تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان (2019-2021)

مشكلات الراهن وتحديات المستقبل

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان (2019-2021): مشكلات الراهن وتحديات المستقبل، ويحتوي على مقدمة وعشر دراسات لعشرة باحثين، ويتناول بالبحث الإجمالي تاريخ المسارات الديمقراطية في السودان وما شهدته من انتخابات برلمانية وما تلاها من فترات انتقالية وانقلابات عسكرية، كما يتناول بالبحث التفصيلي الفترة الانتقالية الثالثة التي شهدها السودان بعد إطاحة نظام عمر حسن البشير. حرر الكتاب الباحث أحمد إبراهيم أبو شوك، وهو يقع في 440 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

نظَّم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة بين 9 و12 تشرين الأول/ أكتوبر2021، ضمن سلسلة مؤتمرات "مشروع التحوّل الديمقراطي ومراحل الانتقال في البلدان العربية" السنوية الهادفة إلى توثيق أحداث ثورات شعبية حدثت في بلدان عربية وتقديم مقاربات علمية عن تحديات انتقالها إلى نظام ديمقراطي تعددي وحكم القانون والمواطَنة وحماية الحريات المدنية والسياسية، مؤتمرًا افتراضيًّا بعنوان: "الموجة الثانية من الانتفاضات العربية: تجربتا السودان والجزائر". ويضمَّ كتاب تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان (2019-2021): مشكلات الراهن وتحديات المستقبل الدراسات التي قُدّمت عن التجربة السودانية فيه، والتي يدور محورها حول الفترة الانتقالية التي أعقبت إطاحة الرئيس عمر حسن البشير في 11 نيسان/ أبريل 2019 بفعل ثورة شعبية اندلعت في 13 كانون الأول /ديسمبر2018، ولم تكن نموذجًا من ثورات الربيع العربي، بل نمطًا سودانيًّا متكررًا بدأ بثورة في 21 تشرين الأول/ أكتوبر 1964 خلعت نظام الرئيس إبراهيم عبود العسكري (1958-1964)، الذي تدخّل خلال حكمه لإجهاض تجربة حكم برلماني في السودان تخللتها محطتان: الانتخابات البرلمانية الأولى في عام 1953، التي أنتجت برلمانًا أعلن الاستقلال في عام 1955، ليحصل السودان عليه في عام 1956، ثم انتخابات عام 1958، التي نشأت عنها حكومة ائتلافية لم تستمر سوى بضعة أشهر قام رئيسها عبد الله خليل بعدها بتسليم الحكم إلى سلطة عسكرية بقيادة عبود، الذي أسقطت نظامَه ثورة أكتوبر 1964، لتتوافق الهيئات النقابية والأحزاب السياسية بعدها على فترة انتقالية أولى يتم بعدها تشكيل حكومة انتقالية هدفها الأساس تنظيم انتخابات برلمانية ثالثة تمهّد الطريق لإحداث تحوّل ديمقراطي مستدام، فأُجريت هذه الانتخابات عام 1965، ثم تلتها انتخابات رابعة في عام 1968، لكن جعفر النميري انقلب عسكريًّا على الاستحقاقات الديمقراطية والحكومة البرلمانية المنتخبة بالتعاون مع بعض القوى اليسارية في 25 أيار/ مايو 1969 ، وأنشأ حكمًا عسكريًّا استمر 16 عامًا، لينتفض السودانيون ويطيحوا نظامه في عام 1985، ويعيشوا بعدها الفترة الانتقالية الثانية التي دامت سنة، وأعقبتها انتخابات عامة خامسة في عام 1986 أفرزت حكومات حزبية ائتلافية عدة فشلت جميعًا في إحداث تحوّل ديمقراطي حقيقي، ومهدت السبيل للانقلاب العسكري الثالث في تاريخ السودان الذي قامت به الجبهة الإسلامية القومية تحت اسم "ثورة الإنقاذ الوطني" بقيادة عمر البشير في 30 حزيران/ يونيو 1989، ليتحول النظام العسكري "عسكريًّا – إسلاميًّا" هذه المرة، ويستمر ثلاثين عامًا، لتندلع في وجهه بدءًا من كانون الأول/ ديسمبر 2018 ثورة شعبية بدأها ائتلاف من مجموعات علمانية كثيرة (من أهمها "تجمع المهنيين السودانيين" و"نداء السودان") صاغت في عام 2019 "إعلان الحرية والتغيير"، الذي طالب بالتنحّي الفوري لرئيس النظام وحكومته، واستطاعت في 11 نيسان /أبريل 2019 إطاحته، لتبدأ بعدها فترة انتقالية ثالثة خُصصت فصول كتابنا تجربة الانتقال الديمقراطي في السودان لدراسة أدائها، وطرح ثلة من الأسئلة الجوهرية عن مستقبلها والمآلات التي يمكن أن تؤول إليها (ديمقراطية تعددية، نظام استبدادي جديد، نظام استبدادي هجين من الاثنين).

