العنوان هنا
تقدير موقف 15 نوفمبر ، 2011

احتمالات الحرب على إيران تتجدد

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

أصدرت الوكالة الدّوليّة للطّاقة الذرّية تقريرها المنتظر عن البرنامج النّوويّ الإيرانيّ في الثّامن من تشرين الثّاني/ نوفمبر 2011، ووزّعته على أعضاء مجلس المحافظين الخمسة والثّلاثين ليناقشوه في جلستهم يوم 17 تشرين الثّاني/نوفمبر في فيينا. وعلى الرّغم من أنّ هذا التّقرير بقي سرّيّا، إلّا أنّ ما سُرِّب منه عن سعي إيران إلى تطوير قنبلة نوويّة، يجد فيه تيّار "الصّقور" في إسرائيل والولايات المتّحدة المشكّك في مدنيّة البرنامج الإيرانيّ وسلميّته دعمًا لموقفه الدّاعي للحرب باعتبار أنّ العقوبات الاقتصاديّة والسّياسيّة عجزت عن ردع إيران. والواقع أنّ هذه التّقارير تستند إلى تقارير مخابرات الدّول التي تعود وتستند إليها بدورها، لا سيّما وأنّ حربا حقيقيّة تدور ضدّ إيران منذ أكثر من عامين، تتضمّن تفجيرات وعمليّات إرهابيّة واغتيالات، وهناك من يثير تساؤلات حول مصادر هذه الحوادث الخفيّة ويربطها بأجهزة المخابرات الإسرائيليّة والأميركيّة. وفي هذا السّياق التّصعيديّ تشترك الحكومة الإسرائيليّة ومعارضتها في الاتّجاه، فنلاحظ ما كتبته زعيمة المعارضة الإسرائيليّة، تسيبي ليفني، في جريدة "ذي تايمز" البريطانيّة (15 نوفمبر/تشرين الثّاني الجاري) قائلة إنّ إسرائيل مطالبة بفعل أيّ شيء لوقف إيران بأيّ وسيلة، وإنّه يجب أن تفعل ذلك اليوم لأنّ الظّرف مناسب،  وأنْ تحسم الموضوع قبل أن تتبلور اتّجاهات سياسيّة للرّبيع العربيّ.

 ولا يبدو التّقرير الأخير مبنيًّا على شيء جديد ومتين. وقد نقلت صحيفة " كريستيان ساينس مونيتور" عن المهندس النّووي الأميركيّ روبير كيللي، الذي كان من بين أوائل مفتّشي الوكالة الدّوليّة للطّاقة الذرّيّة في إيران الذين اطّلعوا على بياناتها في عام 2005، قوله: "هذا [التّقرير] ضعيف للغاية. كنت أعتقد أنّ محتواه سيكون أكثر متانةً. من المؤكّد أنّها أخبار قديمة. ومن المذهل تماما هذا الافتقار إلى جدّة المعلومات [في التّقرير]". وصبّ الرّوس أيضًا ماءً باردا على الرّدود السّاخنة على التّقرير، معتبرين أنّه لا توجد معلومات كافية تبرّر التّقييم الجديد.

لكن وعلى الرّغم من هذه التّحفّظات، فإنّ المواقف المتشنّجة استمرّت، ولم تمض سوى ساعات بعد صدور التّقرير حتّى أصبح خيار الحرب دعوة مفتوحة في أعلى مستويات السّلطة في إسرائيل. وتجاوب مع تلك الدّعوة عدد من الكتّاب والمعلّقين في كبريات المجلّات والصّحف الأميركيّة، منتقدين إدارة أوباما على موقفها الذي بدا لهم متردّدًا.


تصريحات مهدّئة وتنسيق مع الحلفاء

وجاءت تصريحات وزير الدّفاع الأميركيّ ليون بانيتا بعد ساعات قليلة من ردّ إيران على التّهديدات الحربيّة الإسرائيليّة لتكبح قليلا من حماس المندفعين إلى الحرب داخل إسرائيل وخارجها. وقال بانيتا في مؤتمر صحفيّ في البنتاغون يوم الخميس 10 تشرين الثّاني/ نوفمبر 2011، ردًّا على سؤال يتعلّق باحتمال مهاجمة المنشآت النّوويّة الإيرانيّة، حرفيّا: "ينبغي أن تكونوا حذرين وأن تنتبهوا إلى عواقب لم يحتسب لها. وهذه العواقب لا تحتمل فقط الإخفاق في ثنْي إيران عمّا تريد تحقيقه، وإنّما أخطر من ذلك يمكن أن تشمل تداعيات جدّية تمسّ المنطقة بما فيها القوّات الأميركيّة". وأوضح أنّ تقييمه للوضع هو امتداد لنفس التّقييم الذي استند إليه سلفه روبير غيتس والأدميرال مولن. وفيما أعاد بانيتا التّأكيد على ضرورة التّشاور مع الحلفاء لتسليط مزيد من العقوبات على إيران، أضاف أنّه يتّفق ورئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو الذي صرّح في نفس اليوم أنّ "الحرب ينبغي أن تكون الخيار الأخير". وأكّد بانيتا للصّحفيّين أيضا أنّ الهجوم على إيران لن يجدي سوى في تأخير برنامجها النّوويّ لمدّة أقصاها ثلاث سنوات.

ومن جانبها، طالبت وزيرة الخارجيّة الأميركيّة هيلاري كلينتون في اجتماع قمّة منتدى التّعاون الاقتصاديّ لدول آسيا والمحيط الهادي (أبك) في هونولولو طهران بالرّدّ على اتّهامات الوكالة الدّوليّة للطّاقة الذّرّية.

ودون الدخول في تفاصيل العلاقة الأميركيّة- الإسرائيليّة واحتمال وجود خلاف في تقييم الأولويّات، فإنّ تصريحات بانيتا بدت وكأنّها موجّهة لكبح الاندفاع للحرب وردّ التّهمة بأنّ الولايات المتّحدة لا تسعى لحلّ الخلاف مع إيران بالطّرق الدّبلوماسيّة وإنّما تتجهّز للعدوان. ولا شكّ أنّ هذا التّريّث - في الوقت الذي يهدّد فيه الإسرائيليّون بشنّ هجوم على إيران - له غاية أخرى تتمثّل في كسب الوقت للتّشاور مع الحلفاء من ذوي القدرات العسكريّة والتّأثير السّياسيّ. فالمطلوب أميركيًّا هو الحصول على التّأييد والدّعم قبل القيام بأيّ خطوة لمعاقبة إيران، أنّى كانت الطّريقة التي ستعاقب بها: اقتصاديًّا، أو سياسيًّا، أو في النّهاية عسكريًّا. فالولايات المتّحدة لا تريد خوض هذه المعركة بمفردها، وهي ساعية بالتّأكيد لتعبئة الرّأي العامّ الغربيّ وحتّى العربيّ (في الخليج تحديدا) ضدّ إيران، وقد أثارت مؤخّرا قضيّة محاولة اغتيال السّفير السّعوديّ في واشنطن. وبعد صدور تقرير الوكالة الدّوليّة للطّاقة النّوويّة يوم 8 نوفمبر/تشرين الثّاني 2011 الذي شكّك في سلميّة ومدنيّة أغراض البرنامج النّوويّ الإيرانيّ، تقتضي الخطوة الثّانية التّنسيق مع الحلفاء لمعرفة ما هو الإجراء الذي سيكون الأكثر نجاعةً.


مخاوف أميركيّة

من الملاحظ أنّ السّيّد بانيتا لم يستبعد الخيار العسكريّ، وإنّما قال: "ينبغي أن يكون الخيار الأخير". وفي الوقت نفسه، فقد أوضح أنّ الهجوم العسكريّ على إيران ستكون له عواقب، ربّما لم ينتبه إليها الدّاعون إلى هذا الخيار. والقصد من هذا التّنبيه أن يذكّر بأنّ منطقة الخليج تبقى مفتوحة لردود الفعل الإيرانيّة بالرّغم من الحضور العسكريّ الأميركيّ. ومعنى ذلك، أنّه في حالة وقوع هجوم على إيران، فليس من الضّروريّ أن يحدث ردّ الفعل في المكان الذي يتوقّعه الجميع (أي مثلا ضدّ إسرائيل، إذا كانت هي المهاجمة)، وإنّما حيثما تستطيع القوّة الإيرانيّة أن تضرب، بما في ذلك حلفاء الولايات المتّحدة في المنطقة وخارجها، دون استثناء القوّات الأميركيّة نفسها. بعبارة أخرى، يقول بانيتا: سيكون للحرب ثمنٌ ربّما يتجاوز ما يتوقّعه البعض، مع مجازفة أنّ الهدف (إيقاف إنتاج السّلاح النّوويّ) قد لا يتحقّق.

