صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب تنظيم الدولة المكنّى "داعش" في جزأين. بعدما قدّم عزمي بشارة في الجزء الأول، إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة، دراسة شاملة لظاهرة "داعش" ووضع الإطار العام لمشروع البحث، يتناول الجزء الثاني منه، التشكل والخطاب والممارسة، جوانب عينية من تشكّل التنظيم وتطوره وتمدده وفكره وحياة المجتمعات في ظل سيطرته. والجزء الثاني، موضوع هذا العرض، باقة من بحوث أشرف عليها بشارة، جديدها تناول مسألة "الجهادية الكردية" التي قلما تطرق إليها الباحثون، والخلاف بين جبهة النصرة و"داعش"، أو انقلاب الفرع على الأصل.
يتألف هذا الكتاب (575 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من ثمانية فصول موزعة في ثلاثة أقسام. يتألف القسم الأول، نشأة تنظيم الدولة الإسلامية وجذوره وسياقاته المحلية: حالة العراق، من ثلاثة فصول.
في الفصل الأول، ممران إلى "داعش": الجهادية الكردية والزرقاوي، يتناول الباحث حيدر سعيد المعبرين اللذين عبرت منهما الجهادية إلى العراق: الجهادية الكردية وأبو مصعب الزرقاوي. الدراسات ركّزت على الزرقاوي، لكن دور الجهادية الكردية ظل غير واضح، وهو حاسم وأساسي.
يبيّن سعيد أن نمو الجهادية الكردية اختلف بنيويًا عن نموها في العراق والجزء العربي منه، فتنظيمات الإخوان المسلمين في كردستان قامت بدور مركزي في تطور تيارات الإسلام السياسي الكردية. وإذا كان الإخوان الكرد ظلوا مرتبطين بالقيادة المركزية العراقية، فإنهم عاشوا بعد إيقاف التنظيم المركزي في بغداد في عام 1971 مخاضًا كبيرًا لإعادة بناء تنظيم سياسي إسلامي كردي، وتطوير مقاربة الإسلاميين في التعاطي مع القضية الكردية، للانخراط في الحركة الكردية المسلحة، فضلًا عن أن كردستان عرفت تجربة جهادية في أفغانستان.
كان الحراك السلفي في كردستان ذا أهمية قصوى لنظيره العربي في العراق؛ إذ أصبحت كردستان نقطة استقطاب للجهاديين من سائر مناطق العراق. ولن تفهم خطورة ما كان يجري إلا بعد الغزو الأميركي للعراق، وحصول هجرة الجهاديين المعاكسة، من كردستان إلى بغداد. ستتجمع خيوط هذه الديناميكية تحت اسم تنظيم الزرقاوي الذي كان معبرًا ضروريًا لصياغة التنظيمات الجهادية العراقية، بالشكل الذي ستكون عليه بعد عام 2003.
في الفصل الثاني، صعود تنظيم "الدولة الإسلامية" في العراق: الخلفيات والممارسات، يقدم الباحث نيروز ساتيك الخلفية التاريخية لتشكّل التنظيم، وإلى العوامل السياسية والاجتماعية التي مهدت لاستعادته مصادر قوّته ومكّنته من السيطرة على مساحات جغرافية واسعة من العراق. تمثل أهم هذه العوامل بفشل مشروع الاحتلال الأميركي للعراق في بناء مؤسسات حكومية وطنية عراقية، ونهج الحكومة العراقية في ممارسة سياسات التمييز بين المواطنين العراقيين والإقصاء السياسي.
يتناول ساتيك أيضًا تركيبة داعش وآليات عمله وسياساته وإستراتيجيته ومؤسساته التي تدير شؤونه الداخلية، وممارسات التنظيم وسلوكه مع المجتمعات المحلية في العراق وكيفية تعامله مع المؤسسات الحكومية.
يستنتج ساتيك أن الأساس المصلحي الجيوسياسي كان المحرّك الرئيس للقيادة المركزية لتنظيم القاعدة، في حين اعتمد داعش على مقاربة جديدة تقوم على أولوية مواجهة النفوذ والتوسع الإيراني في المنطقة ومحاربة المشروع الصفوي بعد رحيل القوات الأميركية من العراق. فالأساس الهوياتي (السني – الشيعي) هو المحرّك الرئيس لسلوك داعش، ومن خلاله يستقطب الأفراد المقاتلين.
يصف حيدر سعيد في الفصل الثالث، الطريق إلى سقوط الموصل، خلفيات سقوط المدينة بيد تنظيم داعش، من منظور فشل الدولة في سياسة التعدد الإثني، ويجادل بأنه لا يمكن فصل التنظيمات الراديكالية عن البيئة السياسية التي تنمو فيها، لأنها نتاج لوضع سياسي يعاني اختلالاتٍ بنيوية. ومن ثمّ، لا تملك هذه التنظيمات قوةً ذاتيةً، كما أنها ليست تكوينات أيديولوجية، ولا قيمة للأيديولوجي فيها منزوعًا عن سياقه السوسيو-سياسي.
يشرح سعيد أزمة النظام السياسي من خلال النزعة الأغلبوية التي كانت العتبةَ التي تولدت منها نزعة تسلطية استئثارية، وتزامُن هذه الأزمة مع الثورات العربية وتطوراتها، ولا سيما الثورة السورية. وكانت مشاركة "دولة العراق الإسلامية" في القتال في سورية أول دور خارجي ينفذه التنظيم، سعيًا إلى تعزيز مكانته الإقليمية واستعادة تأثيره الداخلي، مع استمرار الأزمة السياسية في العراق وتصاعدها.
يرى سعيد أن إحياء الفصائل المسلحة مما كان يسمى "فصائل المقاومة العراقية" هو نتيجة التطورات السياسية في السنتين اللتين سبقتا سقوط الموصل؛ إذ كانت "الانتفاضة السنّية" حافزًا لاستئناف نشاطها، غير أن هذه الفصائل خاضت صراعًا مركبًا ضد داعش: على النفوذ والسيطرة، وعلى رواية ما جرى؛ إذ كان وجود داعش محرجًا للنخب السنية. لذلك، تمثلت السردية السنّية عن سقوط الموصل بأنه جزء من انتفاضة سنية عامة، وأن داعش ليس الطرف الرئيس فيها، بل أحد الأطراف فحسب. وقمعَ داعش طموحات الفصائل التي لم تندمج فيه، وأقصى المنظمات السنية التقليدية، مع أن نموه استند إلى مظالم السنّة، ليشكّل قاعدتَه الموالية له.
في القسم الثاني، نشأة تنظيم الدولة الإسلامية وسياقاته وبنيته: حالة سورية، ثلاثة فصول. في الفصل الرابع، تنظيم الدولة الإسلامية في سورية: النشأة والبيئة، يرصد الباحث حمزة المصطفى نشأة تنظيم الدولة الإسلامية في سورية في سياق تجربة القاعدة في العراق وتطوراتها وتحولاتها وتفرعاتها السوريّة، مركزًا على الخلاف بين جبهة النصرة وتنظيم دولة العراق الإسلامية، وأسباب الخلاف بين الأخير وتنظيم القاعدة، الذي قاد إلى انقلاب "الفرع" على "الأصل"، وأسس تجربة جهادية جديدة ومختلفة، لا في نهج التوحش فحسب، بل في كونها تجمع بين مرتكزات الفكر الجهادي وشعاراته الأممية، والسعي إلى إقامة مشروع حكم ضمن حيز مكاني محدد.
يرى المصطفى أن الغزو الأميركي للعراق في عام 2003 نقطة ارتكاز رئيسة في مسيرة العمل الجهادي المسلح في المشرق العربي، غير أنه يركز على ظروف الثورات العربية التي انطلقت في عام 2011 وتداعياتها وتحولاتها، خصوصًا في ليبيا وسورية، والتي مهدت الطريق لتأسيس تجارب جهادية مسلحة تتقاطع مع قوى الثورات السياسية والعسكرية حول هدف إسقاط الأنظمة، وتختلف في الغايات المنشودة من إسقاط الأنظمة.
في الفصل الخامس، تنظيم الدولة الإسلامية في سورية: التمدد والانتشار، يرصد حمزة المصطفى أيضًا الانتشار المكاني لتنظيم الدولة وتوسعه في سورية منذ الإعلان عنه في 9 نيسان/ أبريل 2013 حتى اندحاره من الرقة أواخر عام 2017، معتمدًا تقسيمًا مكانيًا وزمانيًا معينًا. يستعرض في المرحلة الأولى التي تمتد منذ تأسيس التنظيم حتى تاريخ انطلاق المواجهة الكبرى مع فصائل المعارضة السورية مطلع عام 2014، إستراتيجيات التمدد والانتشار التي اتبعها التنظيم في مناطق بعينها مثل الرقة وريف حلب وجبال اللاذقية. ثم يتابع انتشار التنظيم في سورية في الفترة 2014-2017، مركزًا على عام 2014 الذي جرت خلاله تغيرات مهمة ومفصلية لعل أبرزها سقوط الموصل في 10 حزيران/ يونيو 2014. آنذاك، وظف التنظيم الزخم العسكري والمعنوي الذي حصل عليه في العراق ليتوسع داخل سورية ويستعيد أغلبية المناطق التي طُرد منها في المواجهة الأولى مع الفصائل السورية، وفي مقدمها محافظة دير الزور، قبل أن يسعى إلى إيجاد موطئ قدم في مناطق جديدة في محيط دمشق والقلمون وريف حمص الشرقي، وعين العرب (كوباني) على الحدود السورية - التركية.
في الفصل السادس، تنظيم الدولة الإسلامية في سورية: البنية ومصادر التمويل، يسعى الباحث طارق العلي إلى بناء تصوّرٍ قريب ما أمكن من الواقع عن هيكل التنظيم وعن مشروعه السياسي وعن قوّته وإستراتيجيته العسكرية المسخّرة له، والتي أدّت بشكلٍ مفاجئ إلى تمدُّده في زمن قياسي مكّنه من فرض نفسه على باقي الفاعلين الميدانيين في سورية والعراق قبل أن تتقلص مساحة سيطرته بعد تدخل التحالف الدولي.
يوظف الباحث وسيلتَي مقاربة: الأولى، أن نستوعب أيديولوجيا التنظيم ونتعرف في ضوء ذلك إلى الأهداف السياسية العامة التي يعلن عنها أو يضمرها وتظهر في ثنايا خطابه وسياق أفعاله؛ والثانية، تقصّي أثر تحرّكاته العسكرية خلال مجالٍ زمني معيّن والتفكّر في كيفية توظيف عناصر قوّته النظرية والمادية ومراقبة سلوكه في خدمة أهدافه السياسية ربطًا بمرجعيته الفكرية. كما يعرض الباحث أبرز مصادر تمويل التنظيم والحركات الجهادية في سورية التي وظفها في إدارة معاركه وإدارة المجتمعات المحلية تحت سيطرته.
يتضمن القسم الثالث، تنظيم الدولة الإسلامية: الخطاب والسياقات الإقليمية والدولية، فصلين. يبحث الباحث حيدر سعيد في الفصل السابع، "داعش": البنية الخطابية: بين الانخراط في المحلي الوطني والبعد الإسلامي الكوني، في البنية الخطابية للتنظيم من خلال مراجعة تحليلية لمكتبة داعش، أي مدوّنته التي أنتجها بنفسه، لا ما ورثه من الفكر الجهادي، ومن النصوص الفكرية التي صاغها، ورؤاه وتصوراته السياسية والأيديولوجية، لا ما نُسب إليه اعتباطًا من تصورات. هذه النصوص استمرار لحزمة التصورات التي ظهرت مع تشكّل دولة العراق الإسلامية، أواخر عام 2006، وتعكس تحولًا من خطاب الجهادية العالمية إلى التنظير لدولة خلافة متعينة.
يشبّه سعيد خطابَ داعش بالمجرة التي تضم مركزًا وأطرافًا، فما يقوله هذا الخطاب ليس واحدًا، وليس متساويًا بين المركز والأطراف، بل هو متفاوت ومتباين أحيانًا. فإذا كانت نصوصه الفكرية الأساسية هي التي صاغت أنموذجه الخطابي، فإنه لم يحذف الجوانب الأيديولوجية الأخرى (مواجهة الغرب، والطواغيت، وهجاء الديمقراطية، وغير ذلك)، بل أزاحها إلى الفئات الطرفية، وقد استعارها من خارج إنتاجه الأيديولوجي، في ما يسمّيه الباحث "الاستصحاب أو التضمين الأيديولوجي" الذي يضمن لداعش طابعًا كونيًا، يكون معه خطابه مركبًا بين نزعة محلوية ذات جذور قومية ونزعة إسلاموية كونية.
في الفصل الثامن، السياقات الإقليمية والدولية لصعود "تنظيم الدولة الإسلامية" وانحساره، يعالج الباحث مروان قبلان سياقاتٍ وأحداثًا إقليمية ودولية رسمت معالمه وتوجهاته، كما أوجدت آليات التصدي له وضوابطه. بحسب قبلان، عند دراسة السياقات الإقليمية والدولية لصعود تنظيم الدولة الإسلامية تواجهنا في المستوى الإقليمي ثلاثية سياقية تنطلق تاريخيًا من الغزو الأميركي للعراق عام 2003، وتتوقف عند ثورات الربيع العربي ومنهجية القمع التي تبنّتها الأنظمة الاستبدادية في مواجهة الجماهير الثائرة، خصوصًا في الحالة السورية.
دفع صعود التنظيم وتحوّله إلى مصدر تهديد أمني إقليمي ودولي الولايات المتحدة الأميركية إلى خلق آلية دولية لمواجهته، عرفت بالتحالف الدولي لمحاربة الإرهاب الذي ضم أكثر من 60 دولة. لم تتوقف الاستجابة الأمنية الميدانية عند الولايات المتحدة وتحالفها، بل تعدته إلى قوى دولية مثل روسيا، وأخرى إقليمية مثل تركيا وإيران والسعودية.
غيّرت هذه الحرب الدولية المعلنة على الإرهاب خريطة التحالفات السائدة، وأنتجت نمطًا من العلاقات تميزت في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بالتباعد مع تركيا، والتقارب مع إيران، والتحالف المشروط مع السعودية.