العنوان هنا
تقدير موقف 28 فبراير ، 2014

ظروف استقالة حكومة الببلاوي ومعانيها

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مع إعلان رئيس الوزراء المصريّ حازم الببلاوي استقالة حكومته في 24 شباط/ فبراير 2014، بدا النظام المصريّ الجديد متجهًا نحو طيّ صفحة ما عُرف بتحالف 30 يونيو، بعدما شارف هذا التحالف على إنهاء وظيفته بدءًا باستدعاء القوّات المسلّحة للانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي في 3 تموز/ يوليو 2013، مرورًا بتشكيل غطاءٍ مدنيٍّ يشرِّع قمع جماعة الإخوان المسلمين وحلفائها، وانتهاءً بإقرار الدستور المصريّ الجديد الذي رسّخ امتيازات الدولة العميقة وعلى رأسها المؤسسة العسكريّة ووسّعها[1].

وقد شكّلت عملية إقرار الدستور منتصف كانون الثاني/ يناير الماضي تتويجًا لمساعي أركان تحالف 30 يونيو، ومن ورائه المؤسسة العسكرية، بعد أن نجحت عمليات القمع الشديدة والحملات الإعلامية المنظّمة وغير المنظّمة التي رافقتها في تقليص زخم الاحتجاجات والمظاهرات المناهضة لتوجهات إطاحة المسار الديمقراطي؛ ما يعني عمليًا أنّ مبرر وجود تحالف 30 يونيو السياسيّ أو استمراره - الذي قام في الأساس حول فكرة واحدة هي إسقاط حكم الإخوان والقضاء على وجودهم في الشارع والمجتمع – لم يعد قائمًا.

وفي هذا السياق، تعدّ استقالة حكومة الببلاوي مؤشرًا إضافيًا على ميل المؤسسة العسكريّة إلى الانفراد بالحكم عبر محاولة الالتفاف على خارطة الطريق الانتقاليّة التي توافقت عليها القوى السياسية العلمانيّة المشكِّلة لتحالف 30 يونيو، والتي كان من المفترض بها أن تكون شريكًا في إدارة المرحلة الانتقاليّة، وأن تتسلّم مقاليد الحكم كجهةٍ مدنيةٍ بعد إقرار مشروع الدستور والاتفاق على قانونيّ الانتخابات التشريعية والرئاسيّة المقبلتين، ما يعني أنّ سلطة الانقلاب التي قطعت كل علاقة بثورة 25 يناير بدأت الآن بالتحرّك لقطع الصلة بتحرّك 30 يونيو الشعبي.


طي صفحة 30 يونيو

تُظهر إطاحة حكومة الببلاوي أنّ الانطباع الذي كان سائدًا حولها بأنها أداة بيد المؤسسة العسكريّة أو مجرّد جهازٍ تنفيذيٍّ ينفِّذ تعليمات وزير الدفاع عبد الفتّاح السيسي، لم تكن بالضرورة دقيقة، بل إنّ هذه الحكومة جُعلت شريكًا كاملًا في حكم البلاد حتى استنفاد الغرض منها بإقرار الدستور الجديد. والواقع أنّ المؤسسة العسكريّة كانت بحاجةٍ إلى "واجهةٍ" من الخبراء المدنيين للتعامل مع التحديات الاقتصاديّة والاجتماعية والأمنيّة والسياسيّة التي تفاقمت بعد الانقلاب العسكريّ من جهة، ولتحميل هذه "الواجهة" مسؤولية الفشل في معالجتها من جهةٍ أخرى. هكذا ارتأت المؤسسة العسكريّة التي انشغلت خلال تلك الفترة بتعزيز مواقعها الاقتصاديّة وتقوية نفوذها السياسي في النظام المصريّ الجديد.

كانت حكومة الببلاوي تحاول تقديم نفسها على أنّ لديها رؤية تنمويّة وإستراتيجيّة واضحة لنقل البلاد من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار، وأنها بصدد تحقيق أعظم إنجازاتها وهي تسليم السلطة إلى جهات مدنيّة. لكنّ أيًا من هذه الأهداف لم يتحقق في حكومة لم يكن لديها في حقيقة الأمر خلال الأشهر السبعة من عمرها إلا خطة واحدة واضحة المعالم وهي استئصال ليس قيادات جماعة الإخوان المسلمين وعناصرها فحسب، بل أيضًا شباب الحركات الثوريّة التي أيدت الانقلاب العسكريّ وإطاحة المسار الديمقراطيّ في 3 تموز/ يوليو.

