العنوان هنا
دراسات 17 يناير ، 2011

الجمهورية الإسلامية الإيرانية وقضية فلسطين

الكلمات المفتاحية

أنور أبو طه

باحث في علم الإجتماع حاصل على دكتوراه في علم الاجتماع السياسي، دبلوم الدراسات الإسلامية. المنسق العام للملتقى الفكري للإبداع. عضو مجلس الأمناء في مؤسسة القدس. عضو المؤتمر القومي الإسلامي. للدكتور طه اهتمام بالكتابة في شأن الإسلام السياسي والقضية الفلسطينية. وله العديد من الأبحاث في الموضوع وله تحت الطبع عددا من المؤلفات قيد الطبع: مقاتلو الأرض المقدسة: أصول وأيديولوجيا حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، الاجتماع السياسي لحركة النهضة التونسية، مرجعيات الدولة في الفكر السياسي الإسلامي.

- جدل الأيديولوجيا والمصالح -

ينقسم البحث إلى ثلاثة محاور أساسية:

يدرس المحور الأول -على المستوى النظري-القيمي- موقف التيارات السياسية الداخلية الإيرانية من سياسات الجمهورية الخارجية، وكيف يتم تعيين موقع إيران معرفياً وسياسياً في العلاقة بالمجالين الديني بالنسبة لبقية الأمة العربية الإسلامية، والجيوإستراتيجي للمنطقة والعالم. وذلك في ضوء القيم الأيديولوجية الحاكمة لإيران الثورة والدولة، وفي ضوء متطلبات الموقع الجيوبوليتيكي لإيران.

وذلك لبيان أين تقع تخوم العلاقة الإيرانية المعاصرة بقضية فلسطين، تلك العلاقة التي بدأت بانتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في العام 1979، والتي أعادت رسم مجالها الحيوي على المستوى الإقليمي والعالمي، ورسمت المجال الجيوبوليتيكي وفق اعتبارات أيديولوجية، أي أنها أعادت ترتيب السياسات الخارجية لإيران الثورة وفق "القيم القائدة" الجديدة.

ورصد البحث أربعة تيارات سياسية إيرانية في بيان محددات السياسة الخارجية الإيرانية وعلاقة الداخل الإيراني بالعالم:

تيار قومي براغماتي: يتعامل مع الأيديولوجيا الإسلامية كأداة من أدواته الفاعلة في تعزيز المصالح الإيرانية القومية الخارجية، وهو تيار لا يعنى بإظهار نزعة علمانية، أو يشكك في القيم الإسلامية، ولكنة تيار واقعي يعمل على توظيف أيديولوجيا الثورة واستثمارها لصالح قوة إيران الخاصة باعتبارها الأولى في سلم ما يتطلع إلى انجازه على مستوى العلاقات الإقليمية والدولية.

تيار القطرية الإسلامية: الذي يدعو إلى التسليم بالحدود الدولية المتعارف عليها، ويدعم نموذج الدول القطرية كدول تتمتع بالشرعية القانونية، ويلتزم بحدود مسؤولياتها، ويؤكد على أولوية الداخل الإيراني المسلم على الخارج المستضعف. مع مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية داخل حكومة الإسلام القطرية.

تيار خط الإمام: وهو التيار الرئيسي السائد والفاعل داخل إيران وذلك في رسم السياسات الخارجية ويمثله المرشد الأعلى للجمهورية، ومؤسسة الحرس الثوري، والحكومة الحالية بزعامة الرئيس أحمدي نجاد، وهذا التيار يحدد رؤيته بشكل أساسي خطاب مفجّر الثورة ومؤسس الجمهورية الخميني الذي حدّد عناصر تلك السياسات بـقيم قائدة أهمها: الاستقلال وعدم التبعية-"لا شرقية ولا غربية"-، وبناء القوة الداخلية والاعتماد على الذات، ونشر رسالة الإسلام الثوري، والوقوف مع المسلمين والدفاع عنهم وعن مقدراتهم، ومقاومة ظلم القوى الكبرى، والوقوف مع الشعوب المستضعفة.

 تلك القيم المحدّدة للسلوك والموجهة للسياسات التي بنى عليها لاحقاً محمد جواد لاريجاني نظريته التي أسماها "نظرية أم القرى" التي رسم من خلالها موقف هذا التيار من علاقة الداخل الإيراني بالخارج العربي والإسلامي من جهة والدولي من جهة ثانية، وترتكز معالم تلك النظرية إلى النظرية الخمينية في الحكم المسماة "نظرية ولاية الفقيه" والتي تعتبر الأساس في إقامة الحكومة الإسلامية في أم القرى التي تم تعيينها لدى لاريجاني بالجمهورية الإسلامية الإيرانية. وقوام السيادة في أم القرى أمة مسئولة تحت رعاية الولي الفقيه، وأرض أم القرى هي الركيزة الأساس لحكومة ذات صدى عالمي.

و تنص تلك النظرية على أن الحدود المتفق عليها دولياً ليس لها أي دور في هذه القيادة وحدود الولاية غير قابلة للتقسيم على الدول، وأنّ الدولة التي تصير "أم القرى" هي الجديرة بقيادة العالم الإسلامي، وأنّ مصالح الأمة مقدّمة دائماً، إلا إذا تعرّض كيان أم القرى نفسه للخطر، فالواجب هو الحفاظ على كيان وشعب أم القرى نفسه. مفسراً بذلك جدل الأولوية، وحدود الوسع في الفكر السياسي الإيراني.

الواجب الإلهي: (وهو تيار سلفي "إخباري") لا يهتم بالعواقب ويدعو إلى الالتزام بالتكاليف الشرعية والأحكام الشرعية الخاصة بنصرة المسلم ومقاومة الظلم بغض النظر عن العواقب أو النتائج المترتبة على تلك السياسات، وأنّ المسلم الذي يرى في إيران قاعدة الأمة لا فرق بينه وبين المسلم الإيراني ويشاركه في وجودها وقواها وإمكانياتها وثرواتها، ولا يعترف هذا التيار بالحدود.

 ويشير البحث إلى أن "تيار خط الإمام" الرسمي طرأ عليه بعض التحول في أدائه العملي في مرحلة من مراحل حكمه وقام بالدمج بين الاعتبارات الأيديولوجية، والاعتبارات الجيوبوليتيكية، وبدا ذلك واضحاً بعد وفاة الخميني وبروز اتجاه براغماتي في السياسة الخارجية بتحريض من هاشمي رفسنجاني الذي دعا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة إلى إحداث تقارب على الصعيد الإقليمي مع جارات إيران الشمالية (جمهوريات القوقاز وآسيا الوسطى)، وتقارب مع الجارات الجنوبية (الدول المطلة على الخليج)، وعلى المستوى الدولي دفع إيران لتحسين ودعم علاقاتها مع أوروبا والعالم الثالث. وصولاً إلى دعوى حوار الحضارات الخاتمية. إلا أنّ دعاة "خط الأمام" في الدولة والمجتمع سرعان ما استعادوا زمام المبادرة لصالح نظريتهم في السياسات الخارجية إقليمياً ودولياً.

وقبل أن ينتقل البحث إلى المحور الثاني الخاص بتاريخ العلاقة بين إيران وفلسطين أشار إلى موقف الإمام الخميني المشهور من القضية الفلسطينية ومظلومية الشعب الفلسطيني، ووصفه لإسرائيل باعتبارها العدو الأول للإسلام والأمة الإسلامية، موضحا أن خطر إسرائيل يمتد ليشمل كل المجالات الثقافية والأخلاقية والاقتصادية والصناعية، ذلك الموقف الجذري للخميني دفعه لإعلان يوم القدس العالمي من كل عام، ورفض أي صورة من صور الحوار مع إسرائيل، ورفض مشاريع السلام، ودعم كل عناصر المقاومة والقوة الفكرية والنفسية والمادية ضد إسرائيل.

 وقد حافظ الخميني على مواقفه هذه من بدايات نضاله ضد السلطة البهلوية وحتى وفاته الأمر الذي شكل أحد أهم مصادر الشرعية التي بنيت عليها الدولة الإسلامية الإيرانية على الصعيدين الداخلي والخارجي. وأحد أهم عناصر الجذب والإغراء تجاه النموذج الثوري الإيراني من قبل الثورة الفلسطينية المعاصرة وحركات المقاومة الإسلامية.

أما المحور الثاني، ففيه مدخل سريع يرصد تاريخ العلاقة بين الثورة الإيرانية وحركة التحرر الفلسطينية، ومن ثم يدرس راهناً أثر الدور الإيراني والسياسات الخارجية الإيرانية من القضية الفلسطينية على الواقع الفلسطيني وصراعاته وعلاقاته الداخلية. وكذلك على العلاقة بالنظام الرسمي العربي والأمن الإقليمي العربي.

رصد البحث تاريخ العلاقة بين الثورة الإيرانية وحركة التحرر الفلسطينية التي تعود إلى العام 1969، حين أقام بعض الإيرانيين الإسلاميين علاقات وثيقة مع الفلسطينيين في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات وتراوحت أدوارهم بين الاشتراك في القتال أو الأعمال التنظيمية أو عمليات التسليح، إضافة إلى دور الإمام موسى الصدر في وصل بعض الليبراليين الإيرانيين بالثورة الفلسطينية.

وعند انتصار الثورة، وبعد أسبوع من وصول الخميني إلى طهران كانت طائرة ياسر عرفات تحط في مطار طهران يوم 18 فبراير/شباط 1979، حيث استقبل استقبالا ًشعبيا حافلاً، وتمَّ افتتاح سفارة فلسطين، وهي السفارة الإسرائيلية سابقاً، وعين هاني الحسن سفيراً لفلسطين في إيران.لكن علاقة الثورتين سرعان ما انتهت إلى الافتراق بسبب تعارض منطقي "الإسلام الثوري" من وجهة النظر الإيرانية، ومنطق "الثورة الوطنية" الفلسطيني، ولم يفلح داعي اللقاء الثوري، والعدو المشترك في توحيد الثورتين.

ومع فشل وساطة ياسر عرفات في وقف اندلاع الحرب بين العراق وإيران في سبتمبر/أيلول 1980، وفتح العراق أبوابه أمام منظمة التحرير الفلسطينية التي خرجت من بيروت، ومع بدء مسيرة منظمة التحرير الفلسطينية السلمية كانت قد بدأت الانتقادات الإيرانية للمواقف والسياسات الفلسطينية الرسمية وصولاً إلى حرب الخليج الثانية في العام 1990 وبدأ مفاوضات التسوية التي انتهت باتفاق أوسلو وما جاء بعده.

في الجهة المقابلة شكّل انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية مصدر إلهام لقطاع من القوى السياسية الفلسطينية كان قد بدأ يتشكّل مع نهاية الثمانينات،وتحديداً حركتي الجهاد الإسلامي وحماس.

وكانت أفكار ومبادئ الثورة الإسلامية الإيرانية، وأفكار الخميني وتبنيه للقضية الفلسطينية قد أثرا تأثيراً هاماً على حركة "الجهاد الإسلامي"، وخاصة من ناحية المنهج الثوري الذي اتبعته الثورة في التغيير، وفي المواقف السياسية تجاه الغرب وإسرائيل، والنظام العربي الرسمي (أنظمة التجزئة التي لا تحكم بالإسلام)، فكانت مصداقاً ثورياً لكل ما يريد "الجهاد" أن يؤكده آنذاك تجاه التيار التقليدي الإسلامي المحافظ من ناحية، والتيار الوطني الذي استبعد الإسلام في معركته ضد الاحتلال من ناحية أخرى، فالجذرية في المعارضة والرفض لفساد الأنظمة واحتلال فلسطين، ودعوة الحركة الإسلامية للالتحام بالجماهير، ودور علماء الدين الثوري وضرورته، ومواجهة "فقهاء ووعاظ السلاطين"، والاهتمام بالفئات الجامعية والمثقفة من الطلاب وغيرهم، والأهم من ذلك،مواجهة الاحتلال عبر "الإيمان بالله والسلاح". كل هذه المفاهيم والمعاني جاءت الثورة الإسلامية الإيرانية لتعطيها زخماً جديداً داخل الأيديولوجيا الجهادية (الثورية) لحركة الجهاد الإسلامي، وتشحذ منظري "الجهاد" إلى الانتقال للعمل والتنظيم، فكانت اندفاعاتهم للدفاع عن الثورة ومنجزاتها ذات تأثير هام على الساحة الفلسطينية بخاصة.

