مصر الثقافة والهوية

15 فبراير،2024
المؤلفون

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب مصر الثقافة والهوية، من تأليف خالد زيادة، وتتركز فصوله التسعة في بحث السياسة المصرية منذ بداية القرن التاسع عشر، وانفتاح الثقافة والمثقفين على الأفكار الواردة، وعلاقة الثقافة بالسياسة، وتستعرض تاريخيًا علاقة المصريين بالسلطة والعسكر في حقبات تغيُّر الدول المتعاقبة على حكم مصر، ودور المثقف وتأثيره في التحولات الاجتماعية والثقافية والثورية. يقع الكتاب في 256 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.

أسئلة جوهرية عن المثقف ودوره

يرصد المؤلف تطور دور المثقف في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، من خلال أسئلة يطرحها في مقدمة الكتاب، هي: هل المثقف مستقل حقيقة عن السياسة وقادر على أداء دوره ووظيفته بمعزل عن السلطة القائمة؟ ألا يتبدّل دوره من حقبة إلى أخرى؟ هل دوره ووظيفته كتلة متجانسة متماسكة أم أنهما يتناقضان في بعض الظروف والأوقات؟ وهل اشتغاله في السياسة والاجتماع يؤثر في وظيفته الأصلية أم أنه يخفّض من شأنه وشأنها؟ وإذا تخلّى عن أداء دوره في الاجتماع والسياسة، فهل يحتفظ بصفة المثقف أم يتحوّل حِرَفيًّا أو صاحب مهنة؟ وما مقدار مساهمته في بناء الدولة وبلورة الأفكار الوطنية؟ وهل هو الذي يصوغ الهوية الوطنية أم يشارك آخرين في ذلك؟ إلى غير ذلك من أسئلة يحاول الكتاب الإجابة عنها من خلال استعراض التاريخ السياسي والثقافي في مصر منذ بداية القرن التاسع عشر.

أُطلقت تسمية "مثقفين" أول مرة على أولئك الذين اكتسبوا ثقافة الغرب واحتلوا وظائف لم يكن الفقيه يقوم بها، بعد اتّباع العاهل في القرن التاسع عشر عادةَ إرسال بعثات من تركيا العثمانية والبلاد العربية، ومن أهمها مصر، إلى أوروبا لاكتساب علوم التقنيات والإدارة والعسكر الحديثة، ثم تسلُّم أفراد هذه البعثات وظائف خلال خدمتهم الدولتية كانوا يتقلبون فيها بين اختصاصات متعددة، ما أدى إلى إطاحة القوات العسكرية السيفية (القديمة) وإنشاء جيش نظامي مدرَّب على العلوم العسكرية الأوروبية.

العالم العربي والتحديث

مرّ التحديث في عالمنا العربي بحقبات رئيسة ثلاث: الأولى حقبة النهضة، وتُعرف بمرحلة التنظيمات، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. والثانية حقبة السعي إلى الاستقلال، وفيها برزت الوطنيات بأفكار ليبرالية. أما الثالثة فهي التي استتبّت خلالها الأنظمة الوطنية.

كانت هذه الحقبات قصيرة الأجل، ولم يتجاوز أيٌّ منها سوى عقود قليلة، ولذلك عايش معظم مثقّفيها أكثر من مرحلة فيها، ما صقل آراءهم ومواقفهم وشخصياتهم بقوة، وجعلهم يساهمون في بناء مؤسسات الدولة الحديثة في مرحلة النهضة والتنظيمات، بعد تلقّيهم تدريبًا غربيًّا على علوم أوروبا وإتقانهم لغة من لغاتها، مقتنعين بأن من الممكن، مع الوقت والتدرّب، تمثُّل ثقافة أوروبا وبناء قوات عسكرية وأجهزة دولة وأجهزة قضائية وتعليمية عربية نظيرة.

أدت تجربة مصر في القرن التاسع عشر، من حكم محمد علي باشا إلى عهد الخديوي إسماعيل، إلى بروز ثلاث قوى كان لها دورها في تبلور الوطنية المصرية، هي: بناء الجيش النظامي الذي بدّل علاقة المصري بالحكم، وتكوين بيروقراطية إدارية، ونمو طبقة من الملّاك بفعل التشريعات التي سنّها خصوصًا الخديوي إسماعيل. وقد مارست هذه القوى دورًا في بروز فكرة الدستور التي تعني أن مصر هي كيان دولتي قائم بذاته، ومن ثم تبلورت فكرة الوطنية المصرية.