وبعد نجاح التحالف الذي ضمّ القوى السياسية ذات التوجهات العلمانيّة والمؤسسة العسكريّة في إقصاء الإخوان، بدأ وزير الدفاع عبد الفتّاح السيسي، يرسل إشارات تنمّ عن رغبته في الترشّح لمنصب رئيس الجمهوريّة؛ ما خلق حالةً من الاستياء لدى بعض مؤيديه في أوساط القوى السياسيّة المصريّة، وقد ظهر ذلك جليًّا في التصريحات المواربة التي أدلى بها رئيس التيّار الشعبي حمدين صباحي مطلع شباط/ فبراير، ثمّ أعلن قراره ترشيح نفسه للرئاسة في التاسع من الشهر نفسه، ما أدى إلى انشقاقات في حركة تمرّد التي كان شباب التيار الشعبي مساهمًا في تشكيلها. كما شنّت وسائل إعلام مصرية هجومًا عنيفًا على صباحي، شارك فيه بعض القوى السياسيّة في جبهةِ الإنقاذ؛ إذ إنّ التجرّؤ على منافسة السيسي أصبحت مرفوضة، وأصبح المطلوب من القوى السياسية التي تحالفت مع العسكر لإطاحة النظام المنتخب هو الولاء الكامل للجيش.

لقد جاءت استقالة الببلاوي في هذا السياق؛ فالقرار المرتقب للمشير السيسي بترشيح نفسه لمنصب الرئاسة ينفي الحاجة إلى بقاء حكومة تعتبر نفسها شريكًا في حكم مصر. كما أنّ تحوّل أجهزة الدولة المختلفة، وبخاصة وسائل الإعلام، إلى أجهزة دعاية تحتفي بالرئيس المنقذ (قبل انتخابه) بعبارات مثل "بايعناك"، وتنسب إليه الفضل في إنجازات المرحلة الحاليّة، بينما تتحمّل الحكومة ورئيسها نتائج الفشل على مختلف المستويات، دفع ذلك الببلاوي إلى الخروج، واُعتبر ذلك المسمار الأخير في نعش تحالف 30 يونيو، بعد مغادرة البرادعي والانقضاض على شباب الثورة وحركة 6 أبريل.

وبخروج حكومة الببلاوي أيضًا يكون قد خرج معها الوزراء الناصريون الثلاثة الذين استدعتهم سلطة الانقلاب لتبرير الخطاب الذي كانت تبنته رسميًا، وهو أنّ 30 يونيو ثورة تصحيح مسار لثورة 25 يناير، فجرى تعيين بعض الوجوه المحسوبة على الثورة الأولى في تلك الحكومة، فكانت وزارة التعليم العالي من نصيب الناصري حسام عيسى أحد قيادات حركة 9 مارس، وهو صاحب الحكم الشهير بطرد الحرس الجامعي من الجامعة قبل الثورة، والقيادي العمالي الناصري كمال أبو عيطة الذي أصبح وزيرًا للقوى العاملة، والدكتور أحمد البرعي وزير التضامن الاجتماعي.

وخلال تولي وزارة الببلاوي مسؤولياتها تصدّى الوزير حسام عيسى لتظاهرات الطلاب وأصدر قرارًا بعودة الحرس الجامعي بحجة الحفاظ على المباني الجامعية والأمن العام من الطلاب المتظاهرين، وهو الذي قرأ بيان إعلان جماعة الإخوان المسلمين جماعة إرهابية، وإلى جانبه الدكتور أحمد البرعي. أما الوزير كمال أبو عيطة، فقد تصدّى أيضًا للاحتجاجات العمالية وسمح بفض أكثر من إضراب عمالي عن طريق قوات الشرطة والجيش.

وبهذا تكون سلطة ما بعد 3 يوليو قد استخدمت هؤلاء الوزراء لتجميل وجه النظام الجديد ومحاربة الإخوان وتوريطهم بقمع الاحتجاجات التي أعقبت الانقلاب، وبإقالتهم تكون قد خطت الخطوة الأخيرة نحو فك الارتباط تمامًا مع تحالف 30 يونيو وبدء عهد جديد. فالمرحلة القادمة تشهد عودة وجوه الحزب الوطني إلى الحكم، وتحوم معظم الترشيحات المتوقع توليها الوزارة حول رموز تحسب على النظام القديم مثل غادة والي وزيرة التضامن الجديدة والتي كانت عضو الحزب الوطني في الجيزة[2]، أما وزير التعليم العالي الجديد الدكتور أشرف منصور فهو صاحب الجامعة الألمانية في القاهرة وله مواقفه المتعسفة ضد الطلاب.

هكذا يغدو من الواضح أنّ النظام المصريّ الجديد لم يعد يطيق شريكًا في إدارة البلاد؛ ما يعني أنَّ الحكومة الجديدة لن تكون أكثر من أداة تنفيذية مهمتها الأساسية التحضير للانتخابات الرئاسيّة، أو بكلمة أكثر دقة التحضير لانتخاب المشير السيسي رئيسًا للجمهورية.


عُقدة النظام السياسيّ المصريّ: هيمنة مكتب الرئاسة

من خلال دعم تعطيل دستور عام 2012 ثم إسقاطه، ضيّعت القوى السياسيّة العلمانيّة فرصة التخلّص من هيمنة منصب الرئاسة على مختلف مظاهر الحياة السياسية المصرية، بل قامت أيضًا بالتخلص من الرئيس المنتخب المقيّد الصلاحيات في الدستور. وفي حين حرصت الجمعية التأسيسية لكتابة دستور عام 2012 على توزيع الصلاحيّات التنفيذيّة مناصفةً ما بين الحكومة والرئيس، جعل الدستور الجديد مجلس الوزراء أقرب ما يكون إلى هيئة تنفيذية لسياسات يضعها رئيس الجمهورية، كما كان عليه الحال في عهد مبارك تقريبًا.

ومن أجل هذا أيضًا تغيّر وضع حكومة الببلاوي بعد إقرار الدستور المصريّ الجديد؛ فبعد أن كانت قبيل الاستفتاء مفوّضةً من قبل رئيس الجمهوريّة المؤقت عدلي منصور للقيام بمهمات الرئاسة، سُلبت صلاحياتها منها مرةً أخرى لمصلحة مكتب الرئيس المؤقت الذي أخذ - كما تدل مجمل القرارات الرئاسيّة المنشورة في الجريدة الرسميّة - يزيد الامتيازات الاقتصاديّة للجيش ويعطيه حق التصرّف والتدّخل في أهم المشاريع الاقتصادية الكبرى.

لقد استرجع النظام السياسيّ المصريّ مركزيته المفرطة بعد أن حاولت ثورة 25 يناير تقنينها وتقييدها. وفي ظلِّ هذه النزعة، فإنّه من الصعب تصوّر أن يسمح مكتب الرئاسة لأيِّ جهةٍ أخرى بما فيها مجلس الوزراء أن تشاركه السلطات، لذلك يبدو مفهومًا أن ترنو أنظار مراكز القوى المختلفة بما فيها الجيش والنظام القديم إلى هذا المنصب بوصفه مفتاحًا لكلِّ السلطات.

وفي ظلِّ ذلك تصبح رغبة المشير عبد الفتّاح السيسي في الترشّح لمنصب رئاسة الجمهوريّة أيضًا مفهومةً على الرغم من أنّ الدستور المصريّ الجديد أعطاه في باب "الأحكام الانتقاليّة" ضماناتٍ مكتوبة على المستوى الشخصيّ ببقائه وزيرًا للدفاع ثماني سنوات، فضلًا عن الضمانات الأخرى في الدستور التي تعزِّز امتيازات مؤسسة الجيش وتجعلها وصيةً على أجهزة الدولة الأخرى.

وفي كلِّ الأحوال، يواجه النظام السياسي المصريّ حاليًا خيارين يعتمدان كليًا على قرار وزير الدفاع الترشّح لرئاسة الجمهوريّة من عدمه؛ ففي حال عزوف السيسي عن الترشّح (وهو احتمال ضعيف جدًا) سيواجه الرئيس القادم تحديات إعادة تشكيل شبكة تؤمّن له القدرة على الحكم، ولا مناص حينئذٍ من التفاهم مع مؤسسات الدولة العميقة بمختلفِ أجهزتها، كي لا تتكرر تجربة الرئيس محمد مرسي في الحكم. أما في حالة إقدام السيسي على الترشّح، فإنّ المجتمع المصريّ بقواه السياسية ونخبه سوف يكون، على الأرجح، على موعدٍ مع حالةٍ من الاستبداد تتجاوز تلك التي كانت قائمة في عهد مبارك؛ إذ سوف "يُنتخب" رئيسٌ يجمع في يديه مختلف أجهزة الدولة العميقة، فضلًا عن سيطرته على الجيش وامتلاكه صلاحيات الرئاسة، وما يصاحب صعوده من خطابٍ إعلامي شعبوي غير مسبوقٍ في تهميش العقل ومخاطبة الغرائز.


[1] انظر: وحدة تحليل السياسات، "دستور بالغلبة: نظرة مقارنة بين دستور 2012 ومشروع دستور 2014 في مصر"، تقدير موقف، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (15 كانون الثاني/ يناير 2014)، في:

http://172.17.30.6:3030/sites/doiportal/ar/politicalstudies/pages/egypt_a_comparison_between_the_2012_and_2014_constitutions.aspx

[2]  وهي أخت الدكتور شريف والي أمين شباب الحزب الوطني في المنطقة نفسها وأحد المتهمين في موقعة الجمل.