وكانت حركة الإخوان المسلمين الفلسطينية قد وقفت (قبل ولادة حركة حماس) موقف المشكّك والمتهم للثورة وأنصارها بأنها ثورة مذهبية شيعية وصل إلى حد التكفير والرفض، أو كما وصف القيادي الحمساوي أحمد يوسف في كتابه الأخير "الإخوان المسلمون والثورة الإسلامية في إيران":"كان للضغط السياسي الذي مارسته بعض الأنظمة العربية، وخاصة الخليجية، على كوادر القيادة الإخوانية فيها، دور كبير ليس في صرفهم عن تأييد الثورة الإسلامية في إيران فقط، بل توظيفهم في ذلك الضخ الإعلامي المعادي لإيران، الأمر الذي نجح في تشكيل الصورة العدائية للشيعة (المجوس)!! الذين يلعنون الصحافة ويكفرونهم!!".

إلا أنّ حركة حماس سرعان ما عادت عن موقفها العدائي تجاه إيران لتصبح إيران الحليف والصديق لحركة حماس في فلسطين، وبدأت مرحلة مدّ الجسور والتقارب تشتد بُعيد اتفاق أوسلو ليتصاعد مع انتفاضة الأقصى وصولاً إلى تبني إيران الكامل لحكومة حماس في قطاع غزة، وذلك بعد نجاحها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 2006، وبعد الحسم الذي أقدمت عليه في قطاع غزة.

ويتناول البحث في المحور الثاني إشكالية العلاقة التاريخية والدور السياسي الراهن بين إيران والقوى الفلسطينية وذلك ضمن ملفين هما الموقف من المسيرة السلمية، والدعم المالي والعسكري المتعاظم.

إن الرفض الإيراني المتواصل لأي مصالحة بين إسرائيل والفلسطينيين شكل رافعة سياسية ودعائية لحركات المقاومة التي ترفض هذه المسيرة وبخاصة في لحظات الحصار والقمع التي تعرضت له مع قدوم السلطة للأراضي المحتلة، كما شكلت غطاء سياسيا وإعلاميا على مستوى الحلفاء في خارج فلسطين إن في سوريا أو لبنان، ولكن ما إن اندلعت انتفاضة الأقصى حتى أخذ الدور السياسي واللوجستي الإيراني يتعاظم في فلسطين لأسباب عدة أهمها: تعثر مسيرة السلام وفشلها في تحقيق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية.

 ونجاح حركات المقاومة في إيقاع الخسائر المؤلمة بالاحتلال الإسرائيلي، وزيادة قوة وانتشار هذه الحركات، وانتقال حركة حماس إلى مركز الحليف للنظام الإيراني، وانكشاف النظام العربي عن عجز كبير على فعل شيء إزاء الجرائم الإسرائيلية أو لعب دور فعال في الضغط على إسرائيل لإبرام الاتفاقيات الموقعة مع قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، أو القبول بالمبادرة العربية للسلام. هذا فضلا عن الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان بفعل المقاومة اللبنانية (حزب الله).

وانتقل الموقف الإيراني بفعل جملة هذه العوامل من الموقف السياسي المآزر والداعم غير المعلن، إلى الدور السياسي المشارك (لأدوار إقليمية ودولية أخرى) والداعم المعلن. الأمر الذي شكل تحديا حقيقيا لأطراف مسيرة التسوية الفلسطينية والعربية والإسرائيلية والدولية لينتهي المشهد على اصطفاف حاد حول الخيارات والبرامج السياسية ولينقسم الصف الفلسطيني بين اتجاهين وخيارين سياسيين وتنازع وطني حاد لا على تكتيكات النضال أو مؤسسات التمثيل الهيكلي، بل على إستراتيجية التحرير ومستقبل فلسطين وحاضرها.

ولا يفهم في هذا السياق أن إيران المسئول الوحيد عما يبدو سلبيا لدى البعض، بل إن انكشاف النظام الرسمي العربي كما قلنا على عجزه إزاء مجمل التحولات على الصعيد الفلسطيني، أكد نظرية الفراغ القيادي الإقليمي، من ناحية، وهز الشرعية القومية التقليدية للنظم العربية، وبدد حلم الأمن القومي العربي، فكان التقدم الإيراني على ساحة الإقليم العربي من "الخليج العربي" إلى المحيط، بفعل الموقف الإيراني من "فلسطين" قضية العرب التاريخية، وبفعل المواقف الجذرية من السياسات الإسرائيلية والمشاريع الغربية-الأمريكية في المنطقة عموما.

