بدون عنوان

الدكتور عزمي بشارة مقدمًا المحاضرة
الدكتور عزمي بشارة مقدمًا المحاضرة
الدكتور عزمي بشارة والدكتورة أمل غزال
الدكتور عزمي بشارة والدكتورة أمل غزال
الدكتور عزمي بشارة مقدمًا المحاضرة
الدكتور عزمي بشارة مقدمًا المحاضرة

ألقى الدكتور عزمي بشارة، المفكر العربي، والمدير العام للمركز العربي محاضرةً افتتاحيةً ضمن أعمال برنامج الدورة الثالثة من المدرسة الشتوية الدولية، التي ينظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة تحت عنوان "الشعبوية: أنماط ونماذج"، في الفترة 4-13 كانون الثاني/ يناير 2022.

حملت المحاضرة عنوان "الشعبوية والأزمة الدائمة للديمقراطية". وبدأها بشارة بإثارة الأسئلة المنهجية المؤسِّسة لفهم "الشعبوية": هل هي تيار سياسي؟ أيديولوجيا؟ خطاب؟ لأنه رأى أن هناك استعمالًا مرسلًا للمصطلح بين بعض من يكتبون عنه. ورأى أن "الشعبوية" ظاهرة خطابية يمكن أن تستعملها تيارات وأيديولوجيات سياسية مختلفة في ظروف معينة في حالة توافر إمكانية لإنتاج مزاجٍ شعبي مؤاتٍ.

واستعرض بشارة الأدبيات التي تناولت ظاهرة الشعبوية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته؛ إذ كانت تتناول ظواهر من العالم الثالث، ومنها البلدان العربية. فقد استُخدم مصطلح "الشعبوية" في وصف وتصنيف أنظمة وقادة في أميركا اللاتينية بعد الحرب العالمية الثانية، ولا سيما ظاهرة بيرون والبيرونية في الأرجنتين وغيرها، وصولًا إلى هوغو تشافيز في فنزويلا. كما استُخدم المصطلح في الماضي في وصف قادة أنظمة عربية سلطوية وخطابهم السياسي، وفي وصف بعض الأحزاب العربية التي هيمنت في خمسينيات القرن الماضي وستينياته على المجال السياسي في المشرق العربي. وبعد ذلك، ندر استخدام المصطلح بعد أن تجاوزت سلطوية هذه الأنظمة وسياساتها حدود الشعبوية، ولم يعد المصطلح يفي بالغرض.

توترات الديمقراطية في سياق خطاب شعبوي

أشار بشارة أيضًا إلى أنّ ما يُعدُّ أزمةً تمر بها الديمقراطية الليبرالية مع انتشار الشعبوية اليمينية في الغرب ليس ظاهرة جديدة كليًا، بل هي من تجليات ما يمكن تسميتها "أزمة دائمة للديمقراطية" في ظروف جديدة. وغالبًا ما كانت هذه الأزمات محركًا لتطور النظام الديمقراطي الليبرالي. وتتمثل عناصر هذه الأزمة الدائمة في ثلاثة توترات بنيوية: الأول، وهو الأهم بينها، التوتر بين البعد الديمقراطي المتعلق بالمشاركة الشعبية القائمة على افتراض المساواة الأخلاقية بين البشر، وافتراض المساواة في القدرة على تمييز مصلحتهم، التي تقوم عليها المساواة السياسية بينهم، ويقوم عليها أيضًا حقهم في تقرير مصيرهم؛ وبين البعد الليبرالي الذي يقوم على مبدأ الحرية المتمثلة في الحقوق والحريات المدنية، وصون حرية الإنسان وكرامته وملكيته الخاصة من تعسّف الدولة، ويتعلق بتحديد سلطات الدولة. والتوتر الثاني هو داخل البعد الديمقراطي ذاته بين فكرة حكم الشعب لذاته من جهة، وضرورة تمثيله في المجتمعات الكبيرة والمركبة عبر قوى سياسية منظمة ونخب سياسية تتولى المهمات المعقدة لإدارة الدولة عبر جهازها البيروقراطي، من جهة أخرى. أما التوتر الثالث فهو بين مبدأ التمثيل بالانتخابات الذي يقود إلى اتخاذ قرارات بأغلبية ممثلي الشعب المنتخبين، أو بأصوات ممثلي الأغلبية من جهة، ووجود قوى ومؤسسات غير منتخبة ذات تأثير في صنع القرار، أو تعديله، وحتى عرقلته مثل الجهاز القضائي والأجهزة البيروقراطية المختلفة للدولة، من جهة أخرى. وفي هذا السياق، رأى بشارة، أن الديمقراطية الليبرالية سوف تعيش دائمًا هذا التوتر بين مبادئ الليبراليّة التي تُعنى بحماية الحقوق والحريات الفردية، والمشاركة الشعبيّة الواسعة، والتي قد ينجم عنها انتشار سياسات الهوية، ومخاطبة الغرائز، وكذلك نشوء تيارات تخوض غمار العمل السياسي من منطلقات معادية للسياسة والمؤسسات السياسية والنخب القائمة، وأخطرها تلك التي تأتي في صورة يمين شعبوي غير تقليدي.

الشعبوية عربيًا

انتقل بشارة في القسم الثاني من المحاضرة إلى بحث ظاهرة الشعبوية وعلاقتها بالديمقراطية في السياق العربي، مستعرضًا حالتين، الأولى شهدت فشلًا في الانتقال الديمقراطي (مصر)، والثانية شهدت نجاحًا له (تونس) ثم شهدت تعثرًا حقيقيًا، الذي لم يكن تعثرًا في عملية الانتقال، بل للنظام الديمقراطي نفسه. ففي حالة مصر، رأى بشارة أن أحدًا لم يصف ما يجري بأنه "حالة شعبوية"، على الرغم من الاستقطاب العلماني - الإسلامي، وعدم قدرة المعارضة على الإجماع على الانتقال الديمقراطي، وتفضيل مكوناتها الصراع السياسي على إنجاح الانتقال الديمقراطي، واستعداد كل طرف من أطراف الصراع للتحالف مع الجيش للانتصار على الطرف الآخر؛ ما أعاد الفرصة إلى الجيش للتدخل في السياسة. صحيح أن جميع الأطراف المتنازعة تقريبًا استخدمت خطابًا شعبويًا بمعنى الديماغوغيا، لكن لم تكن ثمة ظاهرة شعبوية متميزة قائمة في ذاتها؛ فلم يُستعمَل مصطلح "الشعبوية" في توصيف هذه الحالة.

أما في الحالة التونسية، فأشار بشارة إلى أنه على خلفية الديمقراطية هناك ظاهرة شعبوية قائمة في ذاتها، كما أشار إلى أنه يصح استعمال مصطلح "الشعبوية" لوصف ظاهرة تونسية تتمثل في رئيس منتخب ديمقراطيًا، يستخدم خطابًا شعبويًا، في مقابل البرلمان المنتخب. وفي هذا السياق، حدد بشارة أن ما تشهده تونس ظاهرة شعبوية قائمة في ذاتها؛ فبعد عشر سنوات، لم تنجح القوى الحاكمة فيها في إنجاح برنامج اقتصادي يجسّر الهوة الاجتماعية بين الطبقات الغنية والفقيرة، ومعالجة ارتفاع معدلات البطالة. وبعد انتخابات برلمانية قدّمت مشهدًا متكررًا من التشظي الحزبي، نفرَ الناس من الأحزاب ومن النخبة السياسية. ورأى أنه وسط كل هذه الظروف، ترشّح قيس سعيّد كمرشح غير معروف لا يمتلك ماضيًا سياسيًا؛ أي إنه انتُخب "لما ليس فيه، وليس لِما فيه". ووفق بشارة، استخدم الرئيس التونسي خطابًا شعبويًا مضمونه "الشعب ضد النخب"، و"البرلمان سيء، ونريد ديمقراطية مباشرة/ قاعِدية"، و"توجد مؤامرة من السياسيين ورجال الأعمال" و"المعارض خائن وهو ضد الشعب"، وهو - بحسب بشارة - درس كلاسيكي في مفهوم الشعبوية، والخطاب التبسيطي، واتهام النخب بالفساد وغير ذلك.

وفي سياق الحديث عن الشعبوية وأزمة الديمقراطية، رأى بشارة أن الشعبوية في الديمقراطيات الراسخة/ التاريخية غالبًا ما تكون عنصرًا مساعدًا في تطوير الديمقراطية، على عكس الشعبوية في الديمقراطيات الناشئة/ الوليدة التي تشكل خطرًا عليها، وبخاصة في ظل عدم تعود الشعب على القيم الديمقراطية، وعدم التزام المؤسسات بالديمقراطية، لا سيما المؤسسات غير المنتخبة مثل الجيش والقضاء، حينها تصبح الشعبوية خطرًا حقيقيًا على الديمقراطية، مثلما حدث في دول عدة أهمها ألمانيا وإيطاليا.

وخلص بشارة إلى أن الحركات الشعبوية دائمًا ما تفترض أن الشعب في حالة من الغضب والغُبن، وأن عدو هذا الشعب لا يعرَّف إلا بوصفه "آخر"، قد يكون هو "النخبة"، أو "البرلمان"، هذا على الرغم من أن من يقود هذه الحركات هم في الغالب من النخب ومن السياسيين، ويبنون خطابهم على وجود شارع غاضب لم يأخذ حقه في المشاركة السياسية، والأهم من ذلك هو قدرة قادة الحركات الشعبوية على تشخيص أعدائهم وشيطنتهم، وافتراض وجود مؤامرة، وإعادة إنتاج مزاج شعبي غاضب يمكن توجيهه إلى صورة العدو. فالشعبوية تنتج مركبًا خطابيًا هو "الشعب الحقيقي" الذي لا علاقة له بالشعب القائم فعلًا، و"أن السياسيين هم النخب الفاسدة"، مع أن من يقود الحراك الشعبوي أو يستغله هم سياسيون نخبويون، ويمكن في بعض الحالات أن يكونوا، هم أنفسهم، رجال أعمال متهربين من الضرائب صنعوا ثروتهم بأساليب مشبوهة.

وفي ختام المحاضرة، قُدّمت عدة أسئلة، من الجمهور في القاعة، أو من المتابعين عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حول الأفكار التي قُدّمت فيها.