بدون عنوان

في رحاب معرض بيروت العربي والدولي الثالث والستين للكتاب، تحلّق جمعٌ من الباحثين والطلاب والمهتمين بتاريخ لبنان حول محمد جمال باروت، رئيس قسم الأبحاث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، لمناقشته في كتابه حملات كسروان في التاريخ السياسي لفتاوى ابن تيمية الصادر أخيرًا عن المركز؛ وذلك في حلقة نقاشية أقيمت مساء الأربعاء 6 كانون الأول/ ديسمبر 2017، قدّم لها الدكتور خالد زيادة، مدير فرع بيروت في المركز العربي، وشارك فيها الباحثان الدكتور أحمد حطيط والدكتور نائل أبو شقرا.

افتتح زيادة الحلقة ناقلًا عن باروت قوله إنّ كتابه ليس تاريخًا، بل بحث في خطاب المؤرخين بشأن مرحلة تمتد بين عامي 1292م و1305م، شهدت إخراج المماليك الصليبيين من المنطقة نهائيًا، وغزوات التتار بلاد الشام. وأضاف زيادة قائلًا: "كانت هذه المرحلة الحساسة والدقيقة مجالًا رحبًا للمؤرخين اللبنانيين، قديمًا وحديثًا، للبحث في هوية سكان كسروان الذين تعرضوا للغزو، فنسبهم كل مؤرخ إلى طائفته مركزًا على معطيات، ومهملًا أخرى". وختم بالقول إن كتاب باروت "تفكيك للخطابات التاريخية، ولفتاوى ابن تيمية التي استخدمها المؤرخون، واعتبرت بمنزلة البيانات الحربية".

طغيان علم الاجتماع على التأريخ

أدرج أحمد حطيط في مداخلته موضوع الكتاب في إطار بحوث تناولت قضية شائكة من قضايا تاريخ لبنان في العصور الوسطى المتأخرة، تتعلق بتحولات ديموغرافية ملتبسة تحتمل قراءات متباينة؛ منها أمران: الانتماء الديني لسكان كسروان المستهدفين بالحملات المملوكية، والتعرف إلى الدوافع الحقيقة لاستهدافهم.

ورأى في بحث باروت طغيانًا لمنظور علم الاجتماع السياسي على حساب المناهج التأريخية، واستغراقًا في تحميل وقائع الحملات على كسروان حمولات ومقاربات تاريخانية. وعدّ قول باروت إنّ ابن تيمية أعاد صوغ الصراع المملوكي – الإيلخاني التتاري على المستوى المذهبي باعتباره صراعًا سنيًا شيعيًا ... إلخ، قولًا نظريًا هدفه تعبئة عوام الشام ضد العصاة من أهل كسروان الخارجين على السلطة المملوكية، بصرف النظر عن انتمائهم المذهبي وتبدلاته سنيًا وشيعيًا؛ "ذلك أن الصراع بين المماليك السنة والتتار في زمن الإيلخان غازان السني الذي استولى على معظم الشام ودخل دمشق ونهبها، وفي أيام الإيلخان خدابنده الشيعي، كان في أساسه صراعًا سياسيًا بين دولتين عظميين تنافستَا على مشروع جيوسياسي واحد، وليس صراعًا مذهبيًا، وإن طفَت على سطح ذاك الصراع، بين حين وآخر، مظاهر ذات طابع مذهبي".

لا يجاري حطيط باروت في تصنيفه مؤرخي الحملات الكسروانية اللبنانيين على أساس طائفي أو مذهبي، قائلًا إن ما ذهب إليه لا يمكن تعميمه على سائر المؤرخين والإيستوريوغرافيين الذين ناقش أطروحاتهم.

استغراق في الغموض

تحدث نائل أبو شقرا، فرأى أن اهتمام باروت تركز على إجلاء الغموض عمّا يكتنف هوية الكسروانيين الطائفية والمذهبية، مستندًا إلى اجتهادات مرجعية يُفترض أن تكون علمية، "لكن النتيجة كانت استغراقًا في الغموض، ما عطل المستخلص التاريخي وحصّن الموروث الاجتماعي. ومع أن بعض المواقف المستعرضة حادت عن أبسط القواعد المنهجية، من خلال صور نصية تحولت عند المؤلف إلى مسألة حجاجية، فإن ما أريد للكتاب أن يحقق الاستشراف المعرفي حكم بإطلالات المجتهدين في المسألة الكسروانية حول هوية المجتمع الكسرواني، بينما يحتضن مضمون رسالة ابن تيمية بعدًا فقهيًا أهم كثيرًا من الحدث، فهو في مطاويه اتهامات لبقايا الحضور الفاطمي في جانبه الفكري".

بحسب أبو شقرا، ركز الباحث على الهوية الكسروانية بعيدًا عن مصطلحات ابن تيمة في توصيف مذهبهم، وانصب جهده على استخلاص هذا المذهب من مراجعه، فكان طبيعيًا أن يواجه هويات متناقضة من نتائج متعارضة، لكن جهد باروت يشكل مشهدًا متكاملًا لصراعات البنى الاجتماعية في المسألة الكسروانية، مع ملاحظة أن النتائج المحققة في خلاصاتها السياسية "تناتف" للجانب المعنوي من الهوية الكسروانية، بعيدًا عن التشريح العقائدي في مفهوم الاجتماع السياسي.

الموضوعية الصعبة

 بعد المداخلتين، رد باروت شاكرًا حطيط وأبو شقرا على ملاحظاتهما الثاقبة، معلقًا بقوله: "حاولت أن أكون موضوعيًا بشكل نزيه، علمًا أنّ الموضوعية ليست سهلة، وحاولت تفكيك السردية التاريخية للمؤرخ المعاصر المنمذج لبنانيًا حول كيفية كتابة التاريخ في مراحل عقده الديموغرافية التاريخية المكانية المعقدة من خلال كسروان، وهي تتجاوز الجانب اللبناني إلى جانب أوسع يتعلق بوضع أصول الفكر السني السلفي الحديث الذي يرجع إلى ابن تيمية". وأضاف قائلًا: "النقد الإيستوريوغرافي للكتابة التاريخية نقدٌ معرفي ومنهجي، يقود الى نقد الميتا–إيستوريوغرافيا، وهو نقد الإيستوريوغرافيا نفسها. هذا ينطبق على المؤرخين اللبنانيين، وعلى المؤرخين السوريين، انطلاقًا من لحظة التفكك الراهن لما كان قادمًا في تاريخهم، فالمؤرخ هو أخطر من يتلاعب ببناء الأنا وبناء الهوية الشخصية، والمؤرخون المعاصرون ارتكبوا ذلك حتى النهاية، وهم لم يتعرفوا إلى مصادر القرن الرابع عشر الوافرة والموجودة على الرصيف".