآخر للمجتمع التونسي الحديث، (تونس: تبر الزمان، 2006).

[3]  P. Kraus, A Union of Diversity: Language, Identity and Polity-Buildingin Europe, (Cambridge: Cambridge University Press, 2008).