بدون عنوان

تواصلت يوم الإثنين 25 آذار/ مارس 2019 أعمال اليوم الثالث والأخير من مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في دورته السابعة بالدوحة، بتقديم 25 ورقة بحثية ضمن أربعة مسارات تزامنًا.

المسار الأول: إشكالية "التقدم" في العلوم الاجتماعية و"التعقيد" و"البينذاتية"

في أولى جلسات اليوم الثالث للمؤتمر، انطلق عمر علوط في مداخلته "مناهج البحث الاجتماعي في ظل التعقيد والتسارع: رؤية نقدية" بعرض إشكالية دراسته من مسلمة مفادها أنّ فهم الواقع الاجتماعي يحتاج أولًا إلى الاعتراف بتعقيد الواقع وتسارع تغيره، بفعل تضخم حجم مكوناته المتعالقة وكثافة تفاعلاتها؛ وفي الدرجة الثانية يأتي اختبار المناهج القادرة على تجاوز هاتين المشكلتين اللتين تَسِمان الواقع، بدايةً من المقاربة الكلاسيكية إلى المقاربات الجديدة؛ من أجل فهم جذور أزمة العلوم الاجتماعية الحالية، ثم معاينة المخارج التي تؤسّس بها الروح العلمية الجديدة التي بدأت ملامحها تبرز مع بداية هذا القرن.

في حين سعى من جهته محمد الوحيدي في مداخلته "مشكلة ’التقدم‘ في العلوم الاجتماعية وتحول البراديغم"، لمقاربة جملة من الإشكالات الرئيسة في فلسفة العلوم الاجتماعية، المتّصلة بإبستيمولوجيا هذه العلوم ومنهجيتها، وركّز في محاضرته على مسألة طبيعة التقدم في العلوم الاجتماعية. وفي هذا الخصوص، تبنّى الباحث فكرة تقوم على أن فرْض تصور وضعي/ طبيعي على العلوم الاجتماعية ينطوي على تصور خاطئ؛ ومن ثمّ من الاعتراف بنوع من الخصوصية للعالَم الاجتماعي أنطولوجيًا وإبستيمولوجيًا ومنهجيًا؛ مبرزًا أنه على الرغم من الجدالات التي رافقت العلوم الاجتماعية، في الإمكان الحديث عن معرفة اجتماعية ساهمت في فهم العديد من مظاهر السلوك الاجتماعي عند البشر وحلّه.

واستهلّ رجا بهلول بمداخلته، "الفعل الاجتماعي: إشكاليات السببية والمعرفة البينذاتية"، الجلسة الثالثة من هذا المحور، فأكد أنّ مفهوم الفعل الاجتماعي يمثّل حجر زاوية في الدراسات التي يُطلق عليها تسمية "العلوم الاجتماعية والإنسانية"، هادفًا إلى معالجة بعض الإشكاليات الفلسفية التي يثيرها مفهوم الفعل الاجتماعي على الصعيدين الأنطولوجي والإبستيمولوجي. فعلى الصعيد الأنطولوجي، طرح بهلول السؤال حول ما إذا كان الفعل الاجتماعي قابلًا للتحليل أنطولوجيًا إلى حركات جسمانية (سلوك قابل للملاحظة)، مع إضافة مقاصد (رغبات، ومعتقدات، وأهداف) ذات طبيعة ذهنية - نفسية إليها، ليناقش بعدها الإشكالية الإبستيمولوجية المتعلقة بمعرفتنا بذاتية الآخر؛ وليخلص للقول إنّ العديد مما يقال حول الفعل الاجتماعي يدور في فلك الثنائيات الفلسفية القديمة المتعلقة بالمادة والروح والعقل والجسد، وأنه لا يوجد مبرر للقول إن مناهج التفسير السببي المستخدمة في العلوم الاجتماعية تختلف عن مثيلتها في العلوم الاجتماعية، وإنّ معرفتنا بأحوال الآخر الذاتية (المعرفة البينذاتية) هي معرفة مباشرة لا تتوسطها افتراضات أو استنتاجات نظرية.

أما حسن احجيج، فقدم مداخلة عنوانها "التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي وشروط صدقيته"، وحاجج في عرضه بأنّ التفسير القصدي للأفعال الاجتماعية يختلف عن التفسير الاستنباطي الناموسي، لكن لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتباره أدنى منه من حيث الوجاهة الكشفية. وفي سبيل ذلك، دافع الباحث عن وجاهة مقاربةٍ "لاهيوميّة" لِعِلِّيّة التفسير القصدي، وعن موقف يجمع بين الحاجة إلى التفسير القصدي للسلوك الاجتماعي، مع الإبقاء على وجاهة الهدف التقليدي لفهم هذا السلوك في سياق ثقافي؛ وسعى في الحصيلة إلى الدفاع عن الموقف التالي: على الرغم من أنّ التفسير القصدي لا يتوقف على قوانين طبيعية، فإنه يظل مع ذلك تفسيرًا بالعلل، وإذا كنّا نعتقد أنّ صعوبات الوصول إلى هذه الغاية حقيقية، فإننا نرى أنّ التغلب عليها ليس مستحيلًا، ولذلك فإنّ تفسير السلوك الاجتماعي استنادًا إلى أسباب الفاعل يمكن أن يكون نوعًا من التفسير العلميّ إذا توافرت مجموعة الشروط التي تضمن للتفسير القصدي قوته الكشفية.

وعرفت الجلسة الثالثة لهذا المحور نقاشات ثيولوجية غنية، مع شفيق اكريكر بمداخلة عنوانها "مستشرقان عند أعتاب الغار: إشكالات المنهج في مقاربة علوم الإنسان والمجتمع لظاهرة الوحي"، طرح فيها سؤال تناول ظاهرة الوحي بالدرس العلمي من دون التفريط فيها أو في العلم، ومن ثمّ إشكالية مناهج البحث في العلوم الإنسانية والاجتماعية من خلال "دراسة حالة" من حقل الدراسات الدينية هي طريقة مقاربة الوحي، المحمدي تحديدًا، من جانب مستشرقَين خصّصا لأسئلة المنهج حيّزًا مُهمًا في صلب دراستَيهما؛ هما الإسكتلندي "المؤمن" القس مونتغمري واط، والفرنسي "الملحد" الماركسي مكسيم رودنسون. وتمثل الادعاء الأساسي للباحث أنّ "الموقف الدراسي" غير "الموقف الإيماني"، وأن الأول يفضي، موضوعيًا ومن غير سوء نيّة، إلى "تنسيت" (من الناسوت) ظاهرة الوحي؛ ومن ثمّ تحييد قداستها؛ وما ذلك إلا لأنّ العلم (الطبيعي منه والإنساني) يصدر عن "هابيتوس" طبيعاني بالضرورة.

أما عبد القادر ملوك فجاءت مداخلته بعنوان "إشكالية الصلة بين الوقائع والقيم وانعكاساتها على موضوعية العلوم الطبيعية والإنسانية: ماكس فيبر وهيلاري بتنام نموذجًا"، أبرز فيها أنّ السياق التاريخي والاجتماعي لظهور السوسيولوجيا في المجتمع المغربي يكشف أنها لم تكن ضرورة داخلية، ولم تتبلور بوصفها سوسيولوجيا محلية، بل خرجت من معطف الأبحاث الكولونيالية. ومن ثمّ، انكبّ الباحث في عرضه على سؤال بناء سوسيولوجيا وطنية أو محلية، في مقابل السوسيولوجيا الغربية، التي فرضت ذاتها بوصفها سوسيولوجيا كونية، سؤالًا يقتضي مساءلة السياقات وتفكيك المفاهيم التي أُنتجت داخل السوسيولوجيا الكولونيالية، وكذلك النظريات التي قامت عليها، لا الاستمرار في إعادة إنتاجها، فضلًا عن الاستمرار في استيرادها.

المسار الثاني: علم النفس والجغرافيا في مركز اهتمامات المؤتمر

واتسمت أولى جلسات المحور الثاني بتقديم أولى الأوراق البحثية المخصصة لمناهج علم النفس، استهلّها بنعيسى زغبوش بمداخلة "التجريب بين علم النفس وعلوم الأعصاب: اشتراك في البراديغم، واختلاف في التقنيات، وتشابه في النتائج" ناقش فيها وضعية المنهج التجريبي بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، ضمن إشكالية العلاقة بين الدماغ والذهن والسلوك، مفترضًا أنّ اختلاف التخصصات والتقنيات التجريبية يفضي إلى نتائج متشابهة عند الاشتغال بالبراديغم نفسه، سواء كان مؤطِّرًا للبحث العلمي مثل البراديغم المعرفي، أو براديغمًا تجريبيًا؛ مثل براديغم التفضيل البصري، وبراديغم التعوّد - اللاتعوّد. ومثّل الباحث لذلك بعلم النفس المعرفي والعلوم العصبية المعرفية عند دراستهما موضوعًا دقيقًا؛ مثل الكفاءات المبكرة لدى الرضيع الذي تعوزه اللغة وسيطًا تواصليًا مع الفاحص، للتعبير عن كفاءاته المبكرة في وضعية تجريبية، الأمر الذي يدفع الباحث إلى تطوير وسيط غير لغوي للتواصل مع الرضيع، متمثلًا في حركة عينيه المقترنة بمؤشر زمني يقيس مدة تثبيتهما على مثيرات التجربة.

وربط عدنان التزاني، في مداخلة اختار لها عنوانًا: "العلوم الإنسانية في العالم العربي بين خصوصية الموضوع وكونية المنهج والمعرفة؛ علم النفس نموذجًا"، نشأة العلوم الإنسانية وتطورها بتخصصاتها المختلفة، في السياق العالمي، ببروز جدلٍ واختلاف واضح في وجهات النظر حول الأسس والمنطلقات الإبستيمولوجية والمنهجية للتعامل مع الظواهر الإنسانية. وتجلّت النواة الأساسية لهذا الجدل كما عرضها التزاني في إشكالية الخصوصية الإبستيمولوجية للظواهر الإنسانية مقارنةً بالظواهر الطبيعية، إضافةً إلى بروز إشكالية ثانية في العالم العربي تطرح بدورها تحديات علمية أمام هذا المبتغى. ومن ثمّ، سعى الباحث إلى إبراز المنطلقات والأسس التي يُبنى عليها طرح خصوصية الظاهرة الإنسانية، سواء على المستوى الإبستيمولوجي أو الثقافي، وما يترتب على ذلك من إكراهات وتحديات علمية تعرقل مشروع إرساء هذه المباحث العلمية وتطويرها في البلدان العربية؛ وذلك في أفق نقدها وعرض إمكان تجاوزها.

ثمّ انتقل المحور الثاني ليعرض مقاربات في علم الجغرافيا، بدءًا من مساهمة الحسن المحداد وآخرين بمداخلة بعنوان "تموضع العلوم الجغرافية بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية: أيّ منهاج لأيّ موضوع؟"، أبرزت أنّ العلوم الجغرافية تتميز بأنها تتطرّق إلى موضوع بقاعدة عريضة تشمل في الآن ذاته الظواهر الطبيعة "غير العاقلة" والقضايا المتعلقة بحقل الإنسانيات، وأنّ هذا التموضع المزدوج بين الطبيعي والبشري يمثّل حالة خاصة صالحة لتقفّي الدروب التي يسلكها الجغرافيون في سبيل تجاوز عقبات اتساع طيف الموضوع، وكذلك مطبّات إشكالية المنهاج التي تعرفها تخصصات العلوم الاجتماعية والإنسانية المختلفة. ليخلص الباحثون إلى أنه على الرغم من التضارب المسجل في الموضوع والمنهاج، فقد تمكّنت الجغرافيا من تحقيق مستوى عالٍ من النفعية، ما جعل مأسستها تحظى بترسيخ عميق يمكّنها من تسجيل حضور قوي في حياة الإنسان اليومية، الفردية والجماعية.

المقاربة الجغرافية ذاتها هي التي تناولها حسن ضايض وميلود الرحالي، في مداخلتهما "في المقاربة الجغرافية النقدية لتحليل التنمية الريفية في المغرب"، من منظورٍ منهجي آخر عرض لقضية التنمية الريفية من أجل نقد مناهج البحث والمجتمع في آنٍ واحد. واختار الباحثان أن يكون طموحهما المعرفي عبارة عن "مقاربة نقدية" تعتبر المجال الريفي "منظومة مجالية متكاملة"، مُشكَّلة عبر سياق تاريخي خاص، ونتيجة روابط وعلاقات متداخلة، أهمها رباعية المجال والمجتمع والسلطة والفئة، في ظل هيمنة منظومة معرفية كونية لا تعترف بالخصوصيات، وتعتبر "المجال/ التراب" ملكًا للجميع.

وتواصلت الجلسة الثانية بمقاربة جغرافية أيضًا، سعى فيها عبد الواحد العمراني من خلال مداخلته "التكامل المنهجي وأهمية توظيفه في العلوم الإنسانية والاجتماعية: حالة علم الجغرافيا"، لمعالجة مسألة أساسية ترتبط بإبراز أهمية توظيف التكامل المنهجي في العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ وذلك من خلال دراسة حالة علم الجغرافيا؛ باعتباره علمًا ينهل عند معالجته الظواهر المجالية من مجموعة من التخصصات المجاورة التي يتقاسم معها ميدان البحث وأدواته. ولإنجاز هذا المساهمة، جرى توظيف المنهجين: الوصفي التحليلي والإمبيريقي بالاحتكام إلى ما راكمه البحث العلمي الجغرافي داخل الجامعة المغربية.

أما محمد خميس فجاءت مداخلته بعنوان "معضلة الريب ومواجهة النزعة السببية في مقاربات