السياسات التعليمية في اليمن وعلاقتها بالاحتياجات التنموية

دراسة اجتماعية تحليلية (1990-2015)

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب السياسات التعليمية في اليمن وعلاقتها بالاحتياجات التنموية - دراسة اجتماعية تحليلية (1990-2015)، لمؤلفه توفيق سلطان محمد قائد. يحتوي الكتاب على مقدمة وثمانية فصول (متوزعة على قسمين) وخاتمة، تتمحور جميعها حول موضوع السياسات التعليمية في اليمن وعلاقتها بالتنمية المستدامة وظروف تحقيقها في ظل دولة الوحدة. ويقع في 582 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

كتاب السياسات التعليمية في اليمن وعلاقتها بالاحتياجات التنموية بحث تربوي متميّز عن دور التربية في تنمية اليمن في الفترة بين إعلان وحدة شطري اليمن (1990) واندلاع الحرب (2015)، بعد أن بات لليمن أرض موحّدة ورئاسة وحكومة واحدة وبرامج تنموية وتربوية عامة لكل اليمنيين. يرتكز بحث الكتاب على إحصاءاتِ عيّنة واسعة من الفاعلين في مجال التعليم وبياناتهم، بالاستناد إلى دراسات تربوية يمنية وعربية، وتقارير أممية عن أهداف التنمية البشرية المستدامة. ويقدّم بعض نظريات علم الاجتماع الحديثة، وخصوصًا لدى المفكر الفرنسي بيار بورديو، ويتناول مفهوم "الهابيتوس"، الذي يُعنى بسمات توجيه مجموعات معيّنة من البشر، في ظل شروط محددة واستجابات أفرادها الجمعية، المباشرة وغير المباشرة.

إن التنمية البشرية لا تعتمد على التربية فحسب؛ إذ إن ثمّة مجالات أخرى، اقتصادية واجتماعية وبيئية، لتحقيقها، شرطَ اعتماد التربية الملائمة لإيجاد فاعلين اجتماعيين يحققون التنمية المستدامة وفق تعريفات منظمة الأمم المتحدة، خصوصًا في البلدان التي تعاني معوّقات تبطئها عن بلوغ أهداف التنمية. ويضرب المؤلف جمهورية سنغافورة مثالًا لتحقيق النمو في فترة زمنية قياسية، باعتمادها مناهج تربوية ملائمة ومطابقة للعصر.

حاجة اليمن الملحّة إلى التنمية

وللتنمية في أحدث تعريفاتها 17 هدفًا، أبرزها القضاء على الفقر، وتأمين الصحة والتعليم والمياه النظيفة والطاقة والعمل والصناعة وحماية البيئة، ولعل اليمن من أكثر البلدان احتياجًا إلى تحقيق هذه الأهداف. وبناء عليه، يقدّم المؤلف عرضًا عامًّا مدعَّمًا بالأرقام حول المراحل التعليمية في البلدان العربية، يلاحَظ فيه، بحسب تقارير التنمية العائدة إلى عام 2014، ضعف كفاءة المنظومة التعليمية، لعدم مواكبة سياسات الاقتصاد المعرفي التعليمية في أغلب الدول العربية، باستثناء دولتي مصر ولبنان، اللتين عرفتا التعليم منذ بدايات القرن التاسع عشر، بينما ظلّ التعليم في بلدان أخرى تقليديًّا حتى وصول اليمن إلى الوحدة، إثر تطورات سياسية وانقلابات وحروب بين الأطراف الحاكمة استندت - للمفارقة - إلى الانتماءات القبلية وليس الدينية بين المذهبين الشافعي والزيدي، اللذين تعايشا معًا عبر الزمن.

إلا أن التدخلات الإقليمية في شؤون اليمن برَّزت فيه قوى تمثلت في العسكر والأحزاب، عقائديةً كانت أم تأسلمية. وعلى الرغم من حداثة نشأة المؤسسة العسكرية والأحزاب، يَعتبر جورج بالانديه في كتابه الأنثروبولوجيا السياسية أنهما - كشأن المؤسسات في البلدان الحديثة الاستقلال - ستستوعبهما القوى التقليدية، وسيخضعان لتأثير القوى التأسلمية، من إخوانية ووهابية وسلفية وحوثية.

اليمن ضمن "الأقل نموًّا"

يزوّدنا كتاب السياسات التعليمية في اليمن ببيانات تفصيلية عن التمدرس والاختصاصات، ويرصد معوّقات العملية التربوية عن تحقيق أهدافها؛ بسبب سياسات الاستئثار والبيروقراطية والرفض الاجتماعي وسيطرة الاتجاهات الدينية. ويبحث الكتاب أيضًا نضال المجتمع اليمني لصنع السياسات التعليمية والتنمية المستدامة، ويبيِّن أن الهوّة بين التعليم اليمني والواقع التنموي لا تزال قائمة على الرغم من التحولات الخدمية في التعليم ومعدلات التمدرس ونِسبِها. وتظهر هذه الهوّة في التفاوت الجندري في حظوظ التمدرس، وارتِفاع الأمية، وتعاظم الفقر، واسْتفْحال البطالة بين المتخرجين. فكان من الطبيعي أن يبقى الحقل التعليمي اليمني خارج التصنيف العالمي لجودة التعليم، وأن يتموقع اليمن في مرتبة الدول "الأقلّ نموًّا". فنجاعة جهود التنمية المستدامة لا تتوقف فقط على إتاحة الموارد البشرية والمادية والمالية، بل على كيفية تخطيطها واستخدامها؛ أي الكفاءة والفاعلية في صنع السياسات التعليمية الوثيقة الصلة بالتنمية وتنفيذها. فجاء هذا الكتاب لبحث سيرورة السياسات التعليمية من منظور علم الاجتماع، وضرورة ربطها بسياقاتها الاجتماعية والسياسية والتنموية، والتركيز على زوايا إخفاقات الحقل التعليمي المظلمة في اليمن، والتي تسبّب استمرار انتكاساته منذ تحقيق الوحدة.

وفي ضوء ذلك، حدّدت إشكاليةُ الدراسة السؤالين التاليين: "كيف تتم عملية صنع سياسات الحقل التعليمي ’العمومي‘ في اليمن وتنفيذها وتقييمها؟"، و"ما مدى تلبيتها الاحتياجات التنموية؟". وهما سؤالان انبثقت منهما تساؤلات فرعية عن السياقين العلمي والمعرفي المؤطِّرين لسياسات الحقل التعليمي ومآلاتها التنموية، وعن آليات صنع السياسات التعليمية وتنفيذها وتقييمها، وعن التشكّليّة السائدة في أنساق الحقل التعليمي وانعكاساتها على المآلات التنموية لسياساته، وعن المعوّقات التي تحول دون نجاعة سياسة تعليمية ما، أو التصوّر المستقبلي لترشيدها لتلبّي احتياجات التنمية وتساهم في رقي المجتمع اليمني.

إن دراسة كتاب السياسات التعليمية في اليمن وعلاقتها بالاحتياجات التنموية موجهة إلى المختصين بالتعليم والتنمية، ولذلك تناولت نوعين من العينات: العينة القصدية، والعينة الحصصية. وقد استعرض القسم الأول منه عينات خمسين مسؤولًا (عونًا) عن صنع السياسات التعليمية وتنفيذها والإشراف عليها وتقييمها في اليمن، وكذلك عينات 635 أستاذًا وأستاذة أكاديميين باعتبارهم منفذين للسياسات التعليمية (5 في المئة من مجموع أساتذة التعليم العالي والمهني) في ثلاث محافظات هي: عدن وصنعاء وذمار. في حين شخّص القسم الثاني صنع السياسات التعليمية، ومدى تلبيتها للاحتياجات التنموية وآفاقها، بتفكيك جوانبها وإعادة بنائها بالعرض والتحليل الموضوعي، وفقًا لتقنيتها الكمية والنوعية.

البلدان العربية وسنغافورة

وقد استندت الدراسة إلى الرؤى العلمية لعلم الاجتماع، وقدّمت أدبياتها بأسلوب تأليفي نقدي، لكي لا تكون وصفة هزيلة تعرض ما وقع بلا نقد تستدعي الضرورةُ العلمية إقحامَه في النص. وعُنيت بمساءلة سياسات الحقل التعليمي اليمني المعمول بها منذ 1990 حتى 2015؛ ما مهّد لرؤية علمية بعيدة عن اختزال ملامح واقع الخطابات التعليمية المأزوم في اليمن، رافدةً القارئ بمعلومات جديدة ذات أهمية عن صنع السياسات التعليمية المتعلقة بالتمكين التنموي، وجدلية الفشل التنموي، ونزوح الفضاء الاستثماري، وهيمنة الاقتصاد النهبي، ووهم رهانات استراتيجيات التنمية المستدامة، ومعوّقات إيجاد سياسة تعليمية تلبّي الاحتياجات التنموية، في محاولة لتقديم "رؤية استشرافية" للسياسة التعليمية المرجوّة وإمكانات نجاحها، والتشديد على إعادة صياغة عدد من المصطلحات والمقولات والمفاهيم بغرض توضيحها.

وقدمت الدراسة قراءة لدلالات إخفاقات السياسات التعليمية العربية، واستمرار محاولاتها التنموية في النأي عن رؤى العلم والتقانة وبناء مجتمع المعرفة الرامية إلى إيجاد إنسان عربي يُعتبر ركيزة وقائدًا للعملية التنموية، وفرض الحداثة على العقل العربي اقتداءً ببعض الدول النامية التي لحقت بركب الدول المتقدمة، كسنغافورة، التي جرت الإشارة إليها بوصفها "تجربة نجاعة".

الحقل التعليمي اليمني ومعوّقات التنمية

ركزت الدراسة على البون الشاسع بين محتوى سياسات الحقل التعليمي اليمني ومآلاتها التنموية. وهي سياسات أدت - بالعكس - إلى معوّقات تنموية؛ نتيجة ضعف كفاءتها، وارتباط السياسات التعليمية والإصلاح التعليمي بدرجة رئيسة بالتمويل الخارجي، وما يفرضه من لجان وخبراء يزيدون واقع التنمية التكنوقراطي ترسّخًا.

فضلًا عن ذلك، لم يؤسّس مضمون الفعل التعليمي في اليمن قطيعة مع "الهابيتوس" التقليدي (القبلي والتأسلمي) المعوِّق للنهوض التنموي وتعطيل ميكانيزمات اشتغالهما. ولم ينتج تعليمًا يلبي الاحتياجات التنموية، بل أنتج تعليمًا مشوهًا يعيد إنتاج الأنساق الثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي تحقق مصالح السلطة؛ ما جعله عاجزًا عن إنجاز مهمته الأولى، وهي بناء فاعل تنموي.

لم يقابل ما شهدته بنية الحقل التعليمي في اليمن من اندماج عام 1990 انصهارٌ لهوية الطرفين، وسياساتهما، في حقل ذاتي ذكي، بل احتفظا بهويات مضمرة؛ فبات هذا الحقل فضاء للمنافسة والصراع والهيمنة والاستحواذ بين مالكي السلطة و"الأعوان"، الذين تناولوا الرؤى التعليمية باعتباطية وبعقلية التشيّؤ، وتميّزوا بـ "فوبيا العلم والتغيير"، وهاجس التفكير النقدي، وجابهوا بعض محاولات إصلاح أنساق التعليم، وتعصبوا لقوى الهيمنة السياسية والتأسلمية، والتكتلات القبلية والجهوية والعشائرية والفئوية، ولتسييس التدوير الوظيفي، وتجذير الفساد. فكانت النتيجة أن كرّس ذلك في الدولة الموحدة سياسات الحقل التعليمي اللاعقلانية، والمحاولات التنموية المرتجلة البعيدة عن المعارف والعلوم، والزبونية، والاقتصاد النهبي القائم على إثراء أعوان السلطة والركون إلى الهبات والقروض الخارجية، وأهملوا معالجة مشكلة اتساع رقعة الفقر وترييف المدن وتفقيرها، وغيّبوا الحوكمة والمنافسة الندية؛ حتى بات الاقتصاد طاردًا للمعارف العلمية وشاع الاقتصاد "الموازي" الجاذب للمستويات التعليمية المتدنية للتشغيل فيه بنمط غير مدمج في الاقتصاد العمومي، وبانت جليةً سمة تنازع شرعية تسيير حقل التعليم اليمني وصنع سياسته، وفقدان الشرعية القادرة على النهوض التعليمي، الأمر الذي بات يحتّم إيجاد سياسة تعليمية موحّدة ومُحَوْكمة، وفق مبادئ الأهلية والاستحقاق.

ولا تزال مسألة السياسات التعليمية وعلاقتها بالتنمية من المواضيع المتجدّدة التي لم تكتمل فصولًا بعد، وتثير اهتمامات الباحثين وراسمي السياسات في مختلف دول العالم؛ إذ ينظر علم الاجتماع إلى المؤسسة التعليمية باعتبارها مجتمعًا داخل إطار المجتمع، والوسطَ الاجتماعي الذي يجعل الفرد كائنًا قادرًا على مواكبة متغيرات الحياة الاجتماعية المتجددة وتحقيق مطالبها. فالتباين بين المجتمعات المتقدّمة والنامية هو في أغلبه نتاج جودة تلك السياسات التعليمية وتأمينها رأس المال البشري القادر على تحقيق الاستدامة التنموية، التي خصصت 172 دولة في العالم، ومن ضمنها الدول العربية، لها قمة سمّتها "قمة الأرض" في البرازيل سنة 1992 برعاية الأمم المتحدة، تعاهدت فيها على توفير السبل الملائمة لإرساء سياسات تعليمية تمكّن من تحقيق التنمية المستدامة، والمواطَنة، والإنصاف الاجتماعي التنموي.

وفي ما خصّنا، نحن العرب الساعين إلى الإدلاء بدلونا في هذا الجهد العالمي، فقد أقرّ "تقرير التنمية الإنسانية العربية" عام 2002، أنّ بناء رأس المال البشري الراقي هو تحدٍّ على البلدان العربية - ومنها اليمن - مواجهته، بإقامة سلطة تضع سياساتها التعليمية في أولويات أجندتها في الفضاءين القطْري والقومي، للوصول إلى تنمية مستدامة وتفادي كارثة الانعزال عن المشاركة النشطة في الفضاء العولمي، وتجنب عواقب الفشل التنموي المستدام.

اقــرأ أيضًــا

فعاليات