صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب فهم الصراعات العربية، ويحتوي على عشر دراسات لعشرة باحثين من فلسطين والأردن ومصر وسورية والعراق واليمن، في اختصاص العلوم السياسية والصراعات الدولية وتسوية النزاعات والإصلاح المؤسساتي، والحوار والسلام، وتاريخ الشرق الأوسط، والإسلام السياسي، والإعلام، والفلسفة، وشؤون اللاجئين، والتنمية والعمل الإنساني، والاقتصاد السياسي، والسياسات الأمنية الحكومية، والاستخبارات، والمواطَنة، والمنظمات غير الحكومية، والمجتمع المدني، والقبائل، والجماعات المسلحة غير الحكومية، ومستقبل الخليج، والحركات الإسلامية. يحتوي الكتاب على أربعة أقسام تضمّ عشرة فصول، وحرره الباحث إبراهيم فريحات، وهو يقع في 376 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ظهر علم جديد بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1918، وكان حافزُ روادِه الأوائل فهْمَ مأساة الحرب والعمل على تجنّب تكرار آثارها الكارثية، ألا وهو علم "العلاقات الدولية". وقد ركّزت دراسات هؤلاء العلماء على محاولة فهم أسباب احتراب الدول وإرساء قواعد جديدة لتنظيم علاقات بينها تحدّ من إمكان نشوب حرب عالمية ثالثة أو أي حروب أخرى على نطاق أضيق. وانطلاقًا من تجاربهم لا بد لنا نحن العربَ من التفكير في مرحلة ما بعد ثورات الربيع العربي وعدم القفز فوق نتائجها المدمرة في دول مثل سورية واليمن مثالًا لا حصرًا، بل علينا الوقوف على أسباب تفجّرها، والديناميات التي حرّكتها عقدًا من الزمان، ثم على طرائق التعامل مع حركات التغيير في العالم العربي، سواء من النُظم الحاكمة، أو من قادة هذه الحركات وناشطيها والمؤثرين فيها، أو قوى المعارضة الكلاسيكية، أو الأكثرية الصامتة.
ويطرح سؤال أكبر نفسه، وهو: هل انتهى الربيع العربي؟ هل يمكن أن تتكرّر الثورات في العالم العربي بعنفها ودمويتها ونتائجها المدمرة السابقة؟
يذهب قسم من المحللين إلى أن تجارب الربيع العربي الشاخصة في سورية مثلًا ستشكل رادعًا دون خوضها مستقبلًا، أو لدى الجيل الحالي في أقل تقدير، وهو منطق تستخدمه الأنظمة العربية الأوتوقراطية، ويستبطن ترهيب الشعوب بنتائج مشابهة لما في اليمن وسورية في حال القيام بأي انتفاضة مستقبلية. في حين يذهب آخرون إلى احتمالية تكرار تجربة الربيع العربي وبضراوة أشدّ؛ لأن الفشل الأول رسّخ الظروف التي لأجلها انطلقت الثورة، من استبداد وقهر وانخفاض في مؤشرات التنمية، بل باتت أكثر حدةً، ولذلك ستكون الجولة المقبلة أشد دموية.
ومع اهتزاز نظرية فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ والتطور البشري عند الغرب وتقدمه العلمي واستقرار أنظمته الديمقراطية الليبرالية، بل بداية تحطّم هذه النظرية على صخور أزمات الغرب السياسية، وأهمها هجوم اليمينيين المتطرفين من أنصار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب 2021 على الكونغرس الأميركي، أهم مؤسسة تشريعية، نكتشف أن الاستقرار والسلام مؤقتان، فقد تعقبهما أزمات سياسية واجتماعية لا يمكن التنبؤ بنتائجها، وينطبق هذا على العالم العربي، الذي لم تنتهِ أزمة واحدة في بلدانه خلال نصف القرن العشرين بتوافق أطراف الصراع، بل كانت تناقضاته تعيد إنتاج نفسها بأشكال مختلفة.
