استئنافًا لسلسلة ندوات دورية "أسطور" بشأن الكتابة التاريخية في البلدان العربية، التي عُقد منها ندوات متعلقة بالعراق ومصر والمغرب، عَقدت الدورية ندوتها "الكتابة التاريخية في فلسطين: في استرجاع التاريخ المسروق"، وذلك على هامش "المنتدى السنوي لفلسطين 2023"، الذي نظّمه المركز العربي للأبحاث والسياسات بالشراكة مع مؤسسة الدراسات الفلسطينية في الدوحة، خلال الفترة 28-30 كانون ثاني/ يناير 2023؛ حيث عُقدت أعمال الندوة يومَي الأحد والإثنين 29-30 كانون ثاني/ يناير 2023 بفندق "الشيراتون" في الدوحة.

وبحثت الندوة موضوعات متنوعة مرتبطة بالتأريخ الفلسطيني، من بينها الإشكالات التي تواجه الباحثين في البحث الأرشيفي، والمواد الأرشيفية المتاحة للباحث الفلسطيني، والتاريخ الفلسطيني في الزمن العثماني، إضافةً إلى الحديث عن المدينة الفلسطينية وجوانب من تاريخها المغيَّب، وكانت ثمة وقفة خاصة متعلقة بمدينة القدس معماريًّا، وبالكتابة التاريخية الفلسطينية.

استهُلت أعمال الندوة، يوم الأحد 29 كانون الثاني/ يناير 2023، بكلمة افتتاحية لرئيس هيئة تحرير "أسطور"، عبد الرحيم بنحادة. وأعقبت هذه الكلمة محاضرة افتتاحية للباحث بشارة دوماني، رئيس جامعة بيرزيت في فلسطين، تناول فيها مسلمات البحث التاريخي الفلسطيني، محاولًا أشكلَة مفهوم التاريخ والتأريخ، والكيفية التي يمكن من خلالها أن يكون هذا المفهوم محلًّا للصراع، مؤكدًا على أهمية حضور الفلسطينيين في العملية التأريخية بدلًا من الاهتمام حصرًا بالأماكن والأحداث.

افتتح الباحث منير فخر الدين، عميد كلية الآداب في جامعة بيرزيت، والمدير السابق لبرنامج الماجستير في الدراسات الإسرائيلية في الجامعة ذاتها، الجلسة الأولى لندوة أسطور بورقة عنوانها "تاريخ سجلات الأراضي والصراع على فلسطين: الطابو، والمجتمع، والدولة (1858-1948)"، وفيها تعرّض لمفهوم تاريخ الأرشيف بوصفه مجالًا حيويًّا للبحث والسرد التاريخي والعلاقة بين الأرشيف والسلطة. وفي ورقة بعنوان "’أرشيفنا‘ السليب: آفاق وحدود"، قدَّم بلال شلش، الباحث في مشروع توثيق القضية الفلسطينية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، مراجعة مخرجات مشروعَي جامعة بيرزيت لتوثيق القرى المدمرة و"برنامج شهادات النكبة"، اللذين يُعدّان من أبرز مشاريع التوثيق الفلسطينية. وقد تعرَّض الباحث لأبرز حركات النهب التي قام بها الصهيونيون لوثائق الفلسطينيين وأرشيفاتهم، فضلًا عن أشكال الحجب التي تمارسها إسرائيل بشأن كثير من تلك الوثائق. أمّا همّت زعبي، الأكاديمية والباحثة فلسطينية، فقد حاجّت في ورقتها "الحفر في أرشيف المستعمِر: كتابة تاريخ الباقين في مدن الساحل الفلسطينية" بأن أرشيف المستعمِر يشكّل مصدرًا معرفيًا إضافيًا مهمًّا لفهم حياة الفلسطينيين اليومية في فلسطين، حتى "لو كان التاريخ يكتبه المنتصرون"؛ ذلك أنّ كتاب تاريخ المُستَعمرين يُمكن إثراؤه من خلال الوقفة النقدية عند أرشيف المُستعمِر. واختتمت أعمال اليوم الأول مع وقفة عند الأرشيف العثماني، وذلك بورقة "الكتابة التاريخية في فلسطين في وثائق الأرشيف العثماني" لوليد العريض، أستاذ التاريخ العثماني والحديث والمعاصر في جامعة اليرموك. وقد توقف على ثراء الأرشيف العثماني، واستعرض أنواعَ كثيرٍ من الوثائق الدقيقة المتعلقة بمنطقة فلسطين.

ترأس الباحث وجيه كوثراني، أستاذ التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا، أولى جلسات اليوم الثاني للندوة. وافتتحت الندوة بورقة عنوانها "تاريخ فلسطين أم تاريخ الفلسطينيين؟" لعصام نصار، أستاذ ورئيس برنامج التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا، وفيها راجع السرديات الكبرى التي أثرت في الكتابة التاريخية عن فلسطين، وحاول تقديم مساهمة نظرية يدعو فيها الفلسطينيين إلى استعادة تاريخهم. وكانت الورقة الثانية بعنوان "جذور تغييب الفلسطينيين عن تاريخهم في العهد العثماني" لعادل مناع، المؤرخ المتخصص في تأريخ فلسطين خلال العهد العثماني والفلسطينيين في القرن العشرين، وقد ركَّز في ورقته على ضرورة تجاوز المقاربات الشعبية والدينية لتاريخ فلسطيني، خاصة ما كان في تاريخ الدولة العثمانية. ومن ناحية أخرى، قدّم الباحث هاني حوراني، وهو باحث ومصور فوتوغرافي ورسّام من الأردن، ورقة عنوانها "الفلسطينيون والتأريخ بالصور: قراءة أولى"، وفيها تناول عرضًا ببليوغرافيًّا للكتابات التاريخية في هذا المجال. ثمّ اختُتمت الجلسة بورقة عنوانها "مقام شمعون الصدّيق: التدين الشعبي وصهينة ’موسم‘ عربي يهودي في القدس" لسليم تماري، أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت، والباحث في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وقد اهتم فيها بكيفية قراءة الثقافة الشعبية وتحولاتها في فلسطين، والكيفية التي يمكن أن تكون هذه القراءة من خلالها مدخلًا إلى قراءة أساليب الهيمنة والعنف التي مارستها الحركة الصهيونية.

وفي الجلسة الثانية، تناول بشارة دوماني، في ورقة عنوانها "’انظروا إلى الحجارة!‘: نحو تاريخ حديث للفلسطينيين"، تاريخ الحياة الاجتماعية للأشياء، كاشفًا عن مدى غنى هذه المنهجية من حيث إمكانية تجاوز كتابة تاريخ فلسطين. أما الباحثة فيحاء عبد الهادي، فتناولت في ورقتها "المساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية: التاريخ الغائب" مسألةَ التأريخ من خلال الرواية الشفوية، واستعرضت مشروعها المتعلق بتاريخ الفلسطينيات، مع التركيز على دور المرأة الفلسطينية في اشتباكها بالعمل السياسي والعسكري. ومن التاريخ النسوي إلى تاريخ الاتحادات الطلابية، تحدثت مريم أبو سمرة، في ورقتها "وضع فلسطين على الخريطة العالمية: الإنتاج المكتوب والمرئي للاتحاد العام لطلبة فلسطين في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته" عن تجربة الحركة الطلابية الفلسطينية واتصالها بالتاريخ العريض لمنظمة التحرير الفلسطينية. أما لينا دلالشة، فتناولت التاريخ الاجتماعي لمدينة الناصرة بعد النكبة، مُشيرةً إلى أهمية تناول دور "المجتمع" في النضال الفلسطيني وعدم التركيز حصرًا على "الحركات السياسية" في مواجهة الحركة الاستيطانية الصهيونية.

اختُتمت الجلسة الأخيرة، بورقتين عن مدينة القدس، قدمهما الأستاذان نظمي الجعبة وموسى سرور، وقد تناول الجعبة في مقالته "الغرب الأوروبي في القدس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين: السيطرة البصرية على هوية المدينة" التطور المعماري للمدينة المُقدَّسة، في حين تناول سرور في مقالته "’القدس الغربية‘: بين المنسي والمسكوت عنه في الكتابة التاريخية الفلسطينية" مراجعة أسباب الاهتمام بالـ "قدس الشرقية" في مقابل "القدس الغربية"، إضافةً إلى إهمال تاريخ المدينة قبل النكسة عام 1967. وقد أعقب كل جلسة من جلستَي اليوم الأول تعقيبات، وتساؤلات تناولت مسائل عدة في البحوث المعروضة. وقد انتهت أعمال الندوة يوم الإثنين 30 كانون الثاني/ يناير 2023.