وأوضح بانيتا كذلك أنّ هذا التّقييم يستند إلى معلومات الاستخبارات الأميركيّة. وهو ما يطرح سؤالًا أساسيّا: كيف أمكن أن "يوافق" الأميركيّون - عشيّة ما يمكن أن يؤدّي إلى حرب جديدة - السّلطات الإيرانيّة فيما ذهبت إليه من أنّ إيران تملك أن تؤذي أيّ طرف يحاول الاعتداء عليها؟ فالواقع أنّ تصريحات وزير الدّفاع الأميركيّ أتت وكأنّها رجع صدى لتصريحات مرشد الثّورة الإيرانيّة عليّ خامنئي في نفس اليوم (10 تشرين الثّاني/نوفمبر) أنّ "من تُسوّل له نفسه العدوان على إيران، عليه أن يستعدّ لتلقّي الصّفعات القويّة والقبضات الحديديّة للجيش وحرس الثّورة والتّعبئة الشّعبيّة".

لقد حدث الأمر وكأنّ بانيتا يؤيّد فكرة أنّ إيران "قادرة" على ردّ الصّاع صاعين، والتي عبّر عنها كذلك وزير الدّفاع الإيرانيّ أحمد وحيدي قائلا -يوم 11/11- إنّ بلاده "حقّقت الاكتفاء الذّاتيّ في كافّة المجالات الدّفاعيّة" وإنّها "ستدخل عمليّة تصميم وصناعة المقاتلات والغوّاصات العسكريّة الحديثة وإنتاج الصّواريخ البالستيّة بعيدة المدى...".

وبقطع النّظر عن أنّ كلام بانيتا ربّما يرمي إلى تنبيه كلّ الحلفاء الذين يدفعون باتّجاه التّصعيد والحرب، وتذكيرهم بالثّمن، فإنّه ليس من الضّروري أن يكون مهوّلا أو مغاليًا في تصوّراته. فهناك بالفعل تقييمات إستراتيجيّة أميركيّة تذهب في الاتّجاه نفسه.


هل تملك إيران ما تهدّد به الولايات المتّحدة وحلفاءها في المنطقة؟

يقيّم بعض الكتّاب الإستراتيجيّين الأميركيّين الوضع في منطقة الخليج على أساس محاور أربعة على الأقلّ، وهي: القدرات التّقليديّة، القدرات غير النّظاميّة والحرب غير المتماثلة، مسرح العمليّات، والقدرات غير التّقليديّة. وبإيجاز شديد، تبدو هذه العناصر في آخر التّقييمات على النّحو التّالي:

1- القدرات التّقليديّة

تملك إيران ترسانة من الأسلحة المستوردة من روسيا والصّين وكوريا الشّماليّة، وتتمتّع كلّ من روسيا والصّين بحقّ النّقض في مجلس الأمن الدّوليّ، ولا يرجّح أن يدعما أيّ قرار يخالف مصالحهما مع طهران. ولإيران قدرات عسكريّة تقليديّة تمكّنها من تشكيل تهديد حقيقيّ لجيرانها. وقد عملت إيران طوال السّنوات الماضية على تحسين قدراتها الرّدعيّة في مواجهة العمليّات الأميركيّة البحريّة والجوّية، وكذلك العمليّات الإسرائيليّة المحتملة. وبإمكانها أن تستعمل هذه القوّة ضدّ جيرانها في الخليج، كما يمكنها استعمال حلفائها في المنطقة - مثل حزب الله - لإيقاع الأذى بأعدائها.

