بدون عنوان

نظّم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات اليوم (السبت 10 كانون الأول/ ديسمبر 2016) ندوةً أكاديميةً حول تداعيات فوز رجل الأعمال الأميركي دونالد ترامب بالانتخابات الرئاسية الأميركية التي جرت في الثامن من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016. وركزت الندوة التي شارك فيها نخبة من الباحثين والمختصين في الشأن الأميركي والسياسة الخارجية وفي مواضيع العلاقات الدولية في المنطقة، على محاولة استشراف السياسات المتوقعّة لإدارة ترامب في ضوء فهمٍ تفسيري عميقٍ لعوامل فوزه في الانتخابات وما تشير إليه من تحولات في المجتمع الأميركي، وبالنظر إلى تصريحاته خلال حملته الانتخابية وفي عقب إعلان فوزه. وافتتح الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز، الندوة بمحاضرة حول ما يمثله فوز ترامب في سياق صعود اليمين في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا. وضمّ برنامج الندوة ثلاث جلسات، خُصّصت أولاها لتحليل فلسفة ترامب ورؤيته والإدارة التي يعكف على تشكيلها، خصوصًا في ما يتعلق بالشرق الأوسط. وتناولت الجلسة الثانية محاولة فهم فوز ترامب بالرئاسة في سياق التحولات الداخلية للمجتمع الأميركي. أما الجلسة الأخيرة فتعمّقت في تحليل سياسات ترامب الخارجية المتوقعة تجاه دول وقضايا بعينها، في علاقات الولايات المتحدة بإيران، والقضية الفلسطينية والعلاقات الأميركية - المصرية. 

فوز ترامب وصعود اليمين: نقل "صراع الحضارات" إلى الداخل

يتوقع المفكر العربي عزمي بشارة أنّ مشكلة ترامب الرئيسة ستكون داخليّة في الصراع على هويّة الولايات المتحدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة وليس مشكلة الشرق الأوسط أو منطقة المحيط الهادئ، على الرغم من أهميّة هذه المناطق. وقد خلص إلى هذه النتيجة في محاضرته التي كان عنوانها "صعود اليمين واستيراد صراع الحضارات إلى الداخل: حينما تنجب الديمقراطية نقائض الليبرالية"، والتي قدّم فيها تحليلًا ثقافيًا واقتصاديًا وسياسيًا لظاهرة فوز ترامب بانتخابات الرئاسة في الولايات المتحدة، واضعًا إياها في سياقٍ عامٍ لصعود اليمين في أميركا والديمقراطيات الغربية.

وسلّط بشارة الضوء على "الخلفية الثقافية" للتحوّل الحاصل في المجتمع الأميركي وأنتج الفوز المفاجئ لدونالد ترامب. وأشار إلى أن هذا البعد الثقافي يجري تجاهله لدى من يحاولون تفسير ظاهرة صعود اليمين في الديمقراطيات الأميركية والأوروبية. وشرح المحاضر كيف أن الخطاب الفظ والعنصري الذي استخدمه ترامب في حملته الانتخابية بمستويات تضاهي خطاب الحانات أكسبه تصويت "الرجال البيض الحانقين الغاضبين من تحولات العالم من حولهم" الذين يتملكهم شعور "بأنّ بلادهم تُصادرُ منهم حتى لم يعودوا يعرفونها". وقد استفاد من استهدافه للمهاجرين في تعزيز هذا الشعور، فمع أنّ الولايات المتحدة دولة بناها المهاجرون، فإنّ المهاجرين الذين توطنوا جيلًا بعد جيل ينمّون شعورًا بأنّهم سكانٌ أصليون، وأنّ فقراء العالم يتدفقون إليهم ليشاركوهم ثروات توافرت بجهدهم وعرق آبائهم وأجدادهم.

ويرى الدكتور بشارة أن المركّب "الثقافي السياسي الخطابي" الذي صعد بدونالد ترامب إلى الرئاسة، ليس مقتصرًا على الولايات المتحدة، بل ينتشر لدى فئات واسعة في بلدان الاقتصاديات الغربيّة المتطورة جميعها. وإذا قام رجل طموح من داخل هذه الثقافة وقرّر في ظروف مواتية تحويل "كلام الحانات" هذا إلى خطاب سياسيّ يخاطب فيه غرائز الناس ومخاوفهم، الدفينة منها والصريحة، وتبنته قوى سياسية واجتماعية وازنة، عندها تنشأ ظاهرةٌ مثل ظاهرة دونالد ترامب، وهي قائمةٌ وتتمدد حاليًّا في جميع الدول المتطورة في أوروبا وأميركا الشماليّة، وفي بعض دول أوروبا الشرقيّة مثل هنغاريا وبولندا والتشيك.

وأضاف أن هذه الظواهر تلتقي مع نزعة أخرى قائمة في بلدان كثيرة في العالم، يعبِّر عنها ما يسمى عادةً "اليمين القومي" الذي يتمحور خطابه حول فكرة السيادة والمجال الحيوي للدولة كأيديولوجيّة لنظام سلطوي. وتتجلى هذه النزعة بأوضح صورة في نموذج فلاديمير بوتين وتحولات النظام في روسيا إلى جمهورية قيصرية. وتنظر العقيدة السائدة في الصين وروسيا إلى انتشار الديمقراطية باعتبارها تمددًا للثقافة الغربية، فهي أداة للهيمنة الغربية. وهذا يعني باختصار أنّ من يتبنى نظرية صراع الحضارات حاليًا على المستوى الدولي هما هاتان القوتان العظميان، وبشكل خاص روسيا. وربما لو كان صمويل هنتنغتون حيًا لصُدم كيف أصبح صراع الحضارات مذهبًا روسيًا وصينيًا في العلاقات الدولية.

وعدّد بشارة خمسة عناصر تجمع بين الحركات اليمينية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة، وهي: العداء للنخب والمؤسّسة (establishment)، والعداء للعولمة والتجارة الحرة، ومخاطبة خوف الناس من الهجرة الوافدة وموجات اللاجئين، ومخاطبة المشاعر القومية وخوف الناس من ضياع هوية بلدانهم عبر التعددية الثقافية، وتشترك هذه الحركات أخيرًا في العداء للإسلام والمسلمين والربط بين الإسلام والإرهاب.

وأوضح أنّ الشعور المتنامي بالقومية المنغلقة الإثنية غير القائمة على المواطنة في أوروبا والولايات المتحدة الأميركية يتركز لدى كبار السن ممن يقارنون الوضع الحالي بمراحل سابقة، كانوا فيها يتمتعون بامتيازات و"يملكون البلاد"، ويتفاقم الشعور بأنها "كانت بلادهم" مع زيادة أعداد المهاجرين المسلمين في أوروبا، وأولئك من غير البيض البروتستانت في الولايات المتحدة الأميركية.

ولم يقلل بشارة من دور العامل الاقتصادي في تفسير صعود اليمين في أميركا وأوروبا جراء تبعات الأزمة المالية الاقتصاديّة عام 2008، وخراب الصناعة في بعض المناطق العماليّة التقليدية نتيجةً لنقلها إلى دول أخرى بحثًا عن أيدٍ عاملة رخيصة، والتي ساهمت في إشعال غضب فئات عمالية ضد العولمة والتجارة الحرة. ويمكن البرهنة على هذا في خراب مناطق ما بعد صناعية في أميركا، وبأن مناطق صناعيّة كانت تعتبر معاقل تقليدية لحزب العمال البريطاني صوّتت ضدّ رأي هذا الحزب، ولمصلحة الخروج من الاتحاد الأوروبي. وثمة ولايات كانت محسوبة على الديمقراطيين في الولايات المتحدة صوتت لمصلحة ترامب؛ ما يعني أنّ الطبقة العاملة البيضاء أصبحت تميل إلى التصويت لليمين، وهي أكثر عرضةً لاتخاذ مواقف ضد الهجرة والمهاجرين.

ولكن بشارة يعارض، بل وينقض، التفسير الطبقي الماركسي لبعض المحللين إزاء سلوك الطبقة العاملة البيضاء؛ فهي لا تنتفض ضدّ توسع الفجوة بين الفقراء والأغنياء وتزايد حدّة ظواهر انعدام المساواة، بل إنّ سلوكها هو ردّ فعلٍ على تنامي المساواة وليس عدم المساواة، والمقصود مساواة أكبر للأميركيين من أصل أفريقي والمرأة وغيرهم. ففي الفترة من 2005 إلى 2013، شهدت الأسر الأميركية من أصل أفريقي ممن يزيد دخلها على 200 ألف دولار أميركي زيادة في دخلها بنسبة 138 في المئة، مقارنة بالنسبة العامة لزيادة دخل مجموع الأسر الأميركية التي بلغت 74 في المئة. كما أن عدد أصحاب الملايين من الأميركيين من أصل أفريقي قد ارتفع من 25 مليونيرًا في ستينيات القرن الماضي ليصل عددهم اليوم إلى 35 ألف مليونير، واستطاعت النخبة الأميركية من أصل أفريقي أن توصل أوباما إلى رئاسة الولايات المتحدة لفترتين. وتشكل المرأة الأميركية اليوم نحو نصف القوى العاملة، وتشغل النساء مناصب عليا في أكبر شركات العالم. وكل ذلك يشير إلى تراجع اللامساواة.

وتحدث بشارة عن دور وسائل التواصل الاجتماعي في التمكين للخطاب الديماغوغي الشعبوي الذي استغل الجهل والآراء المسبقة لعامة الناس، ويعبّر عما يرغب الناس في سماعه، من دون أن يكون مروج هذا الخطاب مؤمنًا به بالضرورة. وعلى الرغم من أن ترامب يؤمن بجزءٍ مما يقول من دون شك، فإنّ كل ما يقوله على نحو ديماغوغي إنما يعبر عما يرغب قطاع واسع من الناس في سماعه ولا يستطيع قوله أو يخجل من قوله.

ويرى أن انتخاب دونالد ترامب وخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يُظهر تحول طبيعة الطبقة العاملة في كل من الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا؛ إذ أصبحت هذه الطبقة أكثر شعبوية نتيجة شعورها بتخلي النخب والأحزاب السياسية الرئيسة/ التقليدية عنها اقتصاديًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا.

وفي الخلاصة، قال بشارة: "لقد انتخب ترامب قطاع من المجتمع الأميركي لا يُشكّل أغلبية الناخبين، وبالتأكيد لا يشكل أغلبية المجتمع الأميركي، وهذا يعني أنّ ثمة فئات أخرى واسعة سوف تدافع ليس فقط عن مصالحها بل أيضًا عن نمط حياتها. وهي موجودة غالبًا في المدن الكبرى ووزنها النوعي أكبر حتى من وزنها الديموغرافي. وأكاد أجزم أنّ مشكلة ترامب الرئيسة ستكون داخليّة في الصراع على هويّة الولايات المتحدة الاقتصاديّة والسياسيّة والثقافيّة وليس مشكلة الشرق الأوسط أو منطقة المحيط الهادئ مع أهميّة هذه المناطق".


رؤية ترامب الشعبوية في مواجهة البيروقراطية والمؤسسات

يرى الدكتور خليل جهشان، مدير فرع المركز العربي في واشنطن، أن فوز ترامب يزيد من حيرة حلفاء واشنطن بشأن سياساتها تجاههم وأصبح الأمر أكثر غموضًا وتعقيدًا؛ وهو ما يجعل العالم في حالة ترقّب وفي انتظار معرفة إن كانت السياسات الأميركية ستتغير أم أنها ستبقى على حالها. وأضاف أن ترامب نصّب نفسه منتقدًا شرسًا للسياسات الأميركية الفاشلة في العديد من الملفات، وفي مقدمتها تلك المتعلقة بالأوضاع في الشرق الأوسط، غير أنّ وجهة نظره في الشرق الأوسط محدودة ومعرفته بالمنطقة سطحية بشكل كبير ومشوهة، فترامب لا يريد التعرّف بشكل أعمق على هذه المنطقة وشعبها وثقافتها وخصوصياتها، ولكن تعقيدات الأوضاع في المنطقة وأبعادها ستفرض عليه التعامل مع قضاياها بجدية وألا يتجاهلها.

من جانبه، ركز الدكتور مروان قبلان، منسق وحدة تحليل السياسات في المركز العربي، على رسم الخطوط العامة لفلسفة إدارة ترامب وانعكاساتها الدولية؛ إذ تحدث في ورقته عن أهم النقاط التي يمكن من خلالها فهم سياسات إدارة ترامب، وأولاها أن ترامب يمكن إدراجه ضمن المدرسة الجاكسونية في السياسات الخارجية، نسبة إلى الرئيس أندرو جاكسون (1829-1837) الذي كان قوميًا، وشعبويًا، وانعزاليًا يكره العالم الخارجي، ومستعدًا لاستخدام القوة دفاعًا عن مصالحه. كما أنّ لدية نظره هوبزية للعالم؛ إذ يرى أن العالم مكان متوحش وأناني ويعج بالفوضى وأنه يكره أميركا. وسلط الضوء على حضور الشعبوية في فلسفة ترامب وخطابه، وهو ما من شأنه أن ينعكس على إدارته، بحيث هدد في العديد من تصريحاته خلال الحملة الانتخابية بأنه في حالة فوزه بالرئاسة سيعمل على انسحاب واشنطن من العديد من الاتفاقيات الدولية الموقعة خصوصًا في عهد الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما وفي مقدمتها اتفاقية الشراكة عبر الهادئ، واتفاق باريس للتغير المناخي. واختتم قبلان مداخلته بالتأكيد أنه في حال التزام ترامب بوعوده الانتخابية، فإنه سيحدث ثورة في السياسة الخارجية الأميركية مختلفة عن كل ما عرفه العالم حتى الآن.

ورأى الدكتور جو معكرون، الباحث المختص في الشؤون الأميركية في محاولة الإجابة عن سؤال: كيف ستحكم عقيدة ترامب واشنطن؟ أن سياسة ترامب تُفهم من خلال طبائعه وشخصيته التي تتميز بعقيدة الفوز بأي ثمن، وبأنه يعيش من العدائية بحيث يحب المواجهة، وهو أمر يبدو أنه يستمد منه قوته. وأوضح أن ما ميّز خطاب ترامب هي تلك النظرة القاتمة لأميركا، فخلافًا لتاريخ المرشحين الأميركيين الذي كان دائمًا تفاؤليًا، أتى ترامب "على ظهر" نظرة قاتمة تشاؤمية سوداوية، مستفيدًا من حالة الغضب التي تسيطر على فئات عريضة من المجتمع الأميركي.

وفي محاولة توقع تأثير البيروقراطية والمؤسسات في اندفاع ترامب، وإن كان سيخضع لها، قال معكرون إن أي رئيس يأتي إلى البيت الأبيض يأتي معه من يعتبرون "حراس الهيكل"، إلا أنّ الوضع ليس كذلك بالنسبة إلى ترامب؛ فمن صنع فوزه هو صهره جاريد كوشنر الذي لن يتمكن الرئيس الجديد من منحه منصبًا في إدارته لأنه سيواجه قانون مكافحة المحسوبية، مشيرًا إلى أن التحدي الكبير بالنسبة إلى ترامب سيكون الصراع داخل إدارته بين المستشارين، بحيث سيكون محور إدارته من سيخرج من بينهم منتصرًا في النهاية.

يُذكر أنّ هذه الندوة تندرج ضمن الندوات التي يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتُخصص لمناقشة موضوعات راهنة، تهدف إلى إحاطة المواطن العربي بمقاربات وتحليلات معمّقة عن قضايا تهمه، وذلك بمشاركة باحثين وجامعيين من المنطقة العربية والعالم.