سمات الفترة الانتقالية الثالثة

تمتد هذه الفترة بين إطاحة حكم "الإنقاذ" في نيسان 2019 حتى الانقلاب على أول حكومة بعد "الإنقاذ" التي شُكلت في 5 أيلول/ سبتمبر 2019، وتم الانقلاب عليها في 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021. وتُجمل كلمات الباحثين سمات هذه الفترة بأوجه تميّزها من سابقتيها، وهي:

أولًا: جاءت بعد استقلال جنوب السودان في عام 2011 وتَقَلُّص مساحته، وظهور قادة الحركات المسلحة في دارفور وجنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان فاعلين جددًا في الساحة، نتيجةَ توقيعهم "اتفاق جوبا" مع الحكومة الانتقالية الثنائية (العسكر - قوى الإعلان) في عام 2020 (خلال الفترة الانتقالية)؛ ما جعلهم مكونًا ثالثًا فيها، وضعف الأحزاب التقليدية كـ "الأمة" و"الاتحادي الديمقراطي"، وتشكيل أحزاب علمانية، وتصاعد الصراع بعد إسقاط البشير بين قوى "إعلان الحرية والتغيير"، بسبب تعدُّد أيديولوجياتها.

ثانيًا: شهدت توافق قوى "الإعلان" بعد أربعة أشهر من إسقاط البشير على الشراكة مع الجيش في وثيقة دستورية وقَّعها الطرفان في 17 آب/ أغسطس 2019، نصّت على تحديد أمد الحكومة الانتقالية وهياكلها بثلاثة أعوام وبضعة شهور، معتبرةً إياها مدة كافية لتفكيك بنية النظام القديم والتهيئة لمشهد جديد في البلاد، فصدّقت على قوانين هذه الحكومة فشكّلت في أيلول/ سبتمبر 2019 برئاسة عبد الله حمدوك، كما صدّقت على قرار بحلّ الحزب الحاكم في حقبة الإنقاذ ومصادرة ممتلكاته، ولم تدرِ أنها بهذا الإجراء حوَّلت أنصار الحزب المحلول إلى "ثورة مضادة".

ثالثًا: الحكومة الحمدوكية والأحزاب المساندة لها لم تبذلا جهدًا يُذكر في استحقاقات تُعتبَر أساسيةً لأي انتقال ديمقراطي، كتشكيل مفوضية للإشراف على الانتخابات، وإجراء تعداد سكاني لتقسيم الدوائر الانتخابية وغيرهما، بل ركّزت على تفكيك النظام القديم وتقاسم المناصب.

رابعًا: إن طرفَي العسكر والحركات المسلّحة في "اتفاق جوبا" انقلبا على الطرف الثالث فيه، وهو قوى "الإعلان"، قبل انقضاء الفترة الانتقالية وأبعداها عن السلطة، بإعلان الفريق أول عبد الفتاح البرهان في 25تشرين الأول/ أكتوبر 2021 حالة الطوارئ، وتجميد موادّ في الوثيقة الدستورية، وحلّ مجلسَي السيادة والوزراء، واعتقال رئيس مجلس الوزراء وبعض النافذين في المجلسين السيادي والوزاري، وإعفائه الولاة.

يتألف الكتاب من عشرة فصول؛ تناول الفصل الأول قراءة تحليلية لمفهومي "الصفوة" و"الثورة المضادة" وعلاقتهما بحلقة وصفها الباحث عبد الله إبراهيم بـ "الجهنمية"؛ إذ بدأت بتدشين السودانيين بعد الاستقلال (1965) حكمًا برلمانيًّا، تلاه حكم "عسكري سلطوي" (عبود) أزاحته ثورة شعبية (ثورة أكتوبر)، أعقبتها فترة انتقال ديمقراطية (من عام 1964 إلى عام 1965) توِّجت بانتخابات عامة (ثالثة ثم رابعة)، تلاها انقلاب النميري ... وهكذا. ويرى إبراهيم أنه لا ينبغي تفسير هذه الحلقة ودينامياتها المحرِّكة بفشل الصفوة السياسية أخلاقيًّا، بل بصراع المصالح بين "البرجوازية المدينية الصغيرة" و"الوصائية الوراثية" وتعارض رؤيتيهما تجاه الانتقال الديمقراطي والتغيير، وهو صراع ساهم في إجهاض ثورات السودان الثلاث: ففي عام 1964 (أسقطت عبود) وفي عام 1985 (أطاحت النميري) وفي عام 2018 (مهّدت لإسقاط البشير)، فعندما كانت القوى التقليدية تهدد حظوظ البرجوازية الصغيرة في البرلمان كانت الأخيرة تتحالف مع العسكر لتغيير النظام الديمقراطي المهدِّد لإقطاعيتها، فقاما بأربعة انقلابات عسكرية في أعوام 1958 (عبود) و1969 (النميري) و1989 (البشير) و2021 (البرهان). ويعتبر إبراهيم أن لا فرقَ بين العسكريين الانقلابيين والبرجوازيين، وأن منطلقات الانقلابات العسكرية طبقية وليست يسارية أو إسلامية كما يتم الإعلان، وأن لكل ثورة ثورةً مضادّة من الحرس القديم.

في الفصل الثاني، ينظر حسن الحاج علي أحمد إلى الحكومة الانتقالية من زاويتين: الأولى التباين في خيارات مكوّناتها الثلاثة (الجيش والدعم السريع والحركات المسلّحة الموقِّعة اتفاق جوبا) برغم التوحّد الظاهري، والثانية المكوّن المدني (قوى إعلان الحرية والتغيير) الذي يراه ذا تركيبة هجينة بتوجّهات استراتيجية متباينة. ويرهن الحاج علي أحمد استقرار الفترة الانتقالية بكفاءة شقَّي النخبة الحاكمة العسكري والمدني في إدارة الخيارات الاستراتيجية للوصول إلى أهداف الفترة المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية بإجراء انتخابات عامة وتأسيس بناء تشريعي وتنفيذي للدولة نهاية هذه الفترة، التي يرى أن طولها يؤثر في الاستقرار العام؛ لأنه يُدخل المكونات الهجينة في صراعات أيديولوجية تهزّ البلاد نتيجةَ التحالفات المتغيرة وفقًا للهويات السياسية المتبدلة، ويرجِّح انتقال البلاد خلال هذه الفترة إلى تسلّطية عسكرية بدلًا من ديمقراطية مبتغاة.