والمفارقة في الأداء العربي إزاء الدور الإيراني المتعاظم في المنطقة العربية والمرتكز تحديدا على جسر القضية الفلسطينية، أن عمل النظام العربي على غير الجبهة محل التنافس والنزاع أي الجبهة الفلسطينية والصراع مع إسرائيل، بل على إثارة مخاوف الجماهير والنخب العربية ضمن ثلاثة أصعدة:

الأول: البعد المذهبي الإيراني، فتم التحذير من الهلال الشيعي الذي يتمدد على حساب أهل السنة والجماعة ويهدد وحدتهم التاريخية وهوية منطقتهم.

 والثاني: البعد القومي الفارسي لسكان إيران، وهو الأمر المضاد لعروبة المنطقة، والثالث القدرات العسكرية الصاروخية والنووية الإيرانية التي تهدد استقرار وأمن دول المنطقة العربية وشعوبها. وتم بذلك رفع النظام الإيراني إلى مستوى العدو، وإن لم يكن العدو الأول والأخطر الذي يتقدم على إسرائيل، فهو عدو محتمل وقيد الشكل.

أما المحور الثالث: للدراسة فتناول المقلب الآخر من علاقة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بفلسطين وهو الموقف من إسرائيل، فلئن كان الموقف من القضية الفلسطينية قد شكـل حجر الزاوية في الدور الإقليمي الإيراني، فلقد شكل الموقف من إسرائيل حجر الزاوية في الدور الدولي لإيران، وما الموقف العربي والدولي من ملفي النفط، والبرنامج النووي الإيراني، وحدود الدور الإقليمي لإيران إلا ويقاس بناءً على طبيعة الموقف من إسرائيل، ومن المشروع الأميركي الأوروبي الخاص بملفي التسوية والإرهاب في عموم المنطقة.

إن الموقف من القضية الفلسطينية ومن الكيان الإسرائيلي هو الذي نقل الدبلوماسية الإيرانية إلى التصادم مع المجال الحيوي الإسرائيلي، مستفيدة من الخلل في واقع الأمن الاستراتيجي الإسرائيلي المتمثل في افتقارها للعمق الدفاعي، الأمر الذي جعل إسرائيل طوال سنوات الصراع تنقل معاركها إلى خارج الحدود، وحاولت إيران منذ انتصارها إشغال إسرائيل في المحيط الخارجي، وتطور الأمر لاحقاً إلى الدخول على خط الأمن الداخلي ( الجبهة الداخلية) ممثلاً بالأراضي المحتلة، وتطور لاحقاً إلى ضرب العمق الإسرائيلي وذلك في المناطق المحتلة منذ العام 1948 أثناء حرب تموز في العام 2006.

رصد البحث السياسة الخارجية الإيرانية تجاه إسرائيل على ثلاثة جبهات:

الجبهة الأولى: إشغال إسرائيل بالإبقاء على الصراع معها مفتوحاً في المجال الحيوي الإسرائيلي في مسعى لاستنزاف إسرائيل في مواجهات متواصلة ومن نوع غير تقليدي تعجز المؤسسة العسكرية الإسرائيلية عن الإعداد اللازم لتقويضها أو القضاء عليها. وتمّ ذلك بإبقاء إسرائيل في خطر محدق ومستمر.(حزب الله في لبنان وحماس والجهاد الإسلامي في فلسطين).

الجبهة الثانية: الاستمرار في بناء القوة الإيرانية في كل الميادين والتركيز على المجال العسكري عبر أهم ملفين، هما الصواريخ المختلفة، وبناء القدرة النووية.

الجبهة الثالثة: العمل على طمأنة دول الجوار العربية، وتهدئة المحيط العربي الإسلامي، وصولاً إلى إقامة التحالفات أو التفاهمات سواء مع سوريا أو بعض الجماعات العراقية، بالإضافة إلى بعض دول الخليج، في مسعى لاحتواء التشكيك الأميركي والأوروبي بالنوايا الإيرانية وطموحاتها في منطقة الخليج خاصة، والمنطقة العربية بشكل عام.

على صعيد الجبهة الأولى تستفيد إيران من عاملين هامين هما: فشل الجهود الدولية والعربية من إيجاد حل سلمي للصراع العربي الإسرائيلي. واعتقاد إيران أن أية تسوية راهنة في ظل اختلال موازين القوى لن يكون إلا لصالح إسرائيل.

وإضافة للبعد الأيديولوجي الحاضر من إسرائيل فإن سياسة الإشغال والاستنزاف لإسرائيل من قبل إيران تأتي أيضا لاعتقادها الجازم أن قوى المقاومة تشكـل الحزام الأهم في الدفاع عن الجمهورية الإسلامية. كما تنظر إيران إلى أنّ الحروب الإسرائيلية على حزب الله (تموز 2006) والمقاومة في غزة (2008) ليست إلا مسعى إسرائيلي للقضاء على قوى المقاومة أو تقييدا لها تمهيداً للمواجهة مع إيران باعتبارها قاعدة الرفض لقوى المعارضة للمشروع الأمريكي الإسرائيلي في بناء الشرق الأوسط الجديد. (انتقلت إيران من موقع "الدولة الخارجة عن القانون" زمن كلينتون، إلى "الدولة الراعية للإرهاب" زمن بوش الابن).

"ولذلك فإنّ ما تقوم به إيران منذ ثمانينيات القرن المنصرم يدخل في إطار إستراتيجية الردع تمهيداً لما تعتبره طهران إقامة توازن استراتيجي ليس للدفاع عن المركز (إيران) فحسب، بل أيضاً لإقامة توازن إقليمي يحول دون استفراد القوة الإسرائيلية النووية في الشرق الأوسط لفرض حلولها على شعوب المنطقة".

إسرائيليا: تعتبر إسرائيل أن هذا الإشغال الإيراني هو تحت السيطرة ولم يخرج إلى حيّز التهديد المباشر أو الوجودي، وأنّ إسرائيل لديها من القوة ومن القدرة على التصدّي لحلفاء إيران القريبين الكثير، الأمر الذي يغني إسرائيل أن تدخل حرباً إقليمية مباشرة مع إيران.

ويبدو المستوى الثاني من السياسات الإيرانية في (تكوين القوى الذاتية الصاروخية والنووية) وهو ما ترى فيه إسرائيل تهديداً استراتيجياً للعقيدة الأمنية لدولتها، يهدد التفوق التقليدي لإسرائيل في قدراتها العسكرية مما يؤدي إلى اختلال موازين القوى لصالح عدوها.

وفي هذا السباق ترى إسرائيل أنه لا بد من التصدي المباشر لتعاظم القوة الإيرانية قبل أن تصل إلى نقطة اللاعودة، فيتم تحريض الولايات المتحدة الأمريكية والقوى الغربية عموماً بشن حرب استباقية ضد المشروع النووي الإيراني ضمن نظرية "الدفاع أو الردع الاستباقي عن النفس". (وهو الأمر الذي دعا له مشروع دانيال الذي قدم لرئيس الوزراء الإسرائيلي آرييل شارون في العام 2004 م).

وبهذه السياسة من تحريض الآخرين بشن الحرب تعمل على إضعاف الدور الإيراني دون اشتباك مسلح فعلي معها، أي تحقيق انتصار كامل لإسرائيل دون التورط في اعتداءات. وفي الوقت نفسه تظهر إسرائيل بدور الضحية من ناحية، وداعية السلام التي تدير مفاوضات مع السلطة الفلسطينية من ناحية أخرى.

 ولكن العقل السياسي الإسرائيلي بات يتصاعد لديه الإحساس بالتهديد الإيراني لوجوده في ظل سياسات القيادة الإيرانية الحالية، وتقدم المشروع النووي الإيراني، الأمر الذي يدعوها إلى التغيير في خططها، فمع تقدم إيران وتردد الحلفاء (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا) وتصاعد "خط الضرر الوجودي، قد تقوم إسرائيل بعمل استباقي منفرد ضد إيران، وإذا ما تبين أن رد الفعل الإيراني اقتصر على توجيه ضربات تقليدية ضد أهداف محددة، ومتناسباً مع العمل الاستباقي الإسرائيلي، ومقتصراً على ضرب الأهداف العسكرية الإسرائيلية، ومحصوراً ضمن الحدود القانونية "الضرورة العسكرية"، ومترافقاً مع غياب نية للتصعيد، حينها من المستبعد أن يلجأ الإسرائيليون إلى الرد بأسلحة غير تقليدية، ذلك أن التحكم بالتصعيد سيكون مهماً جداً للأمن القومي الإسرائيلي وسط أزمات إستراتيجية عديدة تعيشها إسرائيل.

لقد بات جوهر الحراك الدبلوماسي الإسرائيلي في علاقاته الخارجية الحول دون اكتساب إيران قدرات نووية، حتى لو اقتضى الأمر القيام بأعمال استباقية وفي حال فشلت هذه التدابير، قد تسارع الدولة اليهودية إلى إنهاء سياسة الغموض النووي التي تتبعها، كنوع من الردع.

في الجانب الإيراني يتضح أن إيران وحلفائها لا يتعجلون مواجهة عسكرية مع إسرائيل حتى بات الأمر مكشوفا على درجة عالية من ضبط النفس في غزة ولبنان وسوريا والعراق تحت شعار الإعداد وبناء القدرات اللازمة للمواجهة القادمة، لتسود أيديولوجيا المقاومة دون الفعل المقاوم المباشر، وبالرغم من ذلك فإن المنطقة عموما لا يمكن أن تقف على تخوم حالة اللاحسم الراهنة، أو "الردع المتوازن" لأن إرادة الحلف الإسرائيلي الأمريكي على القضاء على قوة إيران وحلفائها أكبر من سياسة بناء القوة سواء الإيرانية أو المقاومة.

لقد بتنا نشهد حربا باردة على جبهة الصراع في سباق بناء القوة من ناحية والضرب الخفي من ناحية أخرى، فهناك المسعى الإسرائيلي في بناء "منظومة دفاعية وهجومية متعددة الطبقات" مثل تعزيز وتطوير منظومة الدفاع الجوي الصاروخي الإسرائيلي المسمى مشروع آرو (السهم) إلى جانب منظومات باتريوت الأمريكية.

 وطائرة بدون طيّار قادرة على ملاحقة وتدمير أية منصة متحركة لإطلاق الصواريخ البالستية. وامتلاك طائرات حربية مقاتلة بعيدة المدى قادرة على الوصول إلى مناطق محمية جيداً في عمق الأراضي الإيرانية والعودة منها. وامتلاك طائرات صهريجية (من أجل التزود بالوقود جواً). وأقمار صناعية للاتصالات.

وأسلحة بالغة الدقة في الاستهداف، ولوازم الحرب الإلكترونية المحسّنة. وهو الأمر ذاته الذي تعمل عليه إيران سواء في تطوير الصناعات الصاروخية، أو أنظمة الدفاع الصاروخية، والطائرات بدون طيار، أو الأقمار الصناعية للأغراض العسكرية، وصولا إلى إيصال السلاح لقطاع غزة، وبناء ترسانة حزب الله العسكرية في لبنان.

كما لا يخفى الصراع الدائر باغتيال الخبراء الفنيين والعلماء النوويين في طهران، وملاحقة وكشف شبكات التجسس الإسرائيلية في لبنان، والأخطر إشغال قوى المقاومة بملفات الصراع الأهلي الجارية في فلسطين ولبنان كملف المصالحة الفلسطينية في غزة، والمحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري في لبنان.

يختم البحث بالقول:

إن التحدي الذي تمثله إيران اليوم في الصراع العربي الإسرائيلي وفي موقفها من القضية الفلسطينة هو في الوقت نفسه فرصة لكافة دول الإقليم ولقوى عديدة في المنطقة لرسم سياساتها واتخاذ قراراتها حيال مستقبل وأمن فلسطين والمنطقة على قواعد وحقائق ليس آخرها حقائق الجغرافيا السياسية التي تؤكد أن إيران جزء من نسيج المنطقة التاريخي والحضاري، وأن هذا الدور المتعاظم لإيران سينكشف على موازين قوة جديدة يفضل بالدول والحركات والتيارات الراشدة أن تساهم في تشكلها بشكل مناسب يحفظ لها مصالحها إن غابت عنها عقائدها.

كما إن هذا التحدي الإيراني جعل من مستقبل إسرائيل الاستراتيجي عملا قيد الإنجاز وليس عملا منجزاً، وبات سؤال استمرار الوجود سؤالاً ملحاً على قادة إسرائيل، وبات الصراع الدائر نائماً على أسس حضارية شاملة لإعادة رسم مستقبل المنطقة برمته، فالصراع ضد المشروع الإسرائيلي لم يكن ولم يعد صراعاً سياسياً على مناطق نفوذ، أو على دور إقليمي لهذه الدولة دون تلك في سياق تحقيق المصلحة القطرية، إنه صراع مفتوح على احتمالات أيا كانت سيناريوهاته سيعيد تشكيل المنطقة من جديد لأن بوابته من فلسطين وإلى فلسطين.