صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، من سلسلة أطروحات الدكتوراه، كتاب سالم وكاري صناعة الانتماء: دراسة في ملكية الأرض في المجتمع الصحراوي (أيت أوسى 1600-1958)، وهو من تقديم عبد الكريم مدون. يقع الكتاب في 488 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.
الكتاب دراسة لعلاقة مجتمع أيت أوسى بالأرض، من خلال الإجابة عن أسئلة ترتبط بالكيفية التي جرى بها تدبير المجال واستعماله، وذلك عبر ثلاثة مستويات: المادي التقني، والعلائقي الاجتماعي، ثم الرمزي الثقافي، مفصحةً عن موضوع شائك وخطير، تتداخل فيه أزمنة مختلفة، وتتقاطع فيه أسئلة متعددة حتى يصير واقعة اجتماعية كلية.
تشكّل هذه الدراسة أرضية لفهم الحاضر والبحث عن تنمية المجتمع المدروس، كما تشكّل قراءة علمية وواقعية، من حيث طرحها إشكالية البحث في المجتمع الصحراوي في المغرب، من خلال إعادة النظر في العديد من المقاربات التي تعمل على بلورة قراءة علمية له، وذلك بالاعتماد على الفعل الاجتماعي، والانطلاق من بينة بيداغوجية للتمثلات التي أسسها المجتمع الأيتوسي عن نفسه وعن محيطه.
مثلت الأرض عاملًا حاسمًا في تشكّل هوية الأفراد والجماعات داخل واحة آسا خاصة، ومصدرًا لصناعة الانتماء ينساق الناس إليها بحس قهري محسوم، وكانت الشخصية الأساسية التي تنسج الاستراتيجيات وترسم حدود الاختلاف وهوامش تحركها وتخوم الالتباس فيها. فعلى الرغم من تعدد منطلقات الهويات (مرابطون، حراطين، رُحَّل)، فإن الأرض شكلت خط التماس بالنسبة إليها جميعًا، وسعت كل هوية من خلالها إلى شرعنة وجودها وتأكيده، فنصبح أمام هويات متداخلة ومتعارضة، يحفز بعضها بعضًا. ويمكن أن نقول إنها "مشرعَنة"، أنتجتها المجموعات المهيمنة داخل القصر، ومستمدة أساسًا من أمرين: رأس مال رمزي أو قوة زمنية، وهي التي سعت من خلال الأرض لتبرير وشرعنة هيمنتها، ثم هوية "مقاومة" شكّل الحصول على الأرض أبرز وجوه المقاومة بها لدفع حالة التقليل والتصنيف الدوني، نتيجةً لسلوك العناصر المهيمنة ومنطقها، وابتكار واجهة لدخول شبكة الرموز الواحية واكتساب المعنى.
ومن داخل كل هوية، كانت تبرز هويات فرعية ظل عنوانها الرئيس الأرض، وبين هذا وذاك ما كان اللون والعرق إلا تبريرًا لصراعات هي بالأساس مادية ورمزية، وغطاء لمسافات اقتصادية واجتماعية.
تتداخل المنافع المادية بالرمزية إذًا في ملكية الأرض، لأنها تمنح مالكيها وجاهة الأصيل وحالة من الأمان الرمزي يعيشها من رسم نفسه في الواحة، والترسيم هنا يعني الابتعاد عن الهامش وعن الوضعيات الغامضة واللايقين. فتصبح الأرض في هذا السياق مقولات تصنيفية وتعريفية، يعتمدها الفاعلون أنفسهم إجرائيًّا، وتتمتع هذه المقولات بصفة المنظم للتفاعلات بين الأفراد. إن الأرض بهذا المعنى ليست فضاء ثابتًا أو بنية جامدة، إنها على العكس حلبة صراع وتوافق، ومختبر لبناء التصورات وتكوُّن المقاصد. باختصار، هي "الشخصية" المولدة للمعنى والمتصرفة في تأويله و"حارس الهويات"، طبعًا إلى جانب الماء، وليس هذا وجهًا من أوجه البلاغة ولا من قبيل المجاز، إنه تسمية لما هو معلن ومستبطن في الجماعة.
لقد كان لتعدد مظاهر ملكية الأرض وتباين أحجامها بين المُلّاك أثره الواضح في تحديد أنماط استغلالها التي أنتجت مجموعة من أشكال الإنتاج، والتي بدورها أفرزت مجموعة من الأدوار الاجتماعية، ومن ثم مجموعة من العلاقات الإنتاجية همّت استغلال الأرض وفلحها والاستفادة من خيراتها، وما أفرزه ذلك من أشكال تنظيمية على المجال. لذلك فقد خضعت الأراضي الزراعية بمجال أيت أوسى لنمطين من الاستغلال: الاستغلال المباشر والاستغلال بواسطة، أي عن طريق الشراكة بمختلف أنواعها، أو عن طريق الرهن والوكالة.
وإن صيَغ استغلال الأرض تعددت، والدوافع وراء تأسيسها (عدم كفاية المساحة الزراعية، والنقص الحاصل في وسائل الإنتاج، ونقص قوة العمل) تباينت، الأمر الذي أفرز علاقات إنتاج متنوعة، وإن ظل الاستغلال المباشر هو السمة المهيمنة، حيث ساعدت عليه بنية الأسرة الممتدة والارتباط العاطفي بالأرض ويبقى أنه في الوقت الذي مكن بعض أشكال استغلال الأرض المشار إليها غير المالكين من الظفر بقسم من الأرض، ومن ثَم تعديل صورة الملكية بالواحة، فإن بقية أشكال الاستغلال الأخرى لم تؤدِّ إلى النتيجة نفسها؛ ما أفصح عن واقع اجتماعي متسم بالتباين بين فئات تردت وضعياتها بفعل تفاوت العلاقات الإنتاجية، واستمرت غير قادرة على إعادة إنتاج نفسها، وفئات أخرى استطاعت بحكم ما توفرت عليه من إمكانات وطاقات من إعادة إنتاج وسائلها.
وبغض النظر عمن كان المستفيد، وعن الشروط اللامتكافئة التي كانت تؤطر علاقات الاستغلال والإنتاج، فإنها لم تكن تستند إلى التضارب أو التناقض الحاد، بل حافظت إلى حد بعيد على الوحدة داخل المجموعة القبلية؛ لأن الأطراف المشكِّلة لها، وأيًّا كان موقع كل منها، مالكًا أو لا يملك أرضًا، كانت في حاجة دائمة إلى الآخر، إما أجيرًا أو مشغلًا.
إن الجماعة، باعتمادها على أعرافها وقوانينها التي نمت وترعرعت للتلاؤم مع حياة البدو الترحالية ونظامهم القبلي، سعت لتنظيم استغلال مجالها الذي لم يكن من السهل السيطرة عليه وتملّكه، ومحاولة ضبطه وتقنين العنف داخله والدفاع عنه ضد تحرشات القبائل الأخرى من أجل استمرار تملكه والاستفادة منه. غير أن الصدمة الاستعمارية، التي تلقاها هذا المجال وأهله، كان لها بالغ الأثر في علاقة الجماعة بالمجال؛ حيث أدت إلى سحب السلطة من يدها، انطلاقًا من سعي سلطة الاستعمار الفوقية لخلخلة هيكلتها ومحاولة نسفها باستثناء حدودها الدنيا التي لا تشكّل تهديدًا مباشرًا لتلك السلطة الفوقية، وكوّنت فوقها جماعة من صنعها جعلت منها وسيلة ووسيطًا في الوصول إلى ضبط المجال والتحكم فيه ومراقبته. لكن جهود نظام الحماية، وبيروقراطيته الصارمة التي لم تستوعب خصوصيات القبيلة في علاقتها بمجالها، كانتا حافزًا لمحافظة عامة أيت أوسى على نظامهم التقليدي على هامش السلطة الاستعمارية في شكل سلطة مضادةContre pouvoir؛ الأمر الذي دفع المستعمر إلى محاولة احتواء الوضع من دون أن يصل إلى حد الاعتراف الرسمي به، محاولًا الاستفادة منه للوصول إلى "الهيمنة المستساغة". ومع ذلك فالقول بتحول علاقة الجماعة بمجالها هو تحصيل حاصل؛ حيث تحول مجال الانتجاع الذي كان الدفاع عنه من أولى أولوياتها إلى تراب محدد Territorialisation ومسيَّر بقواعد شديدة التمركز لم يسبق له أن عرفها. وبتحول علاقة الجماعة بمجالها، تحولت أيضًا علاقتها بجماعات القبائل الأخرى؛ حيث كان لنزع السلاح أثره الواضح في علاقات العنف المتبادلة حول المجال، فتوقفت المعارك الساخنة وأُعلن عن موت الماضي وانتهت مرحلة من التوسع المجالي لصالح زمن الدولة، زمن الضبط والمراقبة من جانب مؤسسة واحدة ووحيدة، وبداية مرحلة من تفكك القبيلة بعدما فقدت أحد أهم مقوماتها، "أتراب".
وإذا كانت الجماعة قد أطَّرت استغلال المجال وقننت الاستفادة منه بوسائل أقل ما يقال عنها إنها مستمدة من المنظور العقلي والواقع، فإنها في مقابل ذلك لم تعدم وسائل أخرى وثيقة الصلة بالرموز والتمثلات سخّرتها أيضًا لغرض المراقبة والضبط والتقنين.
وإن التمثلات حول المجال شكلت في تباينها وتكاملها نوعًا من الحس المشترك، والممارسةِ الدينية الضمنية، والنظرةِ إلى الوجود التي نظرت بها الساكنة إلى مجالها وأطَّرت سلوكاتها اليومية في علاقتها به. فكانت شكلًا من أشكال التكيف مع الظروف الصعبة، وتعبيرًا عن تعاظم التمزق الذي كان يعيشه الإنسان بهذا الوسط بين الحياة الاجتماعية والحياة الخاصة من جهة، والضيق في فهم العالم من جهة أخرى. إن هذه التمثلات، باعتبارها بنية في الوعي الجمعي وأحد تجليات الشخصية الاجتماعية، ساهمت إلى حد بعيد في تنظيم المجتمع المدروس؛ حيث شكلت إلى جانب الأعراف وسيلة للضبط الاجتماعي كبحت جماح العنف الذي كثيرًا ما هدد استمرار الجماعة وانسجامها وتوازنها، وعوضت على المستوى النفسي – السيكولوجي، على الأقل، نقص وسائل الجماعة التقنية وتواضع خبراتها الطبيعية. وفي كل ذلك، لم تكن هذه التمثلات كينونات أفلاطونية حرة الحركة، ولا شيئًا علويًّا أو منزَّلًا، بل هي مخلوق أنتجه واقع المجتمع بصراعاته وحاجاته.
إذًا، الأرض و"أتراب" شكلتا المحدد لهوية أيت أوسى والمحرك الفاعل في ديناميتهم الاجتماعية منذ بداية تكونهم، فجاءت هيكلتهم في مختلف أبعادها مؤسسة على ضرورة تملّك هذه الأرض والدفاع عنها وتنظيم الاستفادة منها، وفق أسس ثلاثة رئيسة وهي: الحيوان باعتباره الملكية الخاصة الوحيدة، والتنقل المستمر بحثًا عن المرعى والماء، والقبيلة بصفتها تنظيمًا اجتماعيًا؛ فمثّل تكامل هذه العناصر الثلاثة استراتيجيات للتفاعل مع كل من المحيط الطبيعي والفضاء الاجتماعي. وحتى وإن شهد ارتباط أيت أوسى العضوي بترابهم رجة زمن الاستعمار، فإن العلاقة الروحية والتمثلات التي أسسوها عنه ظلت قائمة ولم تشهد قطائع كغيرها، وهو ما نجد له امتدادًا إلى اليوم.