سجلات المحكمة الشرعية "الحقبة العثمانية" – المنهج والمصطلح

15 مايو،2017
المؤلفون

في كتابه سجلات المحكمة الشرعية "الحقبة العثمانية" – المنهج والمصطلح الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (336 صفحة موثقًا ومفهرسًا)، يجمع الباحث خالد زيادة أعمالًا أعدّها خلال اشتغاله على وثائق محكمة طرابلس الشرعية، والتي يبتدئ تاريخها في عام 1077هـ/ 1666م. وانطلق في بحثه المستفيض من أن وثائق المحاكم الشرعية تحتل موقعًا مميزًا بين مجموعات الوثائق التي يمكن أن يستند إليها المشتغلون بالتاريخ في الحقبة العثمانية، كالوثائق القنصلية والتجارية والكنسية وغيرها، مع تميز وثائق المحاكم الشرعية باتساع موضوعاتها لتشمل جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، فضلًا عن حفظها ما كان يرد من عاصمة الدولة العثمانية من فرمانات ومراسلات.

خطاب السجلات

يتضمن الكتاب ثلاثة أقسام؛ ويضم القسم الأول "الصورة التقليدية للمجتمع المديني: قراءة منهجية في سجلات محكمة طرابلس الشرعية في القرن السابع عشر وبداية القرن الثامن عشر" خمسة فصول.

في الفصل الأول، "مدخل منهجي"، يؤكد زيادة أن الدراسات التي اعتمدت سجلات المحاكم الشرعية ما زالت محدودة العدد والنتائج، "والواقع أن وضع هذه السجلات راهنًا - في طرابلس - لا يسمح بالاستفادة المرجوّة، وما دامت غير مصنّفة وغير مرقمة ترقيمًا علميًا، وما دامت فترات الانقطاع والثُّغَر والفجوات غير محصاة إحصاء دقيقًا، فإن عمل الباحث في الوقت الحالي سيكون انتقائيًا وعشوائيًا". وفي أحوال طرابلس في أيام العثمانيين، يقول زيادة إنها "احتفظت بتقاليدها المدينية، لكنها تحولت من عاصمة دولة - ولاية، إلى عاصمة إقليمية، واحتفظت بتأثيرها في حدود اللواء الذي ضم أقضية عدة في الترتيبات الإدارية اللاحقة". وإذ يحاول زيادة العثور على انعكاس لهذا التطور في الوثائق الطرابلسية، يقول إن "السجلات تمثّل، بالدرجة الأولى، نصًا مدينيًا، ويمكنها أن تساعد في إعادة تكوين صورة للمدينة لا تقتصر على جوانبها العمرانية، بل تشمل أيضًا علاقات الإنتاج والسلطة والرقابة السياسية والأيديولوجية". في الفصل الثاني، "الكتاب الشرعي والخطاب المرعي"، يتناول زيادة مسائل النص وحدوده وسلطة الخطاب، معالجًا ذلك من جوانب عدة، منها اللغوي إذ يقول: "يمكننا، من خلال التمييز اللغوي، أن نميز في الخطاب نوعين من السلطة: السلطة التي يتولاها القاضي، والسلطة التي يتولاها الوالي؛ ففي الواقع، كان القاضي يمثّل سلطة مستقلة بشكل تام عن سلطة الوالي، قبل الفصل الذي أقامته القوانين الحديثة بين السلطات"؛ ومنها السلطوي مستنتجًا: "إذا اعتبرنا السجلات مصدرًا للمعلومات، فإنها لن تقدم لنا إلا مزيدًا من المعطيات التي نضعها فوق ما لدينا من المعلومات التي نملك. لكن، إذا اعتبرنا هذه النصوص خطابًا يصدر عن سلطة ويملك سلطته ويكشف عن العلاقات التي تؤسس بنية لا تنطبق عليها بالضرورة بنية اجتماعية أخرى، وجب أن نستمع إلى فحوى هذا الخطاب لا أن نؤوِّله بحسب أغراضنا".

ديني ومدني

في الفصل الثالث، "الدستور المعظَّم: حاكم السياسة"، يقول زيادة إن سلطة الوالي كانت تحدّها سلطة القاضي، وهو من كان يشرف على الجهاز الإداري والشؤون المالية والعسكرية. وكان هذا الجهاز يتكون من غير الأهالي، وإن دخل بعض السكان المحليين في خدمة الوالي.

يركّز المؤلف في الفصل الرابع، "الحاكم الشرعي"، على تفصيل سلطة القاضي من خلال الوثائق الشرعية التي تقدّم فكرة واضحة عن دور هذا القاضي في الرقابة اليومية لحياة المدينة وإشرافه المباشر عليها، "ومع ذلك، ينبغي ألا نحصر دور القاضي في هذه القضايا، إذ إن رقابته كانت تشمل شؤون الجماعات أيضًا، وتنظيم علاقات بعضها ببعض". كان يستعين بالمطران للبحث في شؤون طائفته، وبالمفتي على سبيل الاستشارة، وينصّب مشايخ الحِرَف بطلب من أبناء كل حرفة. يكتب زيادة: "إن سلطة الحاكم الشرعي على جهاز العلماء واضحة ومباشرة إلى حد بعيد. وعلى الرغم من أن هذا الجهاز يتشكل بأغلبيته من الأهلين، فإن تعيينهم في وظائفهم أو خلعهم يجري بإشراف مباشر من الحاكم الشرعي، ما عدا المفتي أو من ينوب عنه موقتًا".