وكما استفاد أكاديميو الغرب من دروس الحرب العالمية الأولى وأنتجوا علم العلاقات الدولية، فإن الأكاديميين العرب مدعوون اليوم إلى الاستفادة من تجربة الربيع العربي وإنتاج فكر أكاديمي يدرس أسباب ثوراته ودينامياتها ونتائجها وأساليب تجنّب الوقوع في ويلاتها الدموية مرة أخرى، ولذلك جاء كتابنا فهم الصراعات العربية باكورةً متواضعة على هذا الدرب ودعوةً إلى ضرورة تأسيس علم لدراسة الصراعات في العالم العربي يحلّل به باحثون عرب تجارب بلدانهم، ويكتبون عنها بدل استمرارهم في الاعتماد على نتاجات الأكاديميا الغربية عن العالم العربي.
وعلى الرغم مما تشير إليه الدراسات الدولية من أن أكثر من 70 في المئة من اللاجئين والنازحين في العالم هم من بلدان منظمة التعاون الإسلامي، يكاد البحث العلمي العربي حول أسباب الحروب وطرائق علاجها يكون الأفقرَ في العالم، كما يندر في العالم العربي وجود برامج للدراسات العليا ومراكز للبحوث المختصة في تسوية الصراعات بطرائق سلمية، على الرغم من انشغال كثير من دوله بشكل أو أشكال من الصراعات المختلفة.
لما كان علم دراسة الصراعات قد نشأ في الغرب، فإنه يُشترَط لاستخدام أدواته في تحليل الصراعات العربية تطويع الباحث العربي النظريات الغربية لجعلها تلائم الإطار الثقافي العربي، ولا يعني الاستغناء عن دراسة علم دراسة الصراعات الغربي؛ إذ لا يمكن أن تتطور حضارة من دون الاستفادة من الحضارات الأخرى، وهو ما يرمي الكتاب إليه؛ إذ يحاول لأجل فهم الصراع عند العرب التعرف إلى بعض سمات هذا الصراع وأنماطه الثقافية العامة في مراحله المختلفة، ثم تحليل عوامل تشكل هذه الأنماط، بهدف الغوص أكثر في الفهم وعدم الاكتفاء بالجوانب الخارجية الوصفية.
وقد ضُمِّن كتاب فهم الصراعات فصلًا جُعل بمنزلة قاعدة بيانات إحصائية للصراعات العربية ومضاعفاتها السلبية، مثل عدد القتلى والإصابات والنازحين واللاجئين قسرًا وطوعًا، خارجيًّا وداخليًّا، والخسائر المالية والاقتصادية الناجمة عنها وتأثيرها في المؤشرات البشرية والاقتصادية والاجتماعية والصحية والسياسية القابلة للقياس والتي أجرت مصادر موثوقة إحصاءات عنها؛ ما يضمن صحة إحصاءات تحليلات الكتاب ونتائجه.
ويولي الكتاب فهمَ جذور الصراع في دول العالم العربي داخليًّا وبينيًّا أهميةً خاصةً، لما يسود هذين الصراعَين وعواملَهما المسبِّبةَ من تداخل وتأثير متبادل، ولذلك يحلّل جذور الصراعات واستمرارها من منظور شامل، ويستخدم الأطر النظرية لفهم أسباب اندلاعها. ولأن الصراعات لا يمكن فصلها عن العوامل الاقتصادية، سواء كانت السببَ في اندلاعه أم المعزِّزةَ له، يسلّط الكتابُ الضوء على ما أُغفل في الأدبيات العربية من مسبِّبات اقتصادية - سياسية لنماذج من الصراع في الوطن العربي منذ عام 2010، لأجل فهم أسبابها واستمرار دينامياتها وتحولاتها الحرجة، ومن ثم استشراف مآلاتها.
إن فهم الصراعات العربية في إطارها الثقافي غير ممكن من دون التطرق إلى دور الدِّين في تنظيم قواعدها أو صوغ الردود عليها أو تسويتها، وقد أفرد الكتاب فصلًا خاصًّا بدور الدِّين في موضعة الديني في السياسي في الصراعات العربية، وبكيفية توظيف الثقافة الدينية فيها وأبرز أوجه هذا التوظيف، لما لهذين العاملين من حضور في الخطابَين العربيَّين الرسمي والمعارض.
لا ينكر أحدٌ حضورَ القبيلة الفاعل في المجتمع العربي وصراعاته تاريخيًّا، إلا أنه ليس ثمّة اتفاق على طبيعة دورها في ظل فهم متوارَث لدور سلبي للقبيلة يصفها بالعنف ومعاداة الدولة وتقويض سيادة القانون على الدوام، وكذا فهمٍ مبسَّطٍ لدور زعمائها يمنحهم سلطة مطلقة، في حين يُصوَّر رجالها مرتزقةً يرتهنون بأوامر الزعماء، ولذلك يُفرد كتابنا فهم الصراعات العربية فصلًا لتتبُّع دور القبيلة في الصراعات العربية لأجل الوصول إلى فهم أعمق لهذا الدور والتوصل إلى تطويع نفوذ القبيلة لتأدية دور إيجابيّ في أي صراع.
ليس ثمة صراع عربي واحد يخلو من تدخلات خارجية، فكان لزامًا في الكتاب عدم إغفال دور هذه التدخلات في تأجيج الصراعات العربية في مرحلة الربيع العربي، أو حتى التسبب فيها أحيانًا، محاولًا فهم طبيعة هذه التدخلات وأنماطها وتفاعلاتها، لمعرفة دورها وتأثيرها في بنية الصراعات العربية ومآلاتها. ومما لا شك فيه لدى كثيرين في هذا الإطار أن "العولمة" من أهم وسائل التدخل الخارجي، بالرغم من الغموض لدى بعض هؤلاء في ما يخصّ ماهيتها وأيديولوجياتها المساندة وتفاعلاتها مع الاقتصاد والاجتماع والسياسة في أقطار الوطن العربي المختلفة، فكان لا بد من درس ظاهرة العولمة في الصراعات العربية، ومحاولة الإجابة عن سؤال ما إذا كانت ساهمت في حل النزاعات العربية أو تخفيف تفاقمها، أم أدت إلى تعميقها وإذكائها.
وفي سياق الصراعات العربية ودينامياتها، يتناول الكتاب طرائق ثقافية بُذلت في محاولة لحل الصراعات، ومنها الوساطة، فيستعرض النهج العربي - الإسلامي فيها ومحدّداتها وسماتها وقواعدَها وشروطَها ومنهجيتَها ودينامياتها على نحو مفصل، فضلًا عن ملاحظات تتعلق بصلاحياتِ الوسيط فيها.
ومن صلب الخصائص الثقافية العربية، يعالج الكتاب موضوع "المصالحة المجتمعية" بجوانبها المختلفة، لا بوصفه طريقة لتسوية الصراع العربي فحسب، بل بوصفه آلية فعالة لمنع تجدده أيضًا، بالعمل على تحديد اللَّبِنات الأساسية المطلوبة لتحقيق المصالحة، ثم إعادة تصورها ضمن عقود اجتماعية متجددة ومتجذرة في العدالة، وشاملة في معالجة ركائزها الثقافية والمؤسساتية والسياسية اللازمة.
عالج المساهمون في الكتاب قضاياه بموضوعية وتجرّد من التفكير الرغبوي والتحيزات بأشكالها المختلفة، ودرسوا الأحداث كما هي في العالم الواقعي، وبالرغم من الدروس والعِبَر التي ذخر بها الكتاب والتي تُمَكِّن مَن هم في دوائر صنع القرار من الاستفادة منها في فهم الصراع وإدارته وتسويته، فإن الكتاب حافظ على طابعه الأكاديمي الهادف إلى تقديم معرفة علمية صرفة عن واقع الصراعات العربية للباحثين وطلاب الدراسات العليا، مع ضرورة التنبيه إلى أنهم لم يضعوا نصب عيونهم خلال نشر مادة الكتاب هدف المساعدة في الوصول إلى الاستقرار والسلام في العالم العربي، فإن هدفًا كهذا يعني في الظروف والمعطيات الحالية خدمة النُّظُم القائمة التي كانت السبب الرئيس في تفاقم صراعات المنطقة، ومن ثم إبقاء نار الصراع تحت الرماد، عبر ترسيخ الدكتاتوريات وقمع الحريات، بينما ثمن الاستقرار والسلام يجب أن يكون تحقيق العدالة والحرية والكرامة الإنسانية.
مثّل اختيار توصيف العلاقة غير السليمة بين الأقطار العربية في عنوان الكتاب تحديًا، بين اعتبارها "خلافًا" أو "نزاعًا" أو "صراعًا"، فالخلاف تناقض وجهات النظر في قضايا من غير ارتباط ذلك بممارسة الأطراف سلوكات عدائيّة بعضها تجاه بعض، أما "النزاع" فتناقضٌ حول قضايا متنازَع فيها تتجاوز وجهات النظر إلى الأشياء الماديّة، كأراضٍ وحدود ومصادر طبيعية مُدَّعاة، في حين أن "الصراع" يتعدّى حالة النزاع إلى أبعاد أخرى تمثّل حاجات أساسية أو قيمًا للأطراف. ولما كانت إشكاليات صراع دول العالم العربي تتعدى وجهات النظر والماديّات وتبلغ مستويات قيمية، كقضايا الحريات والعدالة والكرامة الإنسانية، اعتمد المؤلفون مصطلح "الصراع" في عنوان الكتاب.
برز تحدٍّ ثانٍ في تحليل الصراعات العربية: أهي داخل حدود الدولة Intrastateأم بين الدولInterstate ؟ ويُشتهَر في معظم صراعات العالم اليوم أنها تدور داخل حدود الدولة: حروب أهلية - حروب بين الفواعل الأهلية مع الدولة، ولكنْ لوحظ في العقود الماضية ما يسمى "الصراعات المدوَّلة" Internationalized Conflicts، و"الحروب بالوكالة" Proxy Wars، وخصوصًا في ظل احتدام حدة التنافس الإقليمي بين إيران والمملكة العربية السعودية، وبناءً عليه لا بد عند تحليل الصراعات في العالم العربي من التعرض لدراسة جميع الأنماط.
وتمثَّل التحدّي الثالث بدراسة أكثر من بُعد واحد لأي صراع، فلم يُكتفَ في الكتاب بالبُعد السياسي، بل تعداه إلى البُعدين الاقتصادي والاجتماعي، وذلك عملًا بالمبدأ الـ "عبر-تخصصي" Interdisciplinary من أجل إحاطة متكاملة بالصراع وجوانبه المتعددة تُخرِج القارئ بفهم شامل لأسبابه ودينامياته، كدراسة بنية الدولة الوطنية على سبيل المثال، وكذا التدخلات الخارجية، والعولمة، والقبيلة، والدِّين، وكلها عوامل تؤثر في الصراع بشكل أو بآخر.
وعلى الرغم من أن للأمة العربية تاريخًا موغلًا في القدم من الأحداث التفاعلية بين مكوناتها، آثر المؤلفون التركيز على المرحلة المعاصرة، وتحديدًا منذ فترة ظهور الدول الوطنية بعد حروب الاستقلال عن الاستعمار، بدايةً من دور الاستعمار في تشكيل دول وطنية ذات طبيعة مشوّهة شكّلت أحد جذور الصراع في العالم العربي، وصولًا إلى مرحلة الربيع العربي وطابعه التدميري، فقد خلَفَت الاستعمارَ دولٌ بَنَتْ مؤسساتٍ لم تبنِ بدورها نُظمًا لتأمين نجاح الدول التي بنتها، فتحوّلت الدولة مع الزمن إلى ملكية للأفراد.