العنوان هنا
مراجعات 14 أكتوبر ، 2018

"يوميات عدنان أبو عودة" بين المحكي والمسكوت عنه

معين الطاهر

​كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية. شارك في تأسيس الكتيبة الطلابية في فتح وصار قائدًا لها، كما قاد القوات الفلسطينية واللبنانية المشتركة في قاطع بنت جبيل – مارون الراس في عام 1978، وفي قاطع النبطية – قلعة الشقيف في عام 1982. يعمل حاليًا باحثًا ومنسقًا لمشروع توثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

عنوان الكتاب: يوميات عدنان أبو عودة 1970-1988.

المؤلف: عدنان أبو عودة.

سنةالنشر: 2017.

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

عددالصفحات: 1150 صفحة.

حظيت يوميات عدنان أبو عودة بمراجعات عدة، راوحت بين تقريظها والثناء عليها ووصفها بأنّها أهم يوميات سياسية لسياسي عربي خلال العشرين عامًا الماضية، أو التركيز على شخصية كاتبها ومحاكمة تاريخه السياسي - وليس يومياته المنشورة – وفقًا لموقف سياسي سلبي منه، وهو أمر يخالف الأصول العلمية المتبعة. في حين غلب على أغلبها عرض لمحتوى اليوميات، مع تجنب الولوج إلى تفصيلاتها واستخلاص العبر منها. ذلك أنَّ هذه اليوميات لم تحظَ بعد بدراسة عميقة لباحثين مختصين يُعملون فيها نقدًا وتمحيصًا، ويستفيدون ممّا ورد فيها في اتجاه فهم أعمق لتلك التحوّلات التي طرأت على الأردن والقضية الفلسطينية والعالم العربي.

خلال عملي في إعداد اليوميات للنشر، مرّ في خاطري أن أتجاوز ما تفرضه عليّ واجبات المحرّر والمُعدّ المهنية لأُعلّق وأفسّر وأوضح وأحلل بعضًا ممّا دوّنه أبو عودة في يومياته، وهي خواطر تختلط فيها الدهشة والمفاجأة والتساؤلات والرغبة في مزيد من الإيضاحات والكشف عن وقائع كانت تُعتبر أسرارًا. لكن احترامًا لحق صاحب اليوميات وسياسة الناشر وتقاليده (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)، اكتفيتُ بمقدمة منهجية توضح آليات عملنا في إعداد اليوميات للنشر، ونُشرت باسم المركز.

وما لم أستطعه آنذاك، ها أنا ذا أعود إليه في نص المراجعة هذا.

أوضح تقديمُ اليوميات أنه حُذف منها النصوص التي تتناول "حوادث شخصية أو مسلكية أو اتهامات وشكوكًا وحكايات تبتعد، في جوهرها، عن السياق السياسي" (ص 10-11)؛ إذ إنَّ هدفنا من تدوين الوقائع "شرح الحالة السياسية السائدة حينها، أو إيضاح خيارات اتبع منهجًا، فأدّى ذلك إلى تغييرات عميقة" (ص 11)، فثمّة فارق كبير بين تدوين اليوميات وكتابة المذكرات، وثمّة اختلاف في قيمتها العلمية من حيث كونها مصدرًا رئيسًا أو ثانويًا أمام الباحثين. تُعنى المذكرات بكتابة الوقائع التاريخية بعد زمن من حدوثها حين يتفرّغ كاتبها لكتابتها، وعادة ما تكون لدى اعتزاله العمل العام أو انتهاء مرحلة ما من حياته، فهو يكتبها بأثر رجعي، وبناءً على العودة اللاحقة إليها، "والتي غالبًا ما تختلط فيها الحقائق بالمشاعر، والمواقف المستجدة، تبعًا لمشكلات الذاكرة المعروفة". أمّا اليوميات فتدوّن "تزامنًا مع الوقائع والحوادث، من موقع المشاركة والانخراط فيها"، ولذلك فهي تُعبّر عن رؤية أبو عودة في مرحلة كتابتها، وقد تتوافق أو لا تتوافق مع آرائه الحالية، إذ هي "وثيقة بنت مرحلتها التاريخية وسياقها، ومن هنا تأتي أهميتها". ولذا، تعدّ اليوميات مصدرًا رئيسًا للباحثين.