في الفصل الخامس، "المدينة المحمية"، يرسم زيادة فسيفساء المدينة اجتماعيًا في العهد العثماني. يكتب: "استطاع العبد أن يبدل وضعه الدوني إذا حظي بتحريره. أما المرأة، فلم تكن تملك تبديلًا لوضع هو معطى طبيعي، انعكس بحدة على وضعها القانوني والاجتماعي. ومال الفقهاء إلى مسايرة الموقف الاجتماعي السائد من المرأة وضرورة احتجابها واعتزالها في منزلها. إلا أن الحاكم الشرعي كان يضمن للمرأة حقوقًا مقرّرة شرعيًا". ويتضح لزيادة من خلال السجلات أن بعض المسيحيين عمل في التجارة والحِرَف والزراعة والصناعة، وأن علاقات وجهائهم بالولاة كانت قوية في الأمور التجارية والمالية. إلى ذلك، تقدم الوثائق هذه صورة واضحة لهيكلية الطوائف المهنية في طرابلس في تلك الحقبة.

أكثر من مجرد مصدر يتألف القسم الثاني، "دراسات في الوثائق الشرعية"، من ستة فصول. في الفصل السادس، "سجلات المحاكم الشرعية واقعها ودورها في البحث التاريخي – الاجتماعي"، يرى زيادة أن الاهتمام بالسجلات الشرعية في لبنان برز في بداية ثمانينيات القرن العشرين، من خلال الإصدارات والمؤتمرات. ومع ذلك، لم تكن السجلات الشرعية مجهولة، بل لفت الانتباه إليها المؤرخ أسد رستم منذ عام 1929 باعتبارها مصدرًا تاريخيًا. ويسرد زيادة وقائع أنشطة كان هدفها الاعتناء بالسجلات الشرعية، ثم يعرض أحوال السجلات في محاكم صور وصيدا وبيروت وطرابلس الشرعية، فيجد أن أول سجلات محكمة طرابلس يرجع إلى عام 1666، وهي الأقدم بين المحاكم الشرعية في لبنان. فطرابلس كانت عاصمة ولاية واسعة، ما يجعل من سجلاتها مصدرًا غنيًا للأقضية المحيطة بطرابلس، "ويصل عدد السجلات حتى نهاية الحقبة العثمانية إلى أكثر من مئة سجل". وفي تطور البحث التاريخي، تجاوزت هذه السجلات أن تكون مجرد مصدر، إذ فرضت طرائق جديدة للعمل، وأنتجت موضوعاتها الخاصة.

في الفصل السابع، "دور الوثائق في الحفاظ على التراث الحضاري المعماري"، يؤكد زيادة أن هذه الوثائق تساعد الباحثين عن التراث المعماري في إعادة تركيب صورة واقعية لحالة العمران في مرحلة محددة من الزمن، وتسمح لهم بتقدير حالة العمران بصفة عامة، ومع ملاحظة تعاقب الزمن، توضح لهم حالة أثر من الآثار والأدوار التي مر بها. يكتب زيادة: "من الضروري أن نحقق في بعض أسماء المعالم التي يمر ذكرها، فربما عُرف أثر باسم أُهمل واستُبدل في مرحلة لاحقة، أو ربما حمل أثر واحد أكثر من اسم في وقت واحد. كذلك يمكن أن يطلق الاسم الواحد على الحمام والمسجد والخان ... إلخ. ولهذا، فإن تحقيق الأسماء يساعدنا على التعرف إلى وجهة استخدام الأثر في مراحل متلاحقة والأسماء التي حملها في مراحل سابقة".

الوثائق إن حكت

يبحث المؤلف في الفصل الثامن، "تكوّن العائلات في طرابلس"، عن شكل المجتمع الأهلي من خلال الوثائق الشرعية. يكتب: "إن القضايا المتكررة تدور حول البيع والشراء بالدرجة الأولى، ثم الاحتكار المختص بمسائل الوقف ثم الوقفيات بحد ذاتها، إضافة إلى تقرير الوظائف الخاصة بالعلماء ورجال الدين، ثم نصب مشايخ الحرف وإقرار الأصناف الحرفية الخاصة بما يقدّمه الحرفيّون إلى الوالي ودائرته، ثم الالتزامات وتختص بالمناطق المحيطة بالمدينة، فضلًا عن حالات الطلاق والإبراء والنفقة والعتق، وغير ذلك". ويقدم زيادة عرضًا مفصلًا لنظامي الوقف والأعيان، والألقاب الدينية في المدينة كالمفتي ونقيب الأشراف وشيخ التكيّة، والمدينة كفخر الأهالي وفخر التجار وفخر الأعيان وفخر الملّة المسيحية.