يناقش التجاني عبد القادر حامد في الفصل الثالث ما سماه "هجنة مركَّبة" للحكومة الانتقالية تنعكس سلبيًا على المسار الديمقراطي، طارحًا أسئلة ثلاثة: أكان سقوط "الإنقاذ" بمبادرة داخلية أم بتحالف المعارضة أم بالاثنين معًا؟ وهل أثّر العاملان الدولي والإقليمي في مرحلتَي السقوط والانتقال الديمقراطي؟ وهل يكون ما بعد "الإنقاذ" ديمقراطيًّا أو تسلّطًا جديدًا؟ ولماذا؟ وقد حاول حامد الإجابة وفق نموذج ألفرد ستيبان (Alfred Stepan) القائل بعودة الديمقراطية إما بمبادرة من النظام السلطوي نفسه، وإما بتحالف القوى المعارِضة، وإما باتفاق معتدلِي الطرفين، ورأى أن هناك بعض التماهي بين النموذج وأحداث السودان؛ إذ إن مبادرة نظام البشير كانت بتكليفه "اللجنة الأمنية العليا" التفاوض مع الثورة الشعبية المتصاعدة، ولكن مع وجه اختلاف عن النموذج تمثَّلَ في دعم السعودية والإمارات ومصر التغيير في السودان لمصالح استراتيجية تتمثّل في استمرار السودان في حرب اليمن ومساندته مصر في قضية سد النهضة. ويرى حامد أن المكوّن العسكري وجد نفسه أمام تحدِّيَين: إمّا أن يصبر إلى حين انقضاء فترة الوثيقة الدستورية مع احتمال خروجه خاسرًا خلالها، وربما ملاحَقًا قضائيًّا، وإما أن يقفز إلى الأمام ويفرض أمرًا واقعًا، فشكّل تحالفًا مع حركات اتفاق جوبا المسلح، ومدّد الفترة الانتقالية عامًا إضافيًّا، وأضعف موقف شريكه اللدود قوى إعلان الحرية والتغيير، وبذلك يصل حامد إلى نتيجة أن "البرجوازية الصغيرة" ضد أيّ انتقال ديمقراطي لا تتحقق مكاسبها الإقطاعية في الانتخابات، وأن القوى الإقليمية ستبقى عائقًا لأي عملية انتقال ديمقراطي إذا لم تخدم مصالحها.

يقدّم كرار محمد التهامي في الفصل الرابع مقاربة ثنائية تقوم، أولًا، على تحليل نماذج الانتقال الديمقراطي التاريخية في السودان وفاعليه السياسيين أو معارضيه، كالأحزاب التقليدية الوصائية التي تحبّذ انتخابات الصوت الواحد، بحكم امتلاكها قاعدة واسعة من الصوفية والقبائل، في حين كانت القوى الحداثية العقدية تناضل للوصول إلى السلطة والحكم في السودان عبر مسارين: إما ابتداع نظام انتخاب جديد يحجّم نفوذ الأحزاب التقليدية، وإما التحالف مع العسكر للانقلاب على نظام الصوت الواحد. ويصف التهامي هذه الثنائيات المتناقضة بـ "القصور الجيني" لدى الطرفين، وبأنه لا بد أن ينعكس سلبيًا على التحول الديمقراطي، وأنه لتجاوز هذه الأزمة يجب "ترويض الجيش" وجعله جزءًا من البناء الديمقراطي، بحيث "لا يحكم ولا يكون بعيدًا عن الحكم"، مقترحًا في هذا الإطار "نظرية التوافق" لريبيكا شيف (Rebecca Schiff)التي تحقق التحول الديمقراطي الذي يخدم مصالح البلاد تحت شعار "الكل يكسب"، بعد أن عجزت الأطراف جميعًا، منفردة أو متحالفة عن إقامة نظام حكم راشد في السودان، وهو مشروع للسلطة يحتاج إلى مراجعات كبرى، وإعادة تأهيل المؤسسات وفق القيم الديمقراطية، كما أنه يختلف عن مشاريع إبعاد المؤسسة العسكرية عن السياسة وإلزامها مهمة حماية الدستور والأمن القومي لضمان استمرارية التحوّل الديمقراطي الذي كُرِّس إثر الانتفاض على الأنظمة العسكرية. والنموذجان محل جدل أكاديمي واسع.

استمرّ الفصل الخامس لمرافئ الباهي في مناقشة "الهجنة المركَّبة" للحكومة الانتقالية، التي أفسحت المجال أمام العامل الخارجي بشقيه السياسي والمالي للتحرك داخل السودان لتحقيق مصالحه الاستراتيجية، في علاقة جدلية تربط تعدد هذه المصالح بـ "أمننة" الانتقال الديمقراطي على حساب الانتقال الديمقراطي الطبيعي، وهو ما يظهر جليًّا في علاقة متنامية بين العسكر وحكومات السعودية والإمارات ومصر التي تتحرك من واقع مصالحها في استمرار مشاركة السودان ضد حوثيّي اليمن ودعمه التطبيع مع إسرائيل ومساندته مصر في مفاوضات سد النهضة مع إثيوبيا، وهي قضايا لا دخل للسودان بها، لكنها أثّرت في بنية الحكومة الانتقالية وصرفتها عن تطبيق آليات التحوّل الديمقراطي المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، مؤكدة ما ذهب إليه عزمي بشارة من أن البيئة الإقليمية هي من عناصر تعقيد صيرورة الدمقرطة في البلدان العربية، وما قاله فرانسيسكو كافاتورتا (Francesco Cavatorta) من أن الدول الغربية الكبرى تدعم التحوّل الديمقراطي ظاهريًّا، لكنها تدعم أيّ نظام يخدم أهدافها الاستراتيجية الخمسة ولو كان سلطويًّا؛ وهي: الحفاظ على إمدادات الطاقة، ومواجهة التمردات الإسلامية، وتحرير الاقتصاد، وتقييد الهجرة، والسلام مع إسرائيل أو عدم معارضتها، ولذلك فإن هدفها الاستراتيجي بالنسبة إلى السودان هو إبقاء النظام القديم ممسكًا بالسلطة مع حد أدنى من الديمقراطية، لإدخال السودان تدريجيًّا في أهداف المنظومة الدولية.

