صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة "ترجمان"، واضطلاعًا منه بالرسالة الفكرية التي تعهّد بها في نشر الأعمال الفكرية والأكاديمية الرائدة في مختلف التخصصات، كتاب حدّ الردّة وحرية العقيدة - نقد عقوبة الارتداد وسبّ النبي طبقًا لموازين الفقه الاستدلالي [مجازات مرتد و آزادى مذهب - نقد مجازات ارتداد و سب النبي با موازين فقه استدلالى]، للفيلسوف والمصلح الفكري الإيراني الرائد في مجال الدراسات الإسلامية محسن كديوَر، الذي كان معارضًا سياسيًّا للحكم الإيراني ومنتقدًا صريحًا لعقيدة ولاية الفقيه الشيعية ومدافعًا قويًّا عن فكرة الإصلاحات الديمقراطية والليبرالية الهيكلية في إيران، وهي أفكار تسببت في إيداعه السجون الإيرانية فترة من الزمان. وقد تُرجم كتاب كديوَر هذا إلى الإنكليزية تحت عنوانAn Introduction to Apostasy, Blasphemy, & Religious Freedom in Islam، وترجم متنه الفارسي للمركز العربي للأبحاث (دون الملاحق، التي تمكن العودة إليها إما في الكتاب الأصلي، وإما في الموقع الرسمي للمؤلِّف) حسن الصراف، وهو يقع في 464 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
وقد وضع كديوَر مقدمة ضخمة وشاملة للطبعة الإنكليزية من حدّ الردّة وحرية العقيدة، ترجمها لنسختنا العربية حسن داخل كريم، وتناول فيها بتوسّع مفهومَي "الردّة" والأحكام المترتبة عليها اللذين أثارا نقاشًا واسعًا في العصر الحديث، إذ بدا أنهما يتعارضان مع حرية إبداء الإنسان رأيه في العقيدة التي يرتئيها مناسبة له.
"الردّة" لم تكن مفهومًا إشكاليًّا في العالم الإسلامي لكنها باتت اليوم محلَّ تعارُضِ القديم والحديث، الخصوصية والكونية، الأنا المسلم والآخر الغربي ... وكذلك على الصعيد الفقهي، الذي يتناول كديوَر بوساطته رؤيةً فقهية تحليلية نقدية للردة، وآراء فقهاء مختلف المذاهب فيها، واضعًا أهم خلافاتهم حولها على مشرحة النقد، ومناقشًا أدلتهم واحدًا واحدًا، من حيث ثبوتها ودلالاتها، باستيعاب وتفصيل، وعندما يجادل المعارضين يستعمل طريقة الحجاج الأصولي بكل تقنياته، فخرج كتابه مفعمًا بالثراء الفكري، والتنقيب الشامل في جوانب القضية المبحوثة، حتى بات تقديمه إلى القارئ العربي مدعاة فخر واعتزاز.
يروم الكتاب مناقشة أسئلة تندرج تحت عنوان "الردّة والتجديف"، مثل: حال الحرية الدينية في الإسلام المعاصر ومواقف المسلمين المحافظين والإصلاحيين من الردّة والتجديف والبدعة، والفروق الجوهرية بين السنّة والشيعة في هذه المسائل وغيرها، انطلاقًا من منظور شيعي، ثم عروجًا على الخطوط العامة لمواقف أعلام السنّة المعاصرين منذ مطلع القرن العشرين في الموضوع، ما سيتيح أمام القارئ دراسة مقارَنة بين مذهبي الإسلام الرئيسين.
يستشهد كديوَر بمقتطفات من كتب أربعة من علماء المسلمين السنّة سماهم بـ "المحافظين"، وهم:
ثم يعرِّج كديوَر على من يسميهم "أصحاب الاتجاه الإصلاحي" لدى أهل السنّة، مستعرضًا آراءهم، ومن أعلام الاتجاه المحافظ لدى كديوَر:
ظهر هذا الاتجاه - في رأي المؤلف - في ثمانينيات القرن الماضي لدى من سماهم "صنفًا جديدًا من المفكرين المسلمين" حلَّل تحليلًا نقديًّا دلالة "المرتدّ"، وأنكر أصحابه أي عقاب دنيوي على ترك الإسلام أو الإساءة إليه، واعتبر حرية الدين مبدأً جوهريًّا في الإسلام، ومن هؤلاء:
يورد كديور أدلة عقاب الردّة وأحاديث صحيحة مروية عن الأئمة، ويقسم المواقف الشيعية في هذه المسألة إلى ثلاثة أصناف: الموقف المحافظ (الأغلبية)، والموقف شبه الإصلاحي (أقلية)، والموقف الإصلاحي (أقلية قليلة ولكنها تتنامى).
لبيان حقيقة أصحاب هذا الاتجاه، اختار كديوَر نصّين رئيسين وآخرين ثانويَّين:
ويورد كديوَر أن الردة تثبت الارتداد لدى الشيعة إما بالإقرار أو بالبيّنة بشهادة رجلين، وأنه يُحكم بنجاسة المرتدّ وأنه لا يغسّل ولا يكفّن ولا يصلَّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين. أما الارتداد الجماعي، فيرى الشيعة أن أهل الردة بعد الرسول ضربان: قوم ارتدّوا بعد إسلامهم، مثل مسيلمة. وقوم منعوا الزكاة وليسوا من أهل الردّة.
النموذج الثانوي الأول: كلام أحمد الخوانساري حول معيار حجية خبر الواحد في عقوبة الردة في كتابه جامع المدارك في شرح المختصر النافع متّبعًا المحقّق الحلّي، وهو أنه لا يخلو عن الإشكال في مسائل الدماء، إذ إن العقلاء لا يكتفون به في الأمور الخطيرة. ويرى كديوَر أن الفقهاء المحافظين وشبه الإصلاحيين قد أهملوا مبدأ الخوانساري القيّم، الذي لقي تأييدًا شديدًا لدى الفقهاء الإصلاحيين.
النموذج الثانوي الثاني: ويورد كديوَر رأيًا لمحمّد رضا الموسوي الكلبايكاني، بأن "إثبات الردّة إشكالية، لأنها انتشرت"، على الرغم من أنه ليس من الذين يرون تعطيل الحدود في عصر الغيبة، وأنه لا يمكن الحكم على كل هؤلاء بالموت.
من أهم فقهاء هذا الاتجاه:
وأورد كديوَر ذكر كثير من علماء الاتجاه شبه الإصلاحي يُعتبرون امتدادًا لأفكار من مروا وتلامذتهم، أمثال: محمّد علي أيازي ومحمّد سروش محلاتي وأحمد قابل وأحمد عابديني، وحسين أحمد الخشن.
ومن الوجوه الإصلاحية البارزة أيضًا: محمد جواد موسوي غروي وعبد الكريم سروش ومحمّد مجتهد شبستري وأبو القاسم فنائي، وغيرهم كثير من الإصلاحيين الإيرانيين.