في الفصل التاسع، "التنوع السكاني والانتقال في طرابلس (1666-1686)"، يدرس الباحث سجلات البيع والشراء وانتقال الملكيات في طرابلس، فيستنتج أن المسيحيين لم يتعرضوا لضغط أشد مما تعرض له المسلمون من الإدارة العثمانية، وأن الصفقات بين المسلمين والمسيحيين أكثر من الصفقات بين المسيحيين أنفسهم، "وأن حركة بيع الدور والبيوت وسائر العقارات بين المسلمين والمسيحيين لا تدل على اتجاه المسيحيين نحو التمركز في مناطق محددة من المدينة".

يقول زيادة في الفصل العاشر، "الحارات وتوزُّع السكان المسلمين والمسيحيين في مدينة طرابلس"، إن وثائق المحاكم الشرعية والأرشيف العثماني تقدم معطيات كثيرة بشأن التركيب الاجتماعي والسكاني في المدن والأرياف. يكتب: " حافظت محلات طرابلس على اختلاط ملحوظ، بل إن الاختلاط داخل الأحياء ازداد. ومن الواضح أيضًا أن أيًّا من الحارات لم تكن مغلقة على سكن المسيحيين".

في الفصل الحادي عشر، "الأوروبيون في السجلات الشرعية"، يقول زيادة إن ذكر الأوروبيين في السجلات يرد في قضايا شائعة، كالبيع والوكالة والأوقاف، فضلًا عن قضايا أخرى قليلة نسبيًا. وإذ يقدم قضية أنموذجية في هذا الإطار، يستنتج الباحث أن الأوروبيين القاطنين في حارة من حارات طرابلس اعتبروا جزءًا لا يتجزأ من سائر أبنائها، على الأقل من حيث أوضاعهم القانونية، والمشاركة في دفع الضريبة المفروضة على المحلات والتي يتشارك السكان في دفعها. وكان يطلق على الأوروبي أحد لقبين: "مستأمن، الذي يوضح الوضع القانوني للرعايا غير العثمانيين، والإفرنج الذي هو تعبير قديم يعود إلى زمن الحروب الصليبية ويشير إلى الشعوب القاطنة في أوروبا كافة".

أركيولوجيا اصطلاحية

يضم القسم الثالث، "المصطلح الوثائقي في سجلات المحكمة الشرعية"، فصلين. يحمل الفصل الثاني عشر عنوان "الأركيولوجيا الوثائقية"، وفيه يدرس زيادة الوثائق بين التاريخ والسوسيولوجيا، فالمسألة بحسبه لا تدور حول الجانب التوثيقي التقني فحسب، بل حول الجانب الموضوعي أيضًا، "إذ إن الأمر لا يتعلق فقط بكتابة تاريخ الماضي، وإنما يتعلق أيضًا بالكشف عن سوسيولوجيا الحاضر".

يبحث زيادة في العمل الوثائقي على السجلات، فيقوم بتصنيفها إلى وثائق خاصة خلفها أفراد، ووثائق متعلقة بجماعات مثل الطوائف الدينية، ووثائق أجنبية كتقارير القنصليات والسفراء، ووثائق ذات طابع رسمي حكومي أو قضائي. كما يعرض قضية أركولوجية لغوية، قائلًا إن الباحث يقع في هذه السجلات القديمة على مفردات غريبة عن لغتنا الحاضرة شكلًا ومعنى، وأخرى مستخدمة في الحاضر لكن مجهولة الأصول، إلى جانب مفردات مفهومة على الرغم من تبدل دلالاتها عبر الزمن. ويكتب: "تزداد المشكلة تعقيدًا إذا ما انطلقنا من منطقة إلى أخرى، والمفردات ذاتها تحمل معاني ودلالات مختلفة تبعًا للأقاليم والبلاد. كما أن بعض المفردات أو المصطلحات التي اندثرت هنا لا يزال حيًا وشائعًا هناك. ونحن أحيانًا نعطي المعنى ذاته أكثر من اسم أو مصطلح، يرجح استخدام أحدها في مكان واستخدام الآخر في بلد أو مكان آخر".

وينظر زيادة إلى هذه الوثائق من منظور الأصول اللغوية والتاريخية، والأسس القانونية والاجتماعية، محاولًا ترميم بنية اجتماعية ماضية، ومحاولًا استقراء الوضع الراهن في ضوء الماضي من خلال المؤسسات والمناصب والوظائف التي تتمثّل فيها السلطات والقوى الاجتماعية.

أما الفصل الثالث عشر والأخير، "المصطلح الوثائقي"، ففيه ثبتٌ لمصطلحات مرّت بالباحث في أثناء انكبابه على دراسة الوثائق والسجلات الشرعية.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات