صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب بعنوان التحوط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأميركية، للمؤلفين: علا رفيق منصور وأيمن إبراهيم الدسوقي. يقع الكتاب في 320 صفحة.
تكمن أهميته في محاولته تطوير نظرية التحوّط الاستراتيجي Strategic Hedging؛ كونها نظرية هيكلية جديدة في العلاقات الدولية، من خلال تطبيقها على دولة متوسطة، هي إيران، والتمييز بينها وبين المقاربات المماثلة في العلاقات الدولية مثل التوازن الصلد، والتوازن الناعم، والمسايرة، وغيرها.
يعمد المؤلفان إلى دراسة التحوّط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة الأميركية، ومقارنته بحالاتٍ لدول أخرى اتبعت استراتيجية التحوّط في سياساتها الخارجية، لمعرفة مدى نجاعة إيران في تطبيق هذه الاستراتيجية لتحقيق المرجو منها. وقد توصَّلا إلى أن إيران تمكّنت باتباعها ذلك من حماية برنامجها النووي، والحفاظ على أمنها القومي بتجنّب خطر المواجهة المسلحة مع الولايات المتحدة، وتحقيق توازن داخلي وخارجي، وتعزيز مكانتها في المعادلة الإقليمية في الشرق الأوسط. في مقابل ذلك، عانت إيران ترديًا كبيرًا في الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، أدى إلى تراكم ضغوطٍ داخلية كبيرة على نظام الحكم فيها، فضلًا عن تكاليف أخرى اضطرت إلى تحمّلها من أجل الاستمرار في سياساتها التحوّطية تجاه الولايات المتحدة.
إن نظرية التحوّط الاستراتيجي تُعبّر في الأساس عن اتّباع منهج معتدل أو طريق وسطى تقوم على التوازن الناعم والتوازن الصلد، حيث تتعاون الدولة "المتحوِّطة" مع مصدر تهديد أمنها الوطني (الدولة / الدول المهدِّدة)، لتجنّب التهديدات أو الدخول في صراعات غير متكافئة. وفي الوقت نفسه، تعتمد الدولة المتحوِّطة عناصر من التوازن الصلد في مواجهة الدولة/ الدول المهدِّدة، عن طريق تطوير قدراتها العسكرية والاقتصادية وزيادتها، والانخراط في تحالفات سياسية أو عسكرية مع القوى المنافِسة للدول مصدر التهديد.
بناء عليه، يستهدف التحوّط الاستراتيجي إيجاد موازنة بين استراتيجيتَي التوازن الصلد والتوازن الناعم، مع تجنّب المواجهة المباشرة مع الدول المهدِّدة في الوقت نفسه، ويُتيح للدول المتحوّطة ممارسة التوازن الإيجابي أو السلبي تجاه الدول الأقوى التي تُمثل تهديدًا لأمنها القومي. والعنصر الأساسي لفهم هذه الاستراتيجية المختلطة هو أن الدولة المتحوِّطة تحاول، أساسًا، تقليل تهديدات استقرارها والبقاء في عالم فوضوي Anarchic، وتأمين وضعها النسبي وليس تغييره.
من أجل تمييز سلوك التحوّط من غيره من أنماط سلوك الدولة الخارجي، طُوِّرت آلية من أربعة معايير على الدولة المتحوِّطة أن تستوفيها، وهي: تحسين القدرات التنافسية (العسكرية والاقتصادية)، و/ أو زيادة الاحتياطيات الاستراتيجية من السلع العامة؛ وتجنّب متابعة استراتيجية التوازن التقليدي بصورة صريحة تجاه الدولة المهدِّدة، بل الانخراط في علاقات تعاونية معها في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وتخطيط استراتيجية التحوّط والتنسيق لها مركزيًّا على أعلى المستويات الحكومية؛ والاستعداد لقبول التكلفة المحلية والدولية لمتابعة التحوّط.
تلجأ الدول، بصرف النظر عن مكانتها النسبية في النظام الدولي، إلى استراتيجية التحوّط؛ إذ تُوظِّفها القوى الكبرى التي تنتمي إلى الفئة الثانية في النظام الدولي، سواء أكانت حليفة أم مُتحدّية وغير راضية عن مكانتها الدولية، لمواجهة الأخطار الكامنة في بيئة دولية تتّسم بعدم اليقين، و/ أو لموازنة الدولة القائدة، والتكيّف مع الأثر الكلي لسياستها الخارجية ومظاهر عدم التأكد من نيّاتها الاستراتيجية، ولا سيما إذا كان الهيكل الدولي أحاديًا، ويتّسم بعدم تركز القوة، وبتدهور المقدرات النسبية للقطب الواحد أو قائد النظام، كما هي حالة هيكل النظام الدولي الراهن.
في الوقت نفسه، يساعد التحوّط في منع المنافسة الجيوسياسية من التحوّل إلى مواجهة حقيقية، وهي مصلحة أساسية متبادلة للطرفين (الدولة المتحوِّطة، والدولة المهدِّدة). ثم إن التحوّط ضد مخاوف الدولة ينشئ حالة من زيادة المرونة في الخيارات، فلا بد من إبرام التزام من جانب واحد لا رجعة فيه؛ ما قد يُضرّ بفاعلية عملية إدارة التحالف. ويتمثل تحدٍّ آخر في إدارة ردات الفعل الإقليمية؛ فقيام الدولة المتحوّطة بالتحديث العسكري المستمر قد يثير العديد من المخاوف الإقليمية، ويفقدها شركاء إقليميين هي في حاجة إليهم. والحجة الكامنة وراء استراتيجية التحوّط هي أنها تسهم في أمن الدول من حيث هي وحدات فردية، حتى إن كان ذلك يسهم على نحوٍ غير مباشر في إضعاف فعالية تحالفات قد تكون جيدة للأمن الوطني بالنسبة إلى الدول فرادى، لكنها بالتأكيد ذات نتائج سلبية بالنسبة إلى الأمن الجماعي، وما مثال دول الخليج العربية عنا ببعيد.
تتضمن السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة خليطًا من التعاون والصراع، حال دون حدوث مواجهة مباشرة بينهما، وفي الوقت نفسه حافظ على قدر من التعاون الأمني المحدود في بعض المجالات، ومن التعاون الدبلوماسي أيضًا في إطار المفاوضات الدولية، إضافة إلى حرص إيران على تكوين تحالفات استراتيجية وأمنية مع بعض الدول الكبرى، والحفاظ على قدرات عسكرية دفاعية وهجومية تضمن لها الحماية المناسبة.
في هذا الخصوص، حافظت إيران على التعاون المحدود مع مصدر التهديد لأمنها الوطني (الولايات المتحدة)، من خلال الدخول في المفاوضات الدولية في ما يتعلق ببرنامجها النووي التي بدأت منذ عام 2003. وعلى الرغم من تعثّر هذه المفاوضات في العديد من المراحل المختلفة، فإنها كانت تتّجه في تلك الفترات إلى التهدئة، كي تتجنب المواجهة مع واشنطن. وفي الوقت نفسه، كانت إيران تُظهر دائمًا قدراتها العسكرية المتطورة، عن طريق إطلاق الصواريخ الباليستية وإعلان وجود أسلحة متطوّرة، وتنوّع أوراق اللعبة لديها من حيث التأثير في مجريات الأحداث في الشرق الأوسط؛ وذلك بسبب نفوذها الإقليمي المتزايد في المنطقة، إضافة إلى علاقاتها الاستراتيجية بالدول الكبرى، ولا سيما روسيا والصين، لكنها لم تقم بزيادة تلك التحالفات والقدرات العسكرية إلى الحد الذي يؤدي إلى استفزاز الولايات المتحدة، بل تعاونت دبلوماسيًا معها.
اعتمدت إيران عناصر التوازن الناعم في علاقتها بالولايات المتحدة؛ إذ اختارت التعاون معها في المجال الدبلوماسي، وفي بعض المكونات الأمنية المحدودة، على نحوٍ واعٍ ومحدود، من غير أن يحدّ من حرية تصرفها واستقلاليتها. وفي الوقت نفسه، حاولت الحدّ من سياسات واشنطن وتقويضها من خلال استخدام الوسائل السياسية والدبلوماسية والمؤسسية. يُضاف إلى ذلك أشكال أخرى من التعاون الوظيفي غير العسكري الذي تمثل في الأساس في المفاوضات النووية التي بدأت منذ عام 2004 وحتى توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة، وذلك لتجنّب، أو لتقليل، التكلفة المحتملة للمواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة.
يجب أن نشير إلى أن الهدف من اختيار إيران الصين وروسيا حليفين استراتيجيين لها لم يكن تمريرًا أو تحويلًا لعبء الردع أو القتال ضد الولايات المتحدة إلى العضوين الأقوى في التحالف (أي بيجين وموسكو)، وإنما تحسين وضعها النسبي، ودعم أمنها القومي في مواجهة واشنطن. بعبارة أخرى، لم تسعَ إيران للركوب المجاني Free Ride على جهود التوازن الصلد للقوى الكبرى.
في ظل بيئة دولية تتسم بعدم التأكد وعدم اليقين بشأن النيات الاستراتيجية للخصم، وفي إطار الظروف الدولية الراهنة، أسهمت استراتيجية التحوّط في تقليل التهديدات الطويلة الأجل إلى أقصى حد ممكن - وهي المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة - إضافة إلى تعظيم الفرص على الأمد الطويل، بما في ذلك فرص التعاون الدبلوماسي مع واشنطن والتعاون والتحالف الاستراتيجي مع بعض القوى الكبرى، مثل روسيا والصين. كما ساعدت هذه الاستراتيجيا الدولة الإيرانية، في الوقت نفسه، من خلال تلقّي الدعم من الدول الأوروبية الرئيسة. وإضافة إلى ذلك، مكّن سلوك التحوّط إيران من الفصل بين القضايا، ومن ثمّ تنويع الشركاء. ذلك أنها لجأت إلى التحالف مع بعض القوى الكبرى في قضايا مختلفة، بغية الاستفادة من إمكانات هذه الدول؛ فتعاونت مع بيجين وموسكو، لا في المجالين الأمني والعسكري فحسب، بل في مجالات تعاون أخرى متعددة ومتنوعة، راوحت بين مجالات البنية التحتية والنفط والتجارة وتكنولوجيا الفضاء والتعاون الدبلوماسي والمجال الاقتصادي والاستخدام السلمي للطاقة النووية، وغيرها.
سعت إيران لتعظيم مكاسبها الاقتصادية، من خلال روابطها التجارية مع كل من روسيا والصين، بغض النظر عن أي خلافات سياسية مع البلدين، ومن ثمّ حققت مكوّن البراغماتية الاقتصادية. أما في ما يتعلق بالمكوّن الثاني (الانخراط والمشاركة)، فقد أقامت إيران اتصالات مع القوى الكبرى، بل حافظت عليها، من خلال مشاركاتها في المنظمات الإقليمية، لإضفاء طابع مؤسسي على علاقاتها بموسكو وبيجين، إضافة إلى تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وتوقيعها خطة العمل الشاملة المشتركة مع الولايات المتحدة والدول الخمس الأخرى، لإضفاء طابع مؤسسي على تلك العلاقات.
وفي الحالة الإيرانية، لا يمكننا أن نغفل الشخصية الإيرانية، وكذلك الفكر السياسي الذي يتّبعه نظام الثورة الإسلامية عند تحليل وتفسير استراتيجية طهران التحوّطية تجاه الولايات المتحدة؛ وهو ما أشارت إليه الدراسة بصفة مختصرة في ما لدى إيران من خبرة تفاوضية. ولعل التساؤل يُثار الآن حول مستقبل السياسة الإيرانية في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني، خاصةً في ضوء انطلاق مفاوضات فيينا منذ نيسان/ أبريل 2021، بغرض إحياء الاتفاق النووي الإيراني وإعادة الولايات المتحدة إليه.