2- القدرات غير النّظاميّة والحرب غير المتماثلة

كثّفت إيران جهودها في السّنوات الأخيرة لتحسين أدائها وقدراتها في الحرب غير النّظاميّة وغير المتماثلة، بطريقة تجعل من الصّعب على الولايات المتّحدة الرّدّ بالمثل. وتمثّل ذلك الجهد في تحسين قدرات الحرس الثّوريّ خصوصا، دون إهمال أيّ سلاح أو وسيلة أو قوّة يمكن استعمالها في هذا المجال. وهناك عدّة أمثلة دالّة على هذا المجهود، نذكر منها: حرب النّاقلات مع العراق، تسريب النّفط وتعويم الألغام في الخليج، استخدام فيالق قوّة القدس في العراق، تزويد حزب الله اللّبنانيّ بالصّواريخ طويلة المدى وأنواع شتّى من القذائف، استعمال الحجيج الإيرانيّين في أحداث الشّغب، تسليح جيش المهديّ في العراق ومجموعات أخرى من المقاتلين، تسريب السّلاح إلى غربيّ أفغانستان، إجراء عدّة تجارب على الصّواريخ طويلة المدى...إلخ. ولا ننسى أنّ عدّة عمليّات ضدّ القوّات الأميركيّة في المنطقة تعزى إلى إيران (وإن قام بها وكلاؤها وحلفاؤها) بداية بتفجير مقرّ المارينز في بيروت سنة 1983، وانتهاء إلى حرب بعض الميليشيات الشّيعيّة ضدّ الحضور الأميركيّ في العراق في مراحلَ معيّنة من الاحتلال بعد عام 2003.

3- توسيع دائرة مسرح العمليّات

هناك اعتقاد رائج في الأدبيّات الإستراتيجيّة الأميركيّة أنّ إيران ساعية لتوسيع نفوذها وميدان عمليّاتها إلى مناطقَ أبعد من الخليج العربيّ تمتدّ إلى آسيا الوسطى وجنوبي آسيا وربّما حتّى شمال أفريقيا، وأنّ لها قدرةً على تحدّي الولايات المتّحدة وحلفائها من خلال تلغيم مياه الخليج واستخدام الصّواريخ المضادّة للسّفن، والقيام بغارات جويّة على منشآت هامّة مثل مصانع تحلية المياه، فضلا عن ضرب المدن والقواعد العسكريّة بالصّواريخ. وعلى الرّغم من أنّ إيران لا تقدر على إغلاق الملاحة تمامًا في الخليج، إلّا أنّ بإمكانها تعطيلها لفترات وجيزة.

4- القدرات غير التّقليديّة

إنّ امتلاك إيران صواريخ بعيدة المدى مع حيازتها أسلحة كيمياويّة -كما تؤكّد ذلك التّقارير الغربيّة- يزيد من فاعليّة قدراتها الرّدعيّة في نظر الكتّاب الإستراتيجيّين، فضلا عن اعتقادهم أنّها ساعية لامتلاك السّلاح النّوويّ. وهناك من يرى أنّه حتّى إذا أمكن لإسرائيل أو الولايات المتّحدة توجيه ضربات "وقائيّة" ضدّ إيران، فسيظلّ بإمكان القاعدة التّكنولوجيّة التي تملكها أن تطوّر خيارات لإخفاء برنامج نوويّ تسليحيّ. يضاف إلى ذلك، أنّ إيران تعتبر قوّة معلنة في السّلاح الكيمياويّ، لا تخضع لاتّفاقيّة حظر الأسلحة الكيمياويّة، ويُعتقد أنّ بإمكانها صناعة غاز الأعصاب وتعبئته في رؤوسٍ حربيّة. وعلى الرّغم من أنّ طهران وقّعت اتّفاقيّة حظر الأسلحة البيولوجيّة، فليس هناك ما يؤكّد أو ينفي حيازتها لبرنامج تسلّح بيولوجيّ مع وجود يقين بأنّها قادرة على صناعة تلك الأسلحة.


حقيقة الرّهان

والواضح بالنّسبة إلى عددٍ من الملاحظين أنّ الولايات المتّحدة وإسرائيل تواصلان الضّغط على الوكالة الدّوليّة للطّاقة الذرّيّة، وأنّ الصّخب المتزايد هو للاستفادة من نبرة الوكالة الجديدة بقيادة مديرها الجديد. وتبدو تصريحات مسؤوليهما موجّهة للاستهلاك المحلّيّ في الوقت نفسه الذي تحمل فيه تحذيرًا لإيران. وكلاهما غير راضٍ إزاء النّفوذ الإيرانيّ المتزايد في العراق، خاصّة بعد الانسحاب الأميركيّ، وفي المنطقة بشكل عامّ في الوقت الذي تنشغل فيه البلدان العربيّة بثوراتها. فقد سعت واشنطن وتل أبيب لفترة طويلة للسّيطرة على إيران والعراق، وهما لن تقبلا التّواطؤ بين البلدين.

