دور الشباب في الحراك الثوري السياسي في اليمن

دراسة سوسيولوجية للفترة 2011–2016

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن (سلسلة أطروحات الدكتوراه) كتاب عبد الكريم غانم دور الشباب في الحراك الثوري السياسي في اليمن: دراسة سوسيولوجية للفترة 2011-2016. يتألف الكتاب من 271 صفحة، ويشتمل على ببليوغرافية وفهرس عام.

الكتاب دراسة ميدانية تتناول بالتحليل المتعمق تجربة الحراك الثوري السياسي الذي شهده اليمن في سياق ثورات الربيع العربي. وتركز على تحليل المحددات الاجتماعية لقيامه، والدور السياسي للحركة الاجتماعية التي جمعت السمة الشبابية والحزبية، واتجاهاتها وموقعها وموقفها من التغيير، وتحليل التكاليف والفوائد التي اقترنت بمشاركتها السياسية، وطبيعة الفرص والمعوقات التي أحاطت بها، في ظل تأثير البنى الاجتماعية التقليدية، والمتغيرات الخارجية، من خلال مقارنتها بتجربتَي تونس ومصر، ورصد خصائص التجربة اليمنية، ونقاط قوّتها وجوانب ضعفها، وتقييم طبيعة "المجال العام" القائم وما بات يتيحه من مشاركة سياسية يمكن البناء عليها في تحقيق التحول السياسي، ما يجعل من هذه الأطروحة مرجعًا يخدم المثقفين والأكاديميين والناشطين وصناع القرار.

إطار مفاهيمي

إن قراءة الحراك الثوري السياسي في اليمن في ضوء نظريات "العملية السياسية"، مفيدة في تحليل الظروف الاجتماعية التي أحاطت بتكوُّن هذا الحراك وتفسير قدرة الفاعلين السياسيين على التأثير في شكلٍ يسمح بتعبئة المؤيدين، وتبقى الحاجة إلى تحليل طبيعة الصراع بين الحركة الاجتماعية، ممثلة بالشباب وجماعات المعارضة على اختلاف توجهاتها وانتماءاتها، والنظام السياسي الذي يميل إلى الدكتاتورية واحتكار السلطة والثروة، ويعاني الفسادَ والمحسوبية، وذلك ما جعله أقل قدرة على تحقيق الحاجات الأساسية والمطالب العامة، الأمر الذي يتطلب الاعتماد على نظرية الحركات الاجتماعية الجديدة لفهم خصائص الحركة الاجتماعية في اليمن، باعتبارها حركة عابرة للأيديولوجيات، تنتمي، في معظمها، إلى الفئات الاجتماعية المتوسطة والفئات الفقيرة القريبة من المتوسطة، ولفهم موقف الحركة الاجتماعية من التغيير، وفهم أهدافها ومطالبها، حيث إن نظرية الحركات الاجتماعية الجديدة تركز على المستوى الكلي للمجتمع، بينما تركز نظريات تعبئة الموارد والفرص السياسية على المستوى الجزئي التنظيمي.

ويمكن هذه المقاربة النظرية أن تساعد في فهم هذا الحدث؛ فالفرص السياسية تسلط الضوء على كيفية تحفيز السياق السياسي للسلوك الجماعي، ومن ثمّ تغيير الاستراتيجيات والتكتيكات، وتؤكد أهمية الانقسام بين القادة السياسيين، وتأثير انضمام الجماعات المنشقة في الحركة الاجتماعية. كما أن من شأن هذه المقاربة أن تساعد في تحليل الفعل الجماعي الذي أدّته الحركة الاجتماعية لتحريك مطالبها وإدراك مدى نجاحها في تقدير الفرص السياسية البنائية وتكوينها، ومدى قدرتها على إنشاء الخطاب الجماعي وتقدير حجم المخاطر المترتبة على هذا الفعل الجماعي، في إطار سياقه الاجتماعي-السياسي، وتكوين الهوية الجماعية للحركة الاجتماعية، التي ضمّت الفئات الشعبية وأحزاب "اللقاء المشترك" والحوثيين والقوى الجنوبية والمرأة والجماعات الاجتماعية والسياسية المختلفة التي التحقت بالحراك الثوري، وإلى أي مدى تأثرت الحركة الاجتماعية في اليمن بحالة الانقسام الاجتماعي ووجود الهويات المتعددة.

خلفية تاريخية

إن عملية التحديث والتنمية التي شهدها اليمن خلال العقود السابقة لم تكن من الشدة والعمق الكافيَين لتؤدي إلى الاندماج الاجتماعي، إلا على نطاقٍ محدود، ما جعل بعض الجماعات الاجتماعية تحافظ على هوياتها الفرعية. وعندما انكشف عجز الدولة واختلال بنيتها وفساد قادتها، وتراجعت الثقة بشرعيتها، واتسع نطاق المقصيين عن المشاركة في السلطة، بدأت الحاجة إلى ظهور تكتل سياسي معارض داخل إطار البناء السياسي، وتكوَّنت الحركات الدينية والجهوية والسلالية خارج نطاق النظام السياسي الرسمي، ولا سيما من الجماعات التي تشعر بالاستبعاد والحرمان وتنازع القادة السياسيين الأحقية في الحكم، وتستمد تأثيرها من الارتباط بتنظيم اجتماعي قوي، له امتداده في الماضي، كالانتماء إلى الجماعات الجهادية المتطرفة، والحركات السلالية القائمة على أساس الهوية العرقية، وحركات الاستقلال المرتبطة بهوية جهوية، وصولًا إلى التحالف الحزبي الذي يجمع بين الاستناد إلى قواعد حزبية وطنية والاستناد إلى نفوذ قبلي.

إن المشاركة السياسية، ممارسةً وأيديولوجيا، هي ظاهرة جماعية، أي منظومة من المعايير والقيم والرموز، يتغلب فيها الإيمان والاعتقاد على الحساب العقلاني لمقدار الفوائد وحجم التكاليف، بما يترتب عليه من استعداد للعنف وربط الصراع بنزعات انتقامية وثارات قبلية، وسعيٍ لاستبعاد الجماعات الأخرى من تحقيق مكاسب سياسية؛ فعجز الدولة عن تحقيق الرعاية الاجتماعية، وبطء تأثير برامج التنمية في تغيير البنى الاجتماعية، ترتب عليهما بقاء الانقسامات الاجتماعية المرتبطة بالماضي، إلى جانب التعدد والتنوع المرتبطَين بالعصر. ولأن هذه الجماعات الاجتماعية-السياسية، في معظمها، ذات تنظيمات سابقة لها وجود واقعي أو متخيل، فإنها كانت الأقدر على الظهور والبدء في مواجهة الدولة بأساليب تختلف من جماعة إلى أخرى، وتتنوع بين العنف والاحتجاج السلمي، مستفيدةً من الفرص الاجتماعية التي أتاحتها البنى القبلية والطائفية، كما أتاحتها المتغيرات السياسية، كالحرب على الإرهاب، والخطاب السياسي الحزبي وما ترتب عليه من تزايد الشعور بالاستياء من أداء الدولة، وتراجع الثقة بمشروعيتها.

أما في تونس ومصر، حيث البنى الاجتماعية التقليدية تفتقر إلى التنظيم، فكان الإطار الممكن ظهوره للضغط على الدولة هو الحركات الاجتماعية الجديدة، المرتبطة بالفئات الاجتماعية المتوسطة والقريبة من الفقيرة، التي لا تستهدف الوصول إلى السلطة؛ فوجود الدولة وحضورها في أمد طويل لم يتركا فراغًا يُذكر لبقاء أنساق قبلية وطائفية كهذه ... وجعلا من المستبعد ظهور حركات اجتماعية على أساس الانتماء إلى سلالة أو قبيلة معينة، أو اعتناق أيديولوجيا محددة. كما أن وجود هوية وطنية على نحوٍ أشد رسوخًا جعل من المستبعد ظهور حركات اجتماعية تنتهج العنف وسيلةً للصراع، وقلل من احتمالات وجود معارضة حزبية تستند إلى النفوذ السياسي للقبيلة أو للطائفة، بحيث يمكنها تشكيل تكتل سياسي معارض يمكنه تحدي الحزب الحاكم؛ فعلاقة كبار ملّاك الأراضي في الدولة في مصر تجعلهم مجرد زُبُن لسياسيين يستمدون فاعليتهم من ولائهم للقادة السياسيين لا العكس.

