صدر حديثًا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب القومية العربية والقوميون في تونس (1945-1980) لمؤلفه المولدي حامدي، وهو مكوَّن من ثلاثة أقسام رئيسة في كلٍّ منها فصلان، مستهَلّة بمقدمة ومنتهية بخاتمة وملاحق، وقد خصصه المؤلف لعرض قراءة جديدة لواقع توجهات القوميين التونسيين، وصراعهم مع الداعين إلى "القُطرية"، ومع السلطة، وأسباب هذا الصراع، ومحطاته، ومراحل الانفراج والتوتر التي شابته. يقع الكتاب في 432 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
يحتوي كتاب القومية العربية والقوميون في تونس (1945-1980) على تحليلات معمّقة تغطي موضوع القومية العربية عمومًا، وفي تونس خصوصًا، وقد قسّم مؤلفه التونسيين اتجاهَين: واحد يرى أن تونس "وطنية" خالصة، وآخر يرى أن القومية لم تكن يومًا بعيدة عن قضاياها المصيرية. وتنبع أهمية الكتاب وطرافته في رأي مؤلفه من ظهوره في زمانِ خفوت ما كان للقومية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته من وهج، وفي بيئة (التونسية) كانت تتميز أصلًا بندرة الدراسات البحثية القومية، وما تبع ذلك الخفوت من انتعاش، كما تنبعان من محاولات البحث إثبات ارتباط التونسيين وجدانيًّا وسياسيًّا بمسألة القومية ودحض ما أُشيع عن ضعف ارتباطهم القومي، وحشده دلائل على هذا في فصل مستقلّ خصصه للحركات التونسية القومية التوجه.
يربط المؤلف، في منهج تحليلي – وثائقي، بدايات النهج القومي في تونس بسياسة الاستفزاز الاستعماري الفرنسي، الديني والعرقي والثقافي، الذي دفع الحركات الوطنية إلى التمسُّك بفكرة وحدة المغرب العربي والتآخي للدفاع عن الأرض والهوية، وخصوصًا مع البدايات الأولى لوصول المد القومي المشرقي، المتمثل بالناصرية والثورة الفلسطينية، إلى تونس ومساندته كفاح التونسيين لتحرير بلادهم، لتصلَ العقيدةُ القومية ذروتها لدى التونسيين إثر حرب حزيران/ يونيو 1967، مفجِّرةً تظاهرات عنيفة ضد المصالح الأميركية والبريطانية واليهودية في تونس العاصمة، ومنظِّمة حملات تبرع مالي وتطوع للقتال إلى جانب الدول العربية في المشرق.
يستعرض المؤلف ظروف وقف السلطة التونسية دعمها بعض الدول العربية المؤثّرة إثر حرب 1976، بسبب دعمها الحركة اليوسفية المتطرفة المعارِضة، وتخليها علنًا عن قضايا الوحدة العربية وتوجّهها نحو "القُطرية" التونسية، واعترافها بجرأة "بحق إسرائيل في الوجود"، واستقبالها زعماء الحركة الصهيونية، وإزالة العوائق أمام هجرة اليهود التونسيين إلى فلسطين، وتحوّلها عرّابًا للصلح مع إسرائيل بإطلاق مبادرة الحبيب بورقيبة في عام 1965، والتي قرر فيها الرئيس التونسي كسر الجمود مع مصر لأجلها، وتوجّهه إلى عدة دول عربية وأجنبية لتسويقها، وكل ذلك مع استمرار الاقتناع الشعبي الجماهيري في تونس بقضايا القومية.
يستعرض الكتاب بشمولية التنظيمات السياسية ذات الصبغة القومية في تونس، خلال أربعة وعشرين عامًا (1956-1980)، متوقفًا عند خصائص بعض حركات المعارضة ومواقفها المتباينة من المسألة القومية، مثل أحزاب اليسار والشيوعيين والزيتونيين والحزب الحر الدستوري والاتجاه الإسلامي عمومًا. ثم يعرج على المحاكمات السياسية التي تعرضت لها هذه الأحزاب والحركات، ونتائجها، والخروق القانونية التي شابتها، والأبعاد الإنسانية التي نجمت عنها، ساردًا بعض وقائع المحاكمات العلنية لتلك التنظيمات، على ندرتها.
كتاب القومية العربية والقوميون في تونس (1945-1980) هو قراءة علمية أكاديمية جادة ورصينة ومكثفة، حرص صاحبها على أمانة نقل الوقائع التاريخية، وعدم الشطط في التحليل والحكم، فاستعان بمجموعة كبيرة من مصادر البحث: وثائق المركز الوطني للتوثيق، والأرشيف الوطني التونسي، وأرشيف وزارة الخارجية، وأرشيف المعهد العالي لتاريخ تونس المعاصر، وبيانات الأحزاب، وخطب الزعامات الفاعلة في مرحلة البحث، والمذكرات الشخصية لبعض الفاعلين السياسيين آنذاك، ومقالات الصحف الوطنية والعربية والعالمية التي واكبت الأحداث التونسية ونقلت وقائعها، ونشرات بعض الإذاعات، والشهادات الشفوية عن تلك الفترة، وعدد مهم من الكتب الوطنية والعربية والأجنبية والأطروحات الجامعية غير المنشورة والمقالات العلمية ... وغيرها من المصادر، وهي قراءات قادت جميعًا إلى تحليلات متأنية واستنتاج مجموعة من الأفكار المكثفة، منها:
اتّسام العلاقات بين السلطة التونسية والتيارات القومية بالتذبذب، فهي تارة لاهجومية ولكنْ من دون انفتاح كامل، وتارة تسمح بالعمل للبعث العراقي والإسلاميين ممثَّلين بحركة الاتجاه الإسلامي، وبخاصة بعد نكسة 1967 وهزيمة القوميين نفسيًّا، للعلاقة الجيدة مع النظام العراقي ولخطب ود الدول النفطية بالتظاهر بمواجهة التيارات اليسارية التي "تنشر الإلحاد".
يمكن المهتمين باقتناء الكتاب الحصول عليه من خلال متجر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات أو عبر منصات أمازون وغوغل بلاي ونيل وفرات.