وعلى الصّعيد المحلّيّ، فإنّ نتانياهو مستفيد من التّوتّر مع إيران على خلفيّة الفشل الدّبلوماسيّ لحكومته، فيما يمكن لأوباما تبرير انتشارٍ عسكريٍّ ضخم جديد في الخليج بموازاة الانسحاب من العراق على أساس التّهديد الإيرانيّ الجديد. والمشكلة كلّها قائمة حول هذه النّقطة بالذّات: منع هذا البلد من حيازة سلاح نوويّ.. أي منع إيران من القدرة على إقامة "توازن رعب" مع إسرائيل.

ولئن كان هناك بلا شكّ الكثير من اللّغط الذي يدخل في نطاق الحرب النّفسيّة بين إيران وعددٍ من الدّول الأخرى، وفي مقدّمتها إسرائيل والولايات المتّحدة، إلّا أنّ هذه الضّغوط لا تنفي وجود استعدادات حقيقيّة ومستوى عالٍ من التّوتّر وبدايات تعبئة للقتال. وليس هذا بالأمر الجديد على مسرح السّياسة الدّوليّة، فقد شهدت فترة الحرب الباردة استقطابًا حادّا وما سُمّي بـ"سياسة حافة الحرب" التي تحتوي في بعض جوانبها مفاهيمَ ردعيّة ورسائل تهديد ظاهرة وأخرى مبطنة موجّهة للخصم. وما نراه حاليّا شبيه إلى درجة كبيرة بتلك المرحلة، مع تغيير مهمّ في أطراف اللّعبة ومستوى الخطر. فلم يعد الاستقطاب يحتمل أن يؤدّي إلى مواجهةٍ ساخنة بين قوّتين عظميين نوويّتين (الاتّحاد السّوفياتي والولايات المتّحدة)؛ ولم تعد اللّعبة قائمة على "توازن الرّعب" الذي يمنع وقوع الحرب؛ ولم يعد مسرح المواجهة المحتمل هو الكوكب بأسره كما كان لوجود صواريخ عابرة للقارّات حاملة لرؤوس نوويّة لدى معسكريْ الحرب الباردة.

لقد حلّت محلّ تلك العناصر مجموعة أخرى تبدو أقلّ خطورة من حيث اتّساع رقعة المواجهة، ونوعيّة السّلاح ومستوى القوّة:

 أ - فمقابل دولة عظمى هي الولايات المتّحدة وحليفتها إسرائيل (التي هي أيضا قوّة نوويّة إقليميّة)، تقف إيران، الدّولة متوسّطة الحجم والقوّة، التي لا تملك سلاحًا نوويًّا بعد حتّى وإن صحّ احتمال سعيها لاكتسابه.

ب- لا يوجد بين الطّرفين أيّ توازن في القوّة، ولا يمكن الحديث هنا عن "توازن رعب" يمنع وقوع حرب. ممّا يجعل هذا الاحتمال قائمًا.

ت - ولا تملك إيران صواريخ حاملة لرؤوس نوويّة عابرة للقارّات، ولكن صواريخها طويلة المدى يمكن أن تضرب إسرائيل والقواعد الأميركيّة في المنطقة.

والمتغيّر الأساسي أيضا يتعلّق بـ"قوانين اللّعبة"، فكون إيران هي الطّرف الأضعف لا يعني عدم قدرتها على إلحاق الضّرر بالخصم؛ فالعنصر الجديد الذي ينبغي أخذه بعين الاعتبار يتعلّق بالحرب غير المتماثلة وغير النّظاميّة. وتدرك الولايات المتّحدة جيّدا معنى عدم إمكانيّة توفّر أمن مئة بالمئة، سواء لأراضيها وسكّانها أو لمصالحها في الخارج، وصراعها مع تنظيم "القاعدة" والرّاديكاليّين الإسلاميّين طوال عقدٍ من الزّمن على الأقلّ، يبيّن وجود مواطن ضعف عديدة عندها، وأنّ الانتصار بالحسم العسكريّ على خلايا إرهابيّة موزّعة في عدّة مناطق من العالم ليس بالأمر السّهل. ومن جانبها،  تدرك إيران أنّه إذا لم يكن بمقدورها الانتصار في مواجهة مباشرة مع القوّات الأميركيّة وإسرائيل، فإنّ ذلك لا يعني عجزها عن إلحاق الأذى بخصومها ومصالحهم في أيّ مكان في العالم.

والشّيء الوحيد الثّابت هنا، أنّ أولئك الخصوم مستمرّون في الضّغط على إيران والسّعي إلى منعها من الوصول إلى امتلاك السّلاح النّوويّ (المفترض) بشتّى الوسائل، بما في ذلك الضّربات العسكريّة المتكرّرة إذا وجب الأمر. وهم قادرون على ذلك، كما أثبت المثال العراقيّ، فإضافة إلى الحصار والعقوبات الاقتصاديّة، كان على نظام صدّام حسين أن يواجه أكثر من مرّة الضّربات العسكريّة منذ الهجوم على مفاعل تمّوز في 7 حزيران/يونيو 1980، إلى أن انتهى الأمر بالغزو وسقوط النّظام سنة 2003.

ولكن المرجّح في الحالة الإيرانيّة هو التّعبئة الموسميّة التي تُبقي الاقتصاد والمجتمع الإيرانيّ في حالة استنفار كما كانت حال الإستراتيجيّة الرّيغانية مع الاتّحاد السّوفييتيّ. فالبقاء في حالة استنفار مكلف اقتصاديًّا ومرهق لكاهل المجتمع، ويكشف عن عيوب، ويؤدّي إلى توتير العلاقة بين النّظام والشّعب.

والجديد في حملة التّعبئة الموسميّة هذه أنّها تأتي في ظلّ تطوّرين جديدين:

أ. الانسحاب الأميركيّ الوشيك من العراق وضرورة إبقاء إيران في حالة دفاع عن النّفس، وتقييد حالة الثّقة الإيرانيّة بالذّات التي يتحوّل معها الانسحاب الأميركيّ إلى إنجاز إيرانيّ وهيمنة إيرانيّة في العراق.

ب. أنّه يأتي في ظلّ تراجع تقدير إيران في الرّأي العامّ العربيّ بسبب سلوكها الانتقاميّ والتّوسعيّ في العراق، وبسبب الثّورة السّوريّة، وما يصاحبها مؤخّرا من اصطفاف ذي طابع مذهبيّ، خاصّة بعد امتناع المراكز المدينيّة السّوريّة الكبرى عن المشاركة في الثّورة. كما ساهمت دول خليجيّة وتيّارات سياسيّة لم تؤيّد أيّ ثورة عربيّة في صنع هذا الاصطفاف حول ثورة يفترض أن يكون هدفها الدّيمقراطيّة وليس الاحتراب الطّائفيّ.


تكرار السّيناريو العراقيّ مع إيران؟

مع معرفة إسرائيل والولايات المتّحدة أنّه لا توجد حرب من غير ثمن مادّيّ وبشريّ، إلّا أنّهما قد يقْدمان عليها في النّهاية لأنّ ذلك يعطيهما فرصة لإثبات سيطرتهما على الأوضاع في الخليج والشّرق الأوسط، وأنّ هناك سقفا للقوّة فيها لا يسمح بتجاوزه. فلا يمكن لأحد استبعاد سيناريو الحرب من منطلق أنّ إيران قادرة أيضا على الإيذاء. أولم يكن نظام صدّام حسين (الذي شكّل وزنا مضادّا لإيران) قادرًا على الإيذاء أيضا، ومع ذلك سقط في النّهاية تحت توالي الضّربات؟

ومن ثمّ، فقد تندلع الحرب سواء ثبت فعلًا أنّ إيران ستصبح قوّة نوويّة إقليميّة؛ وأنّ الباب سيفتح لدخول دول أخرى لنفس "النّادي"، مثل المملكة السّعوديّة، وتركيا، ومصر، وتحوّل الشّرق الأوسط بأسره إلى مسرح لـ: "توازن الرّعب"، وهو ما لا يريده أحد من القوى المسيطرة حاليّا؛ أو فقط على أساس هذه المزاعم والافتراضات، كما كان الأمر بالنّسبة إلى العراق الذي لم يكتشف فيه أيّ من أسلحة الدّمار الشّامل المزعومة.

وإذا ما اتّخذ قرار الحرب، فليس من المستبعد أن يؤدّي ذلك أيضًا إلى تكرار نموذج التّدخّل في العراق، مع بعض الإضافات والتّنويعات بعد الاستفادة من دروس التّجربة. وسبب ذلك معروف ومصرّح به: وهو أنّ ضرب المنشآت النّوويّة الإيرانيّة لن يوقف سعي إيران إلى القنبلة وإنّما يؤخّر الهدف ثلاث سنوات على الأكثر. وبعد ذلك، سيتعيّن تكرار الحرب... وهكذا دواليك. وفي هذه الأثناء ستحدث ردود أفعال إيرانيّة وغيرها، ويتصاعد التّوتّر ويتزايد العنف وتضرب المصالح الأميركيّة والإسرائيليّة في أكثر من مكان.

ولأنّهم يتخيّلون أضرار هذا السّيناريو الكابوسيّ، فمن المحتمل تغيير هدف الحرب الحقيقيّ (حتّى وإن لم يعلن ذلك) من: "إيقاف البرنامج النّوويّ العسكريّ" الإيرانيّ إلى إسقاط النّظام وتغييره والمجيء بحكومة يسهل التّعامل معها أو التّحكّم فيها. وهذا ما يتطلّب جهدًا أكبر، ليس فقط في اتّجاه الحرب وإنّما كذلك في اتّجاه ما بعدها، بما فيه تدارك تداعياتها المحتملة وحصرها قدر الإمكان والتّضييق زمنيًّا على القيادة الإيرانيّة لمنعها من تنفيذ عمليّات ردّ فعل شديدة الضّرر.

ولا شكّ أنّ السّيناريو الأكثر واقعيّة في حالة نشوب الحرب أنّها لن تكتفي بحرب خاطفة لا تغيّر النّظام، بل ستكون تلك خطوة أولى تمهّد لخطوات أخرى تضرب في العمق، وتأخذ بالاعتبار وجود إرادة لدى القيادة الإيرانيّة في المقاومة بكلّ الوسائل. فالأمر لن يكون سهلا، ولكنّ الرّهان كبيرٌ جدّا. وسيُبذل مجهودٌ كبير لتغطية العمليّات العسكريّة بشكل قانونيّ. ويمثّل تقرير الوكالة الدوليّة للطّاقة النّوويّة الذي صدر في الثّامن من تشرين الثّاني/نوفمبر 2011 أولى المراحل في هذا الاتّجاه. وقد تلا ذلك عقوبات أخرى، كما يجري تشديد الحصار على إيران... والحصار في الواقع هو بداية الحرب. وسيعملون على إقناع الحلفاء العرب والغربيّين بمساندة هذا التّوجّه، وإذا لم يحصلوا على موافقة العرب، فإنّ ذلك لن يمنعهم من شنّ الحرب إذا ما اتّخذوا قرارًا في هذا الشّأن. ولكنّنا نشكّ في وجود مثل هذا القرار. وهو ليس قرارًا إسرائيليًّا.

ومجمل القول إنّه باعتبار العواقب الإستراتيجيّة المحتملة، لا يمكن لإسرائيل أن تتصرّف بمفردها ضدّ إيران، دون الضّوء الأخضر الأميركيّ. وحتّى لو تصرّفت بشكل منفرد، فقد أوضحت طهران أنّها ستحمّل واشنطن مسؤوليّة أيّ عمل عسكريّ إسرائيليّ ضدّها، وهدّدت بعمليّةٍ انتقاميّة شاملة ضدّ إسرائيل وأهداف أميركيّة في الخليج، تشمل قواعدها ومصالحها وحلفاءَها.

إنّ أيّ هجوم يمكن أن يؤدّي إلى عواقبَ وخيمة على المنطقة وعلى الاقتصاد الغربيّ والعالميّ، بما في ذلك تشويش التّدفّق العاديّ للنّفط، وهو ما يعني أنّنا لا نزال عند نقطة من الصّعب فيها توقّع أيّ سيناريو حربيّ يتجاوز الحرب النّفسيّة، فضلًا عن أنّ الولايات المتّحدة وأوروبا لن تجدا بالضّرورة الحلّ لمشاكلهما الاقتصاديّة في شنّ الحرب على إيران.

وقد يكون العرب أوّل ضحايا الرّدّ الانتقاميّ والرّدّ المضادّ، خصوصًا في الخليج (والمفارقة أنّ ذلك إذا حدث الآن ربّما يساعد النّظام السّوريّ). وعمومًا، فإنّ العرب هم الذين يعانون من تبعات التّوتّر أو الانفراج في العلاقات بين الولايات المتّحدة وإيران، لأنّهم يبدون الطّرف المغيّب في كلتا الحالتين.

يبقى العرب في حاجة إلى نزْع فتيل التّوتّر من أيّ سيناريو حربيّ والسّعي إلى تسوية تفاوضيّة لموضوع البرنامج النّوويّ الإيرانيّ تأخذ في الاعتبار مصالحهم وأمنهم.