صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من "سلسلة ترجمان" كتاب بين عالمين: بناء الدولة العثمانية لجمال قفادار. وهو من ترجمة محمد عثمانلي ومراجعة عمار بوعشة. يقع الكتاب في 328 صفحة، ويشتمل على بيبليوغرافية وفهرس عامّ.
يُعدّ هذا الكتاب من أبرز الدراسات العثمانية الكلاسيكية التي تراوح بين تأسيس الدولة العثمانية وتَبصُّر العثمانيين معالم الحداثة في مطلع القرن الثامن عشر؛ إذ يحاول المؤلف أن ينسج تصوّرًا عامًّا يُناقش فيه النظريات التي تناولت بناء الدولة العثمانية في الجوقات الأكاديمية التركية والغربية، وأن يطرح، عوضًا عن تقديم تأريخ جامد، منظورًا نقديًّا لفهم فلسفة ذلك التاريخ. ويدرس المؤلف ضمن مسيرة تأسيس الدولة العثمانية، المتموضعة في شمال غرب الأناضول، تشكّلها من عصبية ما، تحالفت فيها عوامل عدّة كالطائفة والقبيلة، ولها فهمٌ مُعيّن للإسلام والتصوف، ومجموعة من العادات التركية، وغير التركية، فضلًا عن الثقافات الشعبية المتنوعة.
هو عنوان الفصل الأول من كتاب بين عالمين، ويُعتبر مناقشة للبحوث العلمية الحديثة التي تحدّثت عن صعود الدولة العثمانية؛ إذ يقدّم، في لوحة أكثر تفصيلًا، إلى حد بعيد، القضايا الخاصة التي أُثيرت، ووجهات النظر الرئيسة التي طُورت في ما يتعلق بهذا الموضوع الخاص. وهذا الفصل ليس دراسة استقصائية تدور حول البحوث العلمية المنجزة والمتعلقة بالأناضول في العصور الوسطى، مثل الطريقة التي درس بها نورمان كانتور - على سبيل المثال - مؤخرًا تاريخ الدراسات الأوروبية في العصور الوسطى بوصفها حقلَ دراسةٍ، بل هو مجرد معالجة ضيقة التركيز للكتابة التاريخية المتعلقة بإشكالية ظهور الدولة العثمانية.
إنه يرسم خريطة توصيلات التأريخ الحديث - كما كانت من قبل - بشأن هذا الإشكالية؛ من أجل تسليط الضوء على تيارات التوتر والعُقد المشحونة، ذلك أن وضع أيّ تصوّر جديد - بالنسبة إلى المُؤلف أيضًا - سوف يحتاج إلى تقويم من ناحية هذه الخريطة.
يقدّم الفصل الثاني من الكتاب في البداية مسحًا وتحليلًا للمصادر المنبثقة من أوساط الحدود التركية المسلمة في الأناضول، والروايات الأسطورية عن حياة المحاربين والدراويش، وذلك من أجل تسليط الضوء على كيفية تصوّر أهل الحدود أفعالَهم وإعطاء مدلول لتلك الأفعال. هذه هي المحاولة الأولى للتوصل إلى فهمٍ تاريخي لمجموع القيم والمواقف المتجسّدة في مفهوم أطروحة الغزوة. ويوضح الكلام عن "الغزوة والغزوات في سرديات المناطق الحدودية في عصر الأناضول الوسيط" أنّ روح الحدود كانت مرتبطة على نحوٍ مُعقّد بروح أطروحة الغزوة الواسعة الانتشار في المصادر ذات الصلة، غير أنها تضّمنت مع ذلك شموليةً Inclusiveness وتسامحًا Latitudinarianism.
أمّا الكلام عن "السجلات الإخبارية عن آل عثمان ونكهاتها، ثوم أم بصل"، فهو قراءة قريبة ومقارنة لبعض الفترات في مجموعة ذات صلة خاصة من المصادر المترابطة: سجلات آل عثمان التي كانت تستند جزئيًّا، على الأقل، إلى سرديات شفهية سابقة، ولكنها لم تُقدَّم كتابيًّا قبل القرن الخامس عشر، والتراكيب الأكثر جوهرية التي لم تظهر حتى العقود الأخيرة من ذلك القرن. وفي حين تتجسد هذه المصادر نفسها في أساطير وخرافات الحدود، فإنها في الوقت ذاته تتجسد كتاريخ مستقيم أيضًا.
وعلى هذا النحو عانت، إلى حد بعيد، إمّا تبنّيًا غير نقدي بوصفه حقائق واقعية (نزعة تجريبية بسيطة A Naive Empiricism)، وإمّا إقصاء أغلبيتها باعتبارها خرافات (نزعة تجريبية شديدة الإفراط Hyperempiricism). إن الموقف الأخير، أو الإهمال التام، قد حدّ كثيرًا من استخدام أعمال خاصة بسِيَر قديسين Hagiographical ذات صلة، تعمل أيضًا على تطوير حججها التاريخية الخاصة - من حيث معايير هذا النوع بطبيعة الحال - التي تتعلق بالعثمانيين الأوائل.
من الناحية المنهجية، تُعدّ هذه المناقشة محاولةً لتجاوز الموقف الوضعي Positivistic الذي لا يزال سائدًا في الدراسات العثمانية، ومفاده أنّ كلّ جزء من المعلومات في المصادر يمكن، أو يجب، أن يُصنَّف حقيقةً أو خيالًا خالصًا.
وعلى نحو أكثر تحديدًا، تكشف قراءة المصادر أن ممثلي الاتجاهات السياسية المختلفة حاولوا، بطرقهم الخاصة، من خلال روايات تاريخية مختلفة، تخصيص رأس المال الرمزي المُتضمّن في ادعاءات النجاح كغزاة. وثبت من خلال هذه المناقشة أن سِيَر القديسين ذات الصلة، والتقويمات والسجلات "المجهولة المؤلف"، بعيدة عن كونها نتاجًا خاملًا من تراكم تقاليد شفهية أو عبارة عن تخثر شظايا السرد عشوائيًا، وأنها بدلًا من ذلك تمثّل المواقف الأيديولوجية المتماسكة داخليًا والمعبَّر عنها بأقلام مُؤلِّفة أو مُحرِّرة. ومن خلال استخلاص هذه السلاسل التاريخية الكثيرة المتضمّنة في المتغيرات، يمكن فهم بيئة الغازي بوصفه واقعًا اجتماعيًّا وثقافيًّا يدعم النقاش السياسي والأيديولوجي. إنه يحدد نقطة التوتر الرئيسة في النظام العثماني المبكر بين النزعات المركزية والطاردة عنه، والتي شكّلت مساره حتى فتح القسطنطينية، عندما تُوِّج انتصار الحكم المطلق المركزي.
يُباشر الفصل الثالث من الكتاب مهمة إعادة البناء القديمة الطراز، ولا يسعى إلى أن يكون شاملًا ولا نهائيًا؛ إنه يتعامل على نحو انتقائي مع جوانب العملية التي جرى بموجبها تشكيل المؤسسة السياسية التي رأسها عثمان في تخوم الأناضول الغربية في أواخر القرن الثالث عشر؛ ذلك أنّ هذه المؤسسة قد حُوِّلت إلى دولة مركزية تحت حكم آل عثمان على امتداد أجيال عدة. وينتقل النقاش في هذا الفصل من روح أطروحة الغزوة إلى الغزاة وغيرهم من الفاعلين الاجتماعيين في هذا المشهد، ويهدف إلى إعادة تقديم النظام العثماني ما قبل الإمبراطوري، باعتباره المُنتج الطارئ تاريخيًّا لبيئة معقّدة ثقافيًّا ومتباينة اجتماعيًّا موسومة بتنافسية سياسيًّا، بدلًا من أن يكون نتيجة ضرورية لخط موحد للمنطق التنموي. إنه يركّز على المستوى الاجتماعي - السياسي، وخصوصًا على تحديد موقع المحاربين الغزاة والدراويش، إضافةً إلى جيرانهم - القبليين أو المستقرين، المسيحيين أو المسلمين، الريفيين أو الحضريين - ضمن مصفوفة متغيرة من التحالفات والنزاعات في أواخر العصر الوسيط للأناضول.
وبقدر ما يُعدّ الكتاب سردًا للتاريخ العثماني المُبكّر، فإنه أيضًا علاجٌ انتقائي جدًّا، يهدف على نحو خاص إلى تسليط الضوء على عملية تشكيل التحالف وحلّه، وبعض الخطوات المهمّة المتعلقة بإضفاء الطابع المؤسسي على السلطة العثمانية، وذلك على مسار متنازَع فيه نجح في التحايل على خطوط الصدع للكيانات السياسية التركية المسلمة في العصور الوسطى المذكورة آنفًا.