أدى المتعلمون، من خريجي مدرسة الحقوق خصوصًا، دورًا أساسيًا في صياغة الوطنية المصرية، مثل مصطفى كامل، مؤسس الحزب الوطني، وأحمد لطفي السيد، مفكر حزب الأمة ثم الأحرار الدستوريين. ومن هنا صعد دور المتعلم (المثقف) المطّلع على الأفكار الغربية، الفرنسية أو الإنكليزية، في مرحلة صعود الأفكار والتيارات السياسية الليبرالية. وقد جاءت ثورة 1919 لتكريس الوطنية المصرية، ولتدشن فترة من الليبرالية السياسية استمرت ثلاثة عقود.

أدى المثقفون دورًا مهمًا في صياغة هوية مصر الوطنية، من خلال أطروحات تنسب مصر إلى تاريخها القديم، أو إلى عالمها اللغوي العربي، أو إلى العالم المتوسطي. وقد تميّز الفكر المصري، منذ تبلوره مع الرواد أمثال رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وأحمد لطفي السيد وعباس محمود العقاد وطه حسين، بطابعه التربوي. وكان الاعتقاد السائد لدى هؤلاء أن التربية كفيلة برقيّ المجتمع وتبنّيه القيم الحديثة.

إلا أن الأفكار الليبرالية واجهت بروز اتجاهات عقائدية في الثلاثينيات والأربعينيات تعبّر عن نهوض قوى اجتماعية جديدة، وجدت أنها لم تنل نصيبها من النظام القائم، وأن القيم الليبرالية لم تؤدِّ إلى حل المشكلات الاجتماعية والمسائل المتعلقة بالهوية، فبرز الإخوان المسلمون المعادون للتغريب الثقافي والذين يطالبون بعودة قيم الإسلام الأخلاقية ثم السياسية، وظهر كذلك التيار الاشتراكي الذي يطالب بإنصاف العمال، والتيار القومي الشعبوي المتمثل في "مصر الفتاة"، والمتأثر بالتيار القومي الناشئ في إيطاليا، الذي يعبّر صعوده عن تراجع الفكر الليبرالي في أوروبا نفسها.

كان لهذه التيارات المعادية لليبرالية تأثيرها في الحياة الثقافية والسياسية في آن، وقد مهدت لانقلاب الضباط في تموز/ يوليو 1952، الذي تبدّل معه موقع المثقف في الحياة العامة؛ ذلك أن "نظام يوليو" كان يريد للمثقفين أن يسيروا وراء مواقفه التي كانت غامضة أصلًا. وفي الحصيلة، صارت الدولة في مصر، بعد استتباب نظام يوليو، هي التي تحدد هوية مصر، وهي التي تحدد للمثقف مهماته في المشروع القومي أو الاشتراكي.

يتوقف الكتاب عند أبرز رواد الثقافة في مصر منذ الطهطاوي ومؤلفاته العديدة في مجالات التربية والوطنية والتاريخ، ويستعرض أبرز الأدباء والكتّاب الذين جعلوا مصر رائدة الثقافة العربية التي كانت أعمال كتّابها تصل إلى كل البلاد العربية. لكنّ مصر مع الستينيات بدأت تفقد تدريجيًا تأثيرها الثقافي، خصوصًا أن نظام يوليو قطع صلتها بالثقافة الغربية وفرض رقابة على الثقافة؛ الأمر الذي أدى إلى عزلة المثقف وتراجع تأثيره في العالم العربي. وأظهرت الدولة، التي تدّعي أنها حققت كل متطلبات النمو، عدم حاجتها إلى المثقف الذي باتت تحدد له وظائفه من خلال المؤسسات التي يلتحق بها، والتي هي في النتيجة مؤسسات تديرها الدولة وتمولها وتراقبها.

يشتمل الكتاب على تسعة فصول، يتناول أولها موقف المصريين من حملة نابليون بونابرت، ويبحث الثاني في تجربة التحديث في عهدي محمد علي باشا والخديوي إسماعيل، في حين تناقش الفصول اللاحقة بروز الوطنية المصرية، ثم أفول المرحلة الليبرالية، ثم التجربة الناصرية، والتغيير الذي طرأ على مصر في السبعينيات ليصل إلى ثورة 25 يناير، واستعراض نماذج من مواقف المثقفين إزاءها.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات