صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب جان فرانسوا ليوتار ونقد الفكر الشمولي للسعيد لبيب. ويقع هذا الكتاب في 580 صفحة، وهو أول دراسة شاملة باللغة العربية عن الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار. ويُعدّ هذا الكتاب ثمرة اهتمام بفكره، من أجل العثور على مناهج جديدة في التحليل والتفكير والنقد والكتابة، والتفلسف عمومًا، تكون قادرة على استيعاب مختلف التحولات التي تتدفق باستمرار في مختلف الميادين، ومدّ الفكر بأدوات لمواجهة النزعات القمعية والمتطرفة التي لا تحترم الاختلاف والتعددية، وتصرّ على تحريف الآراء والعادات والتاريخ. ولأن كتب ليوتار ومقالاته تتناثر فيها القضايا وتختلف المعالجة فيها من نص إلى آخر، فقد عمد المؤلف إلى بناء دراسة منسجمة من ثلاثة أقسام، هي: المعرفة، والأخلاق والسياسة، والفن والجماليات، بحيث إنها تعبر عن "ترحالات" ليوتار وتنقّله بين الفكر والسياسة والفن.
عمد ليوتار، من خلال مداخل متنوعة يربط بينها تحليل اللغة والإبستيمولوجيا والاقتصاد والسياسة، إلى التفكير في التحولات التي شهدتها وضعية المعرفة في العصر الراهن، وذلك بالانطلاق من رهان أساسي هو محاولة تبديد وَهْم تعالي المعرفة العلمية، أو تساميها، على سائر الأشكال المعرفية الأخرى، من خلال كشف النقاب عمّا يختفي خلف المعرفي من شرعنة، وتوزيع للسلطات، ورقابة، ورأس مال ... إلخ، وباختصار كل ما هو سياسي. التاريخ الذي استُجِدّ مع هذا التغيير في العلوم وأثره في حياة المجتمعات الأكثر تقدمًا جعل ليوتار يفكر في فهمٍ يتجاوز السطح نحو أعماق وقواعد تلاقي المعرفة والسلطة. إنها سلطة جاءت على أشكال معارف الفلسفة والثيولوجيا ومناهج البحث، ومعرفة جاءت على شكل مجموعات البحث العلمي والمؤسسات الجامعية والعلماء، فلم تعد المعرفة جزءًا من حركية التاريخ الذي يسير وفق خطٍّ مستقيم يحقق آمالًا وطموحات، بل خرجنا اليوم من ما قبل تاريخ مجتمع المعرفة، لندخل إلى مرحلة غدت فيها المعرفة رهانًا سياسيًّا خاليًا من الأبعاد الإنسانية التي تأسست في زمن الحداثة انطلاقًا مما تحمله كلمة "الحداثة" من حمولات تقدمية؛ سياسيةً كانت، أو علميةً، أو اجتماعيةً، أو أخلاقيةً. لم يستعر ليوتار مصطلح "ما بعد الحداثة" (من الدراسات الأنكلوسكسونية) ليصف به المرحلة الآنية والظرف الحالي للمعرفة فحسب، بل رآه الوصف الملائم لفهم التحول العميق في طبيعة العلم والمعرفة وغايتهما. إنه مجرد أداة فهم، وسيلة لإعادة قراءة الحداثة، أو كما يقول ليوتار نفسه: "إعادة كتابة الحداثة".
لعل أول كتاب تداوَل لفظ "ما بعد حداثي" عند ليوتار هو الظرف ما بعد الحداثي، الذي هو تقرير عن المعرفة في المجتمعات المتقدمة، كما يبيّن العنوان الفرعي للكتاب، وذلك نزولًا عند طلب رئيس مجلس جامعات حكومة كيبك المتمثّل بأن يكون تقريرًا معناه أن أسلوبه ورهاناته ستكون خاصة، وهو ما يتضح من السؤال الذي يطرحه مؤلفه في المقدمة بوصفه إشكالًا يحاول الكتاب الإجابة عنه: "هل من العلمي شرعنة الرابطة الاجتماعية والمجتمع العادل على أساس المفارقة المميزة ذاتها للنشاط العلمي؟ وعلامَ تتأسس؟ بصيغة أخرى، هل يسير الثلاثي "المجتمع - السياسة - الأخلاق" على الأسس نفسها التي بها يُتَقَوَّم ويَقُومُ العلم - التكنولوجيا - الاقتصاد؟ بهذا، سيعتمد هذا التقرير على النبش في حالة وخاصيات كل من المعرفة (ومن بينها العلم)، والمجتمع (الرابطة الاجتماعية والوجود المشترك)، وليس التنقيب عن أهداف وغايات وطموحات التقدم الذي يحمله العلم ويبشر به، وكأنه في الإمكان الربط الميكانيكي بين الانتقال إلى الأفضل في العلم، والتحول نحو العدالة في العلاقات الإنسانية.
لا يمكن أن نفهم خصوصية قراءة ليوتار أعمالَ كارل ماركس من دون أن نعيَ سياقين داخلهما: فكر النص الماركسي، ومعالجته؛ فالسياق الأول هو سياق ذاتي مرتبط بالانخراط المعروف لليوتار في جماعة كاستورياديس المسماة "اشتراكية أو بربرية"، ثم انسحابه منها، وهو يشرح أسبابه في سيرته الفكرية الترحالات: القانون، المثال، الحدث. أمّا السياق الثاني، فهو سياق ثقافي - سياسي متعلق بالشهرة الكبيرة التي حظيت بها القراءة الألتوسيرية، وهي قراءة سيقف ضدها ليوتار، نظرًا إلى نزعتها الإبستيمولوجية المفرطة التي تروم إفراغ كتابات ماركس من أبعادها الأخرى، بدعوى أنها لحظات أيديولوجية لا ترقى إلى الصفاء العلمي الذي سيدشنه كتاب رأس المال.
من ثمّ، يمكن تقسيم قراءة ماركس عند ليوتار إلى مرحلتين: أولاهما المرحلة الماركسية في فكر ليوتار، وهي مرحلة تشهد بها مقالاته التي جمعها في كتابه الاشتقاق من ماركس وفرويد Dérive à partir de Marx et Freud، وفيه يحتل مفهوم الاستلاب المركز الأساسي، ويجاهد ليوتار لتأكيد هيغلية ماركس، على عكس لوي ألتوسير. أمّا المرحلة الثانية، فيدشنها قبل الظرف ما بعد الحداثي كتاب الاقتصاد الليبيدي، حيث اتخذ الحديث عن الماركسية شكلًا تأبينيًّا، احتل فيه، هذه المرة، مفهومُ الرغبة والاقتصاد الليبيدي المستعار من سيغموند فرويد مكانةً أساسية، وأداةً للتحليل استعان بها ليوتار في قراءة ماركس قراءةً مغايرة، يرفض تسميتها بالقراءة النقدية.
عرفت معالجة ليوتار الفنون البصريةَ تحولات واكبت مساره الفكري. لهذا، كانت مرحلة نقد التحليل الفرويدي مرحلة أولى تجلّت في خطاب وصورة Discours, Figure (1971)، ثم مرحلة التحليل الفرويدي - الماركسي بعد كتاب الاقتصاد الليبيدي، وقد تجسدت في تحليله أعمال مارسيل دوشان Marcel Duchamp. من ناحية أخرى، اختصت المرحلة الثالثة بتتبع أعمال بعض الرسامين الصباغيين الطليعيين؛ أمثال بارنيت نيومان Barnett Newman، وجاك مونوري Jacques Monory، وفاليريو أداميValerio Adami ، وهيرومي أراكاوا Hiromi Arakawa، ودانيال بورين Daniel Buren، وهي قراءات واكبت نصه الفلسفي الخلاف، وكانت أكثر تركيزًا على مفهوم "السامي"، إلى آخر مرحلة بدأ يزداد فيها اهتمام ليوتار بقراءة الأعمال الأدبية؛ مثل كتابيه عن مالرو ومقالاته عن فرانز كافكا وسارتر وجويس. لكنّ التحقيب المتعلق بهذه المراحل الأربع - على الأقل في ما يتعلق بدراسة الفن والفنانين - قد يبدو غير ذي أهمية قصوى إذا ما كانت فرضيتنا قائمةً على وجود رابط أساسي في فكر ليوتار هو مقاومةُ شموليةِ رأس المال وهيمنة الاقتصاد على الفكر والفن والثقافة، وادعاء كونية الدلالة وثباتها. لذلك، نجد لدى هذا الفيلسوف رهانَ مساءلةِ معنى الفن وكشف اللامرئي في الأعمال بعيدًا عن التنظيرات والتعليقات النقدية في أشكالها المتنوعة؛ سواء كانت لسانية، أو سيميولوجية، أو سيميوثيقية، أو فرويدية، أو ماركسية ... إلخ، لأنها تنطلق كلها من مسلّمة لاواعية هي احتكار وحدة المعنى والدلالة، وتتخذ من الجميل غايةً للعمل الفني.
يتناغم تصور ليوتار مع أدورنو في أهمية اللحظة الفنية بالنسبة إلى الفيلسوف، وأنه لا يمكن تجاوز الفلسفة؛ مثل "الحكم الذي يقول عنها إنها لم تقم سوى بتأويل العالم" الذي سرعان ما أبان تهافته بعد أن "فشل تغيير العالم"، لكن البراكسيس كان مبررًا لخنق كل فكر نقدي وإسكاته، بدعوى أنه فارغ وتافه، وبوصفه فكرًا لا يفيد هذا "البراكسيس المغيِّر"؛ (تكمن فائدة الفلسفة في عدم فائدتها)، وهو ما عبّر عنه فريدريش هيغل "باللا-مفهومي، الفردي أو الجزئي، أي ما نُحِّي منذ أفلاطون كمؤقت وغير ذي قيمة"، أي الميكرولوجي. وينبغي للفلسفة أن تكون مستنفدة، بمعنى أن تكون شاملة، كما يريد الاستعمال العملي لها أن تكون، أي أن تقلص الظواهر إلى عدد محدود من القضايا، مثلما لاحظنا مع برتراند راسل؛ إذ يمكن حل تناقضها بسهولة منطقية وبلغة واصفة، بل إن الفلسفة "تستحق عوض ذلك أن تنغمس في ما هو متنافر من دون أن تقوده إلى مقولات تامة"، ما دام قد غدا من المستحيل اليوم "استعادة شمولية الواقع (بمعناه الهيغلي)"؛ فأن تهدف الفلسفة اليوم إلى ما ليست عليه، وأن تصير متحكمة في ما لم تكن تملك عليه سلطة قبلية، أمران يدلان على أنها تنتمي إلى "فلك ما لا يقبل الترويض" (أي الجامح والنافر، أو الشموس) بتعبير ليوتار، الذي صار تابو Taboo؛ بسبب الماهية المفهومية التي لا يمكنها أن تعانق وتضم ما كبتته، أي المحاكاة. وفي "هذا المستوى تصبح اللحظة الإستطيقية أكثر من مجرد حدث عرضي بالنسبة إلى الفلسفة"، لكن من دون أن تتحول الفلسفة إلى محاكاة للفن، بأن تكون "عملًا فنيًّا وإلا ستشطب نفسها بنفسها". فما يميز الفلسفة من الفن هو أنه يقاوم التأويلات وأنها لا تتشبث بأي شيء مباشر؛ ذلك أنّ التفكير والتفلسف قبل أي محتوى معيّن يدلان على وجود مقاومةٍ ونفيٍ لكل ما هو مفروض.
ثمّ إنّ التفلسف منذ إيمانويل كانط هو فعل النقد. فنحن لا نتعلم الفلسفة، بل التفلسف؛ إذ إنّ الجملة الفلسفية ليست مذهبية، أي نسقية. لذا، يصف النشاط النقدي بأنه نشاط محكمة، أو قاضٍ لا يملك سلفًا قواعد ومدونات قانونية تسمح له بالحكم مطلقًا على كل ما يعرض أمامه من قضايا.