وقدَّم الفصل السادس لبهاء الدين مكاوي محمد قيلي، عرضًا شاملًا لجذور الصراعات المسلحة في السودان وجهود معالجتها والخسائر الناجمة عنها، وناقش "اتفاق جوبا" لسلام السودان (2020) واشتماله على خمس اتفاقيات حول مسارات دارفور، والنيل الأزرق وجنوب كردفان، والشمال، والوسط، والشرق، وعلى "اتفاق القضايا القومية" وشرَحَ أهمَّ بنوده، كما طرح التحديات التي تواجه تنفيذه وسيناريوهين لمستقبله: إما التغلّب على التحديات وإنجاز عملية سلام ناجحة، لتوافر الثقة بين أطرافها ومشاركاتهم الفاعلة في الحكومات الفدرالية والدعم الشعبي والدولي لهذه العملية، وإما فشل الاتفاق والعودة إلى الحرب، لعدم تكافؤ أنصبة الأطراف في السلطة والثروة، وشُحّ الموارد المالية للتنفيذ، وصعوبة دمج جيوش الحركات المسلحة في المنظومات الأمنية المركزية، كما حدث عندما رفض مجلس نظارات البجا اتفاق جوبا وطالب بإلغاء مسار الشرق لعدم تلبيته حاجات الإقليم ومشكلاته، ولأن مَن وقّعوه لا يمثلون السواد الأعظم من أبناء الشرق.

وقد ألقى الفصل السابع لسلطان بركات ومنى هداية إضاءات كاشفة على مشكلة شرق السودان في العهود المتعاقبة ومناقشتها في ظل الحرمان النسبي لدى أهل الشرق والتنمية المختلة في مناطقهم، وتوترات القرن الأفريقي المحيطة وتقاطعها مع ما يجري فيه. ويرى المؤلفَان احتياج مشكلة شرق السودان إلى معالجة التصدعات المحلية أولًا بإيلاء التنمية الاقتصادية اهتمامًا خاصًّا وتطبيق اللامركزية الإدارية التي تُشعر أهل الإقليم بمشاركتهم في صنع مصيرهم، ثم معالجة التوترات مع القرن الأفريقي ثانيًا عبر الهيئة الحكومية للتنمية "الإيغاد"، وأخيرًا معالجة الأطماع الإقليمية والدولية بنأي الحكومة بنفسها عن سياسة المحاور الدولية المتصارعة، وتركيز اهتمامها في استغلال التنافس الدولي لجذب الاستثمارات إلى الإقليم، بإشراك المرجعيات السيادية للإقليم.

