مقدّمة
أنجز الشّعب التونسيّ من خلال ثورته في الأشهر العشرة الماضية عدّة أهداف مهمّة، فقد أسقط دكتاتوريّة بيروقراطيّة أمنيّة عتيدة نهبته وأفقدته كرامته لسنوات طويلة، وأعاد صياغة قواه الاجتماعيّة-السياسيّة الداخليّة واضعا لها إطارًا جديدًا (المجلس التأسيسيّ) ينظّم العلاقات في ما بينها ومع الشّعب. وطرح أخيرا على نخبه الثقافيّة أسئلة أساسيّة -جديدة قديمة- تتعلّق بالكيفية التي ستساعده على المواءمة بين هويّته التاريخيّة الضّاربة في القدم، التي ارتبطت أيضا بنظم اقتصاديّة وبعلاقات اجتماعيّة-سياسيّة وبنماذج ذهنيّة ثقافيّة حان وقت مراجعتها، وبين روح العصر الجديد الذي يلهج بالدّيمقراطيّة وبالحرّية الشّخصيّة، وبالقبول بالاختلاف البنّاء وبالحقّ في العيش الكريم، اعتمادًا على نظم ومؤسّسات يضعها الشّعب بنفسه ولا يراجعها إلا بشروط ومتى أصبح ذلك ضروريّا. وخلال كلّ هذه المسيرة، تصارعت في البلاد قوى مختلفة وجرت أحداثٌ سياسيّة، بعضها اكتسى خطورةً بالغة، تجاوزها الشّعب التونسيّ في النهاية عبر إعادة منح الشّرعيّة القانونيّة للنّخبة السياسيّة الجديدة، التي ستتولّى مقاليد السّلطة، عن طريق انتخابات ديمقراطيّة توفّرت فيها الشّفافيّة.
لكن الأسئلة التي يبحث المراقبون المحلّيون والدوليّون عن إجابات لها الآن هي: كيف نفسّر أو نفهم نتائج الانتخابات التأسيسيّة التي جرت في تونس؟ لماذا مثلا لم يفز أيّ حزب من ممثّلي التيّارات الحداثيّة (بمعنى التي تدعو إلى الفصل بين المعتقدات الدينيّة والسّياسة) بالمرتبة الأولى في هذه الانتخابات، والحال أنّ الشّعب التونسيّ معروف بانفتاحه الثقافيّ وحداثته الفكريّة التي بدأها منذ منتصف القرن 19؟ ولماذا فاز "حزب النّهضة" الإسلاميّ بأعلى نسبة من مقاعد المجلس التأسيسيّ، والحال أنّ قسما مهمّا من قيادته كان في الخارج أو في السّجون، وأنّ الحزب لم يشارك - مثله مثل بقيّة الأحزاب الأخرى - في اندلاع الثّورة أو في قيادتها، وما دلالات ذلك؟ وأين كان موقع أنصار "حزب التجمّع الدستوريّ الديمقراطيّ" المُحلّ في هذه الانتخابات؟ وفي النّهاية، ماذا يمكن لـ"حزب النّهضة" أن يفعل بنجاحه الذي لم يزكِّه سوى نحو 20% من مجموع التونسيّين الذين يحقّ لهم التّصويت في الانتخابات، وهي نسبة لا تسمح له بأن يؤلّف بمفرده الحكومة الانتقاليّة (41% فقط من مقاعد التأسيسيّ) التي تسيّر المرحلة المقبلة ريثما تجري الانتخابات التّشريعيّة؟