ما دوّنه أبو عودة يدخل في إطار اليوميات، فهو ليس كتابًا للتاريخ يُحتم عليه الوقوف عند كل منعطف، فثمّة أعوام لم يدوّن فيها شيئًا، وثمّة أوراق قد فُقدت. وكما حدّثني أحد أبنائه، فإنّ خالًا له قد استعار بعض الدفاتر لقراءتها وفقدها ولم يُعدها. وخلال إعداد هذه المراجعة أحضر لنا أبو عودة دفاتر ملاحظات صغيرة وقصاصات ورق للأعوام 1982 و1984 عثر عليها خلال أعمال صيانة لمنزله، وتضم خلاصات لاجتماع الملك حسين مع الرئيس رونالد ريغان في أعقاب مبادرته عام 1982 ولقاء جمعه بصلاح خلف وفاروق القدومي بعد انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان عام 1984 وبداية تشكل تحالف أردني فلسطيني جديد، ومحاضر متعددة للقاءات مع حسني مبارك وصدام حسين بين عامي 1982 و1984. وعلى الأرجح أننا سنعثر لاحقًا على أوراق جديدة ضمن مكتبته الكبيرة قد تساهم في مزيد من الإيضاح لبعض المراحل وتفسر بعض الفراغات الزمنية الموجودة في اليوميات، وفي ظنّي أنّ ذلك لا يُضعف اليوميات، بل يبرهن على دقتها، إذ إنَّ ما نُشر، هو فقط ما كُتب في حينه، من دون أي إضافة لاحقة للتوضيح أو التفسير أو لتعبئة الفراغات، وهو ما قد يقوم به أبو عودة نفسه إذا أراد كتابة مذكراته يومًا ما. وإذا فعل، فإنّه حينها يقوم بقراءة مختلفة لحياته السياسية والمهنية السابقة بحسب رؤيته الحالية التي قد لا تتفق بالضرورة مع رؤاه السابقة؛ إذ إنَّ المذكرات في أغلبها تحمل في طياتها اتجاهات تبريرية لما سبق فعله من منظور مختلف عن تاريخ وقوعه.

ورغبة في تجسير هذه الهوّة ما بين اليوميات والمذكرات، وفي الإضاءة على بعض الجوانب التي لم تتضمنها اليوميات، لضرورة إلمام القارئ بها، فقد أجريتُ والزميل معن البياري حوارًا مع أبو عودة حاولنا فيه تسليط الضوء على بعض القضايا وضممناه إلى الكتاب. لكن، من الإنصاف القول إنَّ هذا الحوار قد أثار من الأسئلة أكثر ممّا تضمنه من إجابات.

تتضمن اليوميات الكثير من المحكي عنه، بعضه يقدّم معلومات جديدة لم تكن متاحة من قبل، وتتيح فهمًا أعمق لطبيعة النظام في الأردن وآليات اتخاذ القرار فيه، وللعلاقات الأردنية – السورية - الفلسطينية المتشابكة والمعقدة، ولعلاقات الأردن العربية، مرورًا بحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 والاختلاف في الموقفين السوري والمصري خلال الحرب، ودور الأردن فيها، والحرب العراقية - الإيرانية.

وثمّة حديث طويل عن قرار الرباط الذي اعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلًا شرعيًا وحيدًا للشعب الفلسطيني، ونموّ اتجاهات إقليمية في الأردن، يفسّرها أبو عودة ضمن منظومة اختلاف المصالح الشخصية والتنافس على الوظائف، ومواقف أركان النظام المتباينة حول كيفية التعامل مع القضية الفلسطينية، وجولات هنري كيسنجر المكوكية، واعتباره الضفة الغربية أرضًا متنازعًا عليها بعد قرار الرباط، والاتفاق الأردني - الفلسطيني بعد حرب عام 1982، وحتى إنهاء الاتفاق بقرار من الملك حسين الذي قرّر العودة إلى التحالف مع سورية عبر رسالة اعتذار علنية، والبحث عن بدائل فلسطينية، وصولًا إلى قرار فك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية. وفي هذا السياق، ينبغي لنا أن نلاحظ موقف الملك حسين المتميّز من باقي أجنحة النظام، والمختلف عنها في منعطفات عديدة. وترافق هذا كله مع نقد لاذع أحيانًا لبعض الحكومات في الأردن، وتنامي الشعور بالمرارة والغربة عن النظام من أحد أركانه الأساسيين، بدآ في مرحلة مبكرة في بداية السبعينيات.

فتح الكتاب ملفات كثيرة، وتناول قضايا كانت غامضة لم يتطرق إليها سياسيون وباحثون من قبل. لكنّ الكثير من هذه الملفات يحتاج إلى تفسير وبحث لإجلاء ما خفي منها، فأبو عودة فتح نافذة لفهم مختلف عمّا كان شائعًا، لكن، وعبر هذه النافذة، ينبغي أن تُفتح أبواب كثيرة ما زالت موصدة. يحكي الكتاب لنا الكثير، إلّا أنَّ فيه الكثير أيضًا من المسكوت عنه ممّا لامسته اليوميات وروت حكاياته، لكنّها تحتاج إلى من يربط هذه الحكايات بعضها ببعض، أو يفك بعض أُحجياتها. ولعلّنا هنا نسلّط الضوء على بعض تفصيلاتها في محاولة لحثّ الباحثين على المزيد من التعمق فيها.


* هذه المراجعة منشورة في العدد 33 (تموز/ يوليو 2018) من دورية "سياسات عربية" (الصفحات 139-146)وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.

** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.