وفي الفصل الثامن يفترض خالد عثمان الفيل أن سبب الأزمة الاقتصادية المركَّبة للفترة الانتقالية هو البنية الاقتصادية السياسية الموروثة من الحكم الإنكليزي - المصري (1898-1956)، المتمثّلة في التنمية المختلّة بين الحضر والريف، وبروز نخبة رأسمالية ريعية في كل منهما تصيح ثرية من الفائض الاقتصادي. وينظر الفيل في أسباب فشل البرامج الاقتصادية التي طرحها وزير المال في حكومة حمدوك، إبراهيم البدوي، ومنها: رفع الدعم عن المحروقات والكهرباء، وتحرير سعر صرف الجنيه في مقابل العملات الأجنبية، وتحسين رواتب عاملي الدولة، ومشروع دعم الأسر الفقيرة، وحصرها في ثلاثة أسباب رئيسة: أولها حجب وزارة المال الحقائق عن مشكلات تنفيذ البرامج، وثانيها تعويل الوزارة على تمويل المجتمع الدولي من دون السعي لتطوير الموارد المحلية، وثالثها غياب المرجعية المؤسساتية في تحديد الصلاحيات لحل الخلافات بين الوزارة ولجنة قوى إعلان الحرية والتغيير الاقتصادية. وناقش الفيل "الشركات الاقتصادية الرمادية" بين الجيش والرأسمالية الريعية وعلائقها المصلحية.

الفصل التاسع ألقت فيه مشاعر أحمد الأمين الدولب الضوء على مشاركة النساء في الثورة السودانية، وعلى موافقة الحكومة الانتقالية على العمل بما جاء في "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة - سيداو"، معلنةً تحفظها على البنود (2) و(16) و(29/1)، بحجة تعارضها مع أحكام شرعية ناظمة لحياة المجتمع، كما ترى أنّ تطبيق "هندسة اجتماعية فوقية" غير مجدٍ، وربما يعطّل خطوات طبيعية في التغيير الاجتماعي. وترى الدولب أن الهندسة الاجتماعية الفوقية تُنتج أيضًا صراعًا مجتمعيًّا واصطفافًا سياسيًّا في القضايا ذات الطابع الثقافي والاجتماعي المتجذر في تراث المجتمع، فضلًا عن أنها ليست من أولويات الفترة الانتقالية، بل ربما تصرفها عن هدفها الرئيس، وتُشغلها بتجاذبات جانبية.

في الفصل العاشر، يتناول أحمد إبراهيم أبو شوك الموقف التاريخي للسودان من قضية التطبيع مع إسرائيل، ومواقف القوى السياسية المعارضة للتطبيع والمؤيدة له وتلك التي تقف في منزلة بين المنزلتين. ويناقش المسوِّغات الموضوعية التي دفعت حكومة الثورة الانتقالية إلى توقيع اتفاق أبراهام للتطبيع، وهي أزمة البلاد الاقتصادية وعزلة الحكومة سياسيًّا التي جعلتها عرضةً للابتزازَين الأميركي والإماراتي، بربط الولايات المتحدة توقيع السودان برفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، مع ما يعنيه هذا من إمكان حصوله على قروض مالية تمكّنه من سداد ديونه التي تجاوزت 60 مليار دولار أميركي، وهو دين استغلته الإمارات فحاولت الضغط على الحكومة الانتقالية لكي تكون رديفًا للإمارات في التطبيع مع إسرائيل. ويذهب أبو شوك إلى أن توقيع الاتفاق وسّع دائرة الخلاف داخل الحكومة، وبينها وبين الشارعَين المؤيد والمعارض؛ ما منح قوى الثورة المضادّة فرصة لتوظيف التطبيع لمصلحتها، إلى درجة تهديد استمرارية الحكومة.

في الفصل الأخير، بعنوان "تأملات ختامية"، تناول عبد الوهاب الأفندي نقدياً مساهمات فصول الكتاب في تشخيص علل مشروع الانتقال الديمقراطي السوداني خلال المحاولة الرابعة لاستعادة الديمقراطية في تاريخ السودان، الذي وصفه بأنه نظام هجين، أقرب إلى الاستبداد بسبب مركبه العسكري. ورفض الفصل الفرضية السائدة حول "الحلقة الجهنمية" ("المتمثلة في سرعة انهيار الديمقراطية وعودة الحكم العسكري، ثم استعادة ديمقراطية لا تعمر طويلاً") وتفسيراتها الطبقية البديلة. ويرى الأفندي أن ما شهده السودان كان نضالاً ديمقراطياً جماعياً خلاقاً ومستمراً، لم تصمد تجاربه الديمقراطية الملهمة في مواجهة الانقلابات بسبب الفشل في بناء مؤسسات ديمقراطية قوية، وأيضاً بسبب عنف حركات التمرد المسلح التي أضعفتها.

اقــرأ أيضًــا

فعاليات