الخطابة العربية القديمة

أصولها النظرية وأبعادها التداولية وأشكالها الحجاجية

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الخطابة العربية القديمة: أصولها النظرية وأبعادها التداولية وأشكالها الحجاجية، وهو من تأليف الطاهر بن يحيى، ويتركز على بحث ظاهرة الخطابة العربية قديمًا وحديثًا، وآراء العلماء فيها، والتحديات التي قابلتها أو طرحتها، وعلاقتها بالخطابة اليونانية والغربية عمومًا ومدى التغير الذي طرأ عليها منذ أرسطو حتى العصر الحديث. يقع الكتاب في 648 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

يسدّ كتاب الخطابة العربية القديمة: أصولها النظرية وأبعادها التداولية وأشكالها الحجاجية فجوةً في دراسة الأجناس الأدبية وأنماط الخطاب؛ فهو مخصص للخطابة التي تطورت في الدراسات الغربية الحديثة، مضيفةً إلى ثمار التفكير القديم، غير الخالي من البعد المنطقي منذ أرسطو، بُعدًا لغويًّا يستلهم تحليل الخطاب، أو التداولية، أو البلاغة الجديدة، التي لم تقطع الصلة بالتراث الغربي القديم، بينما تكاد الصلة تكون منقطعة بين التراث البلاغي العربي وصدى هذه المقاربات في الدراسات العربية الحديثة.

يرى المؤلف أن حال الخطابة في الدراسات النقدية، قبل كتاب الخطابة العربية، لم تكن أحسن منها في الدراسات اللغوية؛ فقد ساد اعتقاد بأن الخطابة لم تجد طريق الاعتراف بها في مجال النقد، وأنه ليس ثمة دراسة تشفي الغليل تعنى بالبحث في أصول هذه الصناعة وقواعدها وتقاليدها عند العرب. لكن الحقيقة غير هذا، فقد بيّن الكتاب أن الإعراض عن الكتابة في هذا هو نتيجة تسليم من دون مبرر تاريخي بإهمال العرب هذه الصناعة؛ ما أدى إلى عدم الالتفات إليها التفاتَهم إلى الشعر والفنون الأخرى. ويعيد سببَ ترسُّخ هذه الفكرة في الإذهان إلى طه حسين، لزعمه عدمَ تطور البلاغة العربية إلا بعد الاطلاع على كتاب فن الخطابة لأرسطو، وأن الخطابة لدى العرب فنٌّ مستحدث وغير نابع من أصول ثقافتهم.

يقدِّم الكتاب ما يمكن نعته بـ "الطرح المضاد"؛ إذ مع عدم إنكاره ما لأرسطو من تأثير في الخطابة فإنه يدافع عن كونها عند العرب ذات مقوّمات وقواعد أصيلة لا مجرّد خواطر تفتقر إلى الانتظام، وأنها لم تتوقف عند القرن الأول قبل قيام النقد، ويذهب إلى أن القدماء - على خلاف ما يدّعيه بعض المحْدَثين – كانوا يميّزون بوضوح النثر من الشعر، وأن الخطابة العربية لم تقف كما يزعمون عند النزعات الدينية والتأثيرية على حساب روح الجدل والحجّة.

ويرى الكتاب أن أغلب الدراسات، باستثناء دراسات حمادي صمّود ومن انتحَوْا نحوَه، قد أخلّت بمقتضيات المقارنة العلمية والتاريخية الدقيقة بين بلاغة غير العرب وبلاغة العرب، التي لم تخرج الخطابة عن مدارها، بل ظلت صناعةً رئيسة في تقعيد البلاغيين وتقنينهم وتأصيلهم، كالشعر والترسّل والقرآن، حتى عهد السكاكي.

ومع محاولة الكتاب تجاوُزَ قراءةِ المحْدَثين التراثَ العربي بأدوات أجنبية مخالفة لظروفه، مع الاعتراف بتقاطع النظامَين الفكريَّين الإغريقي والعربي في بعض الكليات والأصول الكبرى، كرَّسَ فكرةَ أن البلاغة القائمة على الخطابة عند اليونان مفهوم متمحور حول الفصل بين بلاغة المنثور الخطبي وبلاغة المنظوم الشعري، وأن البلاغة عند العرب مفهوم عام عابر لأجناس القول، وواعٍ بما يميز بعضها من بعض، كما أن البلاغة العربية لم تكن ظلًّا للخطابة الإغريقية، فالبلاغة عند أي أمة هي ذات أصول ثقافية عميقة تعطل القول بكون الخطابة في مفهومها الغربي صالحة للتعميم.

لقد أقام الكتاب الحجة على أن التفكير العربي في البلاغة مثَّلَ، كما في النحو، مرحلة متقدمة في تاريخ العلوم اللغوية لم تتجاوزها غيرُ الدراسات الحديثة، وأن الدارسين لم يحسنوا التمحيص والتدقيق، وتسرّعوا خلال دراسة الخطابة فانتقصوا من جهود المفكّرين. وقد أورد أمثلة من تأويل الدارسين كتابات الفارابي وابن سينا وابن رشد عن الخطابة تأويلًا بعيدًا كل البعد عمّا قصد إليه أصحابها، وقدَّم في خضمّ ذلك قراءة لكتب الخطابة للفارابي والخطابة لابن سينا وتلخيص الخطابة لابن رشد لم يكتفِ فيها بالنقد والتقويم، بل جاوز ذلك إلى استقراء الواقع، وحَشَدَ بصبرٍ أغلب الخطب كما وردت في النصوص، وهو ما لم يفعله أحد من قبل، مميّزًا في معالجتها بين حقيقتها التاريخية وحقيقتها الثقافية.

وبجمع الكتاب المدونة الخطبية ودراستها، أعاد النظرَ في إجماع الدارسين قبله في تقسيم وتحقيب وتحديد الخطبة والوصية والمناظرة وغيرها من أجناس الخطاب الشفاهي. وهو يُعتبر غير مسبوق في تحديده حقيقة مفهوم الخطابة عند العرب، فمعظم الدراسات والمعاجم تعتمد تعريفات أرسطو والغربيين من دون التنبّه إلى ما يميزها في التراث العربي، في حين ينحو كتاب ابن رشد تلخيص الخطابة إلى أن بلاغة الخطبة لدى القدامى لم تقتصر على جمال العبارة وحسن التنسيق بل كانت بلاغةَ حجة واحتجاج، واعتنت بمختلف الكفاءات الصوتية والنطقية عند الخطيب، ودور الخطيب التمثيلي وما يتطلبه من طقوس ورموز، كحمل العصا ولبس زي خاص إلى غير ذلك من جوانب "الفضاء الخطبي" كما سماه الكتاب.

ويدعم الكتاب تقاليد المقاربات اللغوية التونسية بترسيخ الخطابة التقليدية في صلب الدراسات اللسانية، كما يؤصّل الخطابة في إشكالية المتكلم والسامع من منظور تداولي، حديث كَشَفَ "الطبيعة التفويضية للخطيب" كما سمّاها، وكذلك "الطبيعة الحوارية للقول الخطبي في الثقافة العربية"، ومَكَّنَ من إعادة النظر في أنماط السامعين وصور حضورهم في الخطب العربية.

عودة من الماضي البعيد والقريب

بعد عودة صناعة الخطابة ومصطلحاتها ومفاهيمها وآلياتها بقوة في العقود الأخيرة إلى النقد الأدبي ولسانيات النص ومدارس تحليل الخطاب، حاول بعض الدارسين تصوير الأمر كما لو كان مقطوع الصلة بالماضي، لما آلت إليه الخطابة منذ ظهور الرومنطيقية إلى خمسينيات القرن العشرين من قطيعة مع كبار المبدعين والنقاد، ربما بسبب نزعتها المعيارية والمدرسية وكثرة قواعدها وغرابة مصطلحاتها ومساهمة تيارات نقدية في نبذ كل ما يمت إلى الشعرية القديمة بصلة، ما أشبه ثورة فعلية ضد سلطان الخطابة والكلاسيكية أدت إلى محو ذكرها، ومنع تدريسها، واستبدال دراسات أدبية جديدة بها، كتاريخ الأدب أولًا والأسلوبية ثانيًا، لأسباب ذكر الكتاب منها اثنين: الأول انحسار البنيوية في تناول نصوص الأدب، والاهتمام المتزايد منذ الستينيات باللسانيات التداولية؛ إذ إن صناعة الخطابة بأصولها وقوانينها التي وضعها كبار البلاغيين تداوليةٌ في جوهرها، فـ "المقام" على سبيل المثال لا الحصر هو أحد المفاهيم المركزية لبلورة أبسط القواعد وأعقدها. وهكذا، وجد أغلب الداعين إلى تأسيس "نظرية تداولية للنص" أو المبشرين بميلاد "بلاغة جديدة" أو العاملين على "تطوير نظرية الأدب" ضالتَهم في شبكة المفاهيم الواسعة التي أرستها هذه الصناعة عبر تاريخها الطويل.

السبب الثاني يعود إلى نقد فلاسفة منتصف القرن العشرين وما بعده ومناطقته ما ساد الفلسفةَ الغربية الحديثة من اختزال للعقلانية؛ ما أدى إلى إقصاء ضروب من النشاط العقلي كانت فاعلة في تدبير شؤون المجتمعات والفصل في النزاعات بقوة الكلام وسلطان الخطاب والإقناع، كما نحا أرسطو قديمًا، حينما جعل منطقه منفتحًا على ضروب الاستدلال، اليقيني منها والمرجَّح، وبيرلمان حديثًا، حينما أقام حوارًا خصبًا بين الجدل والخطابة وبين الاتجاه الوضعي في الفلسفة الحديثة، منطلِقًا من مرجعيته الأرسطية للدعوة إلى "الخطابة الجديدة" كما سماها.

الخطابة في تراثنا العربي

انطلاقًا مما جرى تسليط الضوء عليه من الخطابة عند الغربيين، يتجه الكتاب إلى وضعية هذه الصناعة عربيًّا، فيبيِّن أنها مختلفةٌ أشدَّ الاختلاف وإشكاليةٌ إلى أبعد الحدود، وأن صورة الخطابة في دراساتنا الحديثة هي صورة صناعة على هامش التفكير البلاغي عند العرب، وحتى خارج نظام البلاغة العربية؛ ما أنتج مسلكَين متناقضَين كل التناقض لدى الباحثين المعاصرين بشأن الشعر والخطابة، ففي الشعر ينطلقون من تعريفات القدامى وقواعدهم وآرائهم، وحتى نقدهم شعر القدامى كان ينطلق من تصور ناظميه للشعر والشعرية، أما في الخطابة، فتندر الإحالات على النقاد العرب وبلاغييهم، في وقتٍ تكثر الإحالات على خطابة أرسطو، مباشرة أو بالشرّاح العرب، كما يكثر الاعتماد على تعريفاته وتقسيماته ومصطلحاته، ما انسجم منها مع الخطابة العربية وما لم ينسجم. ولعل ما أغراهم بهذا شمول النموذج الأرسطي ودقته وتكامله فظنوه بديلًا من ضرورة البحث في أصول صناعة الخطابة عند العرب، أو أنهم تناولوها بطريقة عرضية وفي نطاق إشكالية أكبر، أو بحثوا فيها وانتهوا إلى إنكار وجود صناعة خطابية عربية واضحة المعالم، حجتهم في ذلك قلة نقد الخطابة كمًّا وانعدامه كيفًا، و"انحطاط الخطابة" في مرحلة تطور النقد، وعدم تمييز النقاد العرب بين خصائص الشعر وخصائص النثر، وبساطتها مقارنة بخطابة أمم أخرى يُحتفى فيها بالعبارة على حساب الفكرة، وبالنزعة الدينية والتأثيرية على حساب روح الجدل والحجة؛ وكلها أفكار ناجمة عن قراءة مغلوطة لتاريخ بلاغتنا، ومقارنتها ببلاغة أمم أخرى مقارنةً غير علمية ودقيقة. صحيح أن الخطابة في تراثنا لم تحظَ بتأليف مستقل باستثناء البيان والتبيين، وأنها بعد الجاحظ خفَّت في كتابات النقاد والبلاغيين، وأن النشاط النقدي والبلاغي منذ نهاية القرن الثالث للهجرة تركّز حول الشعر والترسل وإعجاز القرآن، إلا أن هذا كله لا يعني البتة أن الخطابة خرجت عن مدار البلاغة وهوت إلى قاع النسيان، بل استمرت إحدى الصنائع الرئيسة في كل ما قعَّدَ فكْرُ البلاغيين وقنّن وأصّل وصولًا إلى السكاكي، وهو ما خصص له القسم الثاني من الكتاب صفحات مطولة.

طه حسين وأطروحته الإشكالية

لقد فصَلَت البلاغةُ اليونانية والغربية عمومًا بين النثر والشعر، أما البلاغة العربية فقد استوعبت بلاغة المنثور والمنظوم، والقلم واللسان، والخطبي والشعري، فأضحت بلاغة عامة عابرة لأجناس القول، من دون إغفالها ما يميز هذا الجنس من ذاك وهذه الصناعة القولية من تلك. لكنّ من جرى اعتبارُه أحد المؤسسين لفكرنا النقدي الحديث، وهو طه حسين، كان وراء الأطروحة التي سادت أهم الدراسات العربية الحديثة، وهي أن البلاغة العربية كانت ظلًّا للبلاغة اليونانية، والفلسفة العربية ظلًّا لفلسفة الإغريق، وهو نفسه الذي استنتج أن الجرجاني لم يكن سوى فيلسوف أجاد في أسرار البلاغة (وهو كتاب يُعتبَر غرة البيان العربي) شرْحَ أرسطو. وسار على

"عقيدة" حسين النقدية من بعده كثيرون، حتى طلع محمد العمري في عمل نقدي ضخم يذهب فيه إلى أن الجرجاني كان يصوغ نظرية المحاكاة الأرسطية بحسب قراءة الفلاسفة العرب.

وعلى صعيد الدراسات الخطبية، كانت النتائج المباشرة لتصور حسين اتخاذ التجربة اليونانية مسلَّمةً في تفسير كل ما يمتّ إلى الخطابة العربية بصلة؛ ما يفسر تحلُّلَ معظم الدارسين من كل منهجيات الدراسة العلمية في حالة كانت الخطابة العربية موضوعَ الدرس والنظر، مثل: التحقيق في الحدود البنيوية للمدونة الخطبية عند وجود تشابه في البنية الخارجية، كما وقع لكثيرين عدّوا الوصايا والمناظرات والمنافرات ومقامات الزهاد خُطبةً لمجرد كونها كلامًا بليغًا يُشافَه به، ومثل: أقُصِر التحقق من وتيرة الإنتاج الخطبي في تاريخنا القديم على مراحل التأسيس الأولى أم أن الخطابة بوصفها ضرورة اجتماعية كانت متساوية بين الفترات؟ ومثل: التساؤل عن سلامة التفسيرات الغربية لنشأة الخطابة الإغريقية وتطورها وانحطاطها، وهل يجوز اتخاذها قدوة لكل الثقافات و"الخطابات"؟ ومثل: أتتسم الخطابة في جميع الأمم بأنها ذات طبيعة جوهرية واحدة أم أنها تتأثر بطبيعة الثقافة السائدة، يونانية كانت أم عربية؟ ومثل: ما الذي يحدد بلاغة الخطبة ويميزها من بلاغة القصيدة والقلم واللسان؟

يتناول القسم الأول من الكتاب الخطابة في دراسات المعاصرين، ورغم نقده كثيرًا من أحكامهم واستنتاجاتهم، يقرُّ بأن طروحاتهم ذات فضل كبير في تعميق الوعي بإشكاليات موضوع الخطابة. ويتطرق القسم إلى إدراج طائفة من الباحثين المحدَثين مؤلفات الفارابي وابن سينا وابن رشد ضمن المصادر النظرية للخطابة العربية بوصفها شروحًا لخطابة أرسطو، معتبرًا أنه لو جرى التسليم بصدق طريقتهم في التأويل وجعلها لَبِنة يُبنى عليها لما جرى الخروج بنتيجة مفادها أن الشراح العرب وإن سايروا أرسطو في مسائل فقد تجاوزوه في معالجة حدِّ الخطابة ووظيفتها؛ وهو ما يُدرِج كتابات هؤلاء الثلاثة في تصور عربي صميم لهذه الصناعة. وتضمّن القسم إعادة للنظر في حركة تدوين الخطب العربية ابتداءً من القرن الثاني للهجرة، وعرض أسباب تدوينها، ومحاولة للإجابة عن التساؤل: ما سبب اقتصار التدوين على خطب القرن الأول وجزء يسير من الثاني للهجرة؟ وهل كان في ذلك مبرر لاستنتاج أن الخطابة انتقلت بعدها إلى طور الجمود والانحطاط؟

ويستعرض القسم الثاني بدايةً إبداع العرب في نظم الشعر ونقده، وكتابة الرسائل والتأليف في قواعدها، أما الخطابة، ومع تعاظم أمرها في مرحلة قصيرة من تاريخهم، فإن تراجع دورها بعدئذ انعكس ضعفًا في "حضورها" الذي يشدد القسم على أنه لا يعني غيابها؛ إذ مع مراجعة بلاغيات عربية ويونانية ولاتينية، ومقارنتها بمصادر غربية قديمة عن الخطابة، وأخرى عربية تحتوي على إشارات مهمة حول البلاغة "الخطبية" و"الرسائلية" و"الشعرية"، فقد جرى الخروج بانطباع قوي بأن الإشكال ليس في وجود صناعة خطبية عربية بل في طريقة كتابتها والكتابة عنها.

وهدف القسم الثالث من الكتاب إلى إثبات أن عرض الأصول والمبادئ النظرية والقوانين الكلية التي تقوم عليها أجناس الأدب والخطاب لا يكفي لتقديم صورة دقيقة عن واقع النصوص وحقيقتها، وأن النصوص الخطبية المدروسة لا يمكن فهمها وتحليلها وتأويلها إلا بوضعها في إطارها التواصلي، بما هو إطار واقعي تاريخي يتطلب منا تحديد هوية المتكلم والسامع والإلمام بجميع العناصر المقامية الأخرى المؤثرة في تكوين الخطبة وحدوثها، مثل الخصائص البنيوية والفنية المحكومة بطبيعة الفضاء الذي تلقى فيه، والمقام الذي يكيّفها لمقتضياته.

اقــرأ أيضًــا

فعاليات