دراسة ميدانية

إن النظام السياسي الذي أعيد بناؤه على أساس التعددية السياسية وتداول السلطة لم يتمكن من تحقيق العدالة بين الفاعلين السياسيين المتنافسين؛ إذ ظلت العملية السياسية السائدة تحدّ من مستوى المشاركة السياسية وتعيق حدوث تداول سلمي للسلطة، وبصورة خاصة في المستويات العليا، بما ترتب عليه من أزمات شكلت فرصًا سياسية أمام المعارضة تضاف إلى الاختلالات البنيوية للنظام السياسي، وتزايد خصومه، وإمكانية عقد تحالفات سياسية بين الفاعلين السياسيين الذين صاروا يعون أنهم تعرضوا للتهميش والإقصاء، ومنهم تكتل "اللقاء المشترك"، الحوثيون، والحراك الجنوبي، والجماعات الدينية المختلفة، إضافة إلى الفئات الشعبية التي تكوَّن لديها وعي بالاستبعاد من الانتفاع بفوائد الدولة، في ظل التطور النوعي في الموارد الإعلامية، وأهمها القنوات الفضائية التي أتاحت لخصوم النظام السياسي ومعارضيه في اليمن إمكانية تجاوز رقابة الدولة على وسائل الإعلام، وأتاحت للفئات الاجتماعية فرصة متابعة رأي آخر غير الذي ينقله تلفزيون الحكومة وإذاعاتها، فشكلت بذلك فرصًا خطابية ساهمت في إبراز التوجهات الدكتاتورية التي انتهجها القادة السياسيون، وكشْف قضايا الفساد وتدنّي أداء الحكومة في تقديم الرعاية الاجتماعية والتنمية، والحدّ من الحريات السياسية، وهو ما دفع أحزاب المعارضة إلى تغيير استراتيجياتها، وتجاوز عداواتها القديمة واختلافاتها الأيديولوجية، والخروج من حالة الانكفاء على الذات إلى السعي نحو تكوين تحالفات سياسية اقتضتها دواعي الدفاع عن مصالحها المشتركة.

أكسبت هذه التجربة الأحزاب والجماعات السياسية المعارضة خبرة في التجاوز المؤقت للاختلافات الأيديولوجية والعداوات القديمة، من أجل بناء تحالف قائم على المصلحة السياسية المشتركة، له هوية جماعية، وإن كانت مؤقتة، قائمة على أساس الخصومة للقادة السياسيين، مع تمسّك كل تنظيم بهويته الحزبية، القائمة على أسس فكرية أيديولوجية في معظمها.

لعل تجربة هذا التكتل وما ارتبط بها من خبرات كانت واحدة من الفرص السياسية؛ فهي ساهمت في تحسين صورة أحزاب المعارضة لدى بعض الفئات الاجتماعية والجماعات السياسية، وعززت الثقة بها، وأوجدت شبكة من العلاقات بين النخب السياسية، في السلطة والمعارضة، وقدمت تجربة سابقة على الربيع العربي في تكوين أنساق اتصالية وطنية أو عابرة للجماعات السياسية والانتماءات الأيديولوجية.

على الرغم من توافر بعض الموارد وظهور بعض الفرص السياسية والتنظيمات السابقة والخطاب الجماعي، فإن حسابات المكسب والخسارة لدى أحزاب "اللقاء المشترك" لم تكن ترجح قرار قيام حراك ثوري؛ فتكلفته "الفتنة"، وفق ما ورد في أقوال بعض المتحدثين باسم هذه الأحزاب، وكما تبدو في المخيال الاجتماعي اليمني الذي تغلُب عليه التقليدية، وهو ثمن كان يبدو غير مَقدور على دفعه.

إن اختلال البنية السياسية وعدم اكتمال نموها المؤسسي يعيقان عملية التحول السياسي السلس. كما أن الانقسامات الاجتماعية تعيق تكوُّن الهوية الجماعية، وتعرقل حدوث عملية تكتل اجتماعي واسع؛ فالصراع بين حركة اجتماعية واسعة وجماعة صغيرة من القادة السياسيين يتحول إلى صراع بين جماعات اجتماعية وجماعات أخرى، إذا كانت فرص إعاقة التغيير أكثر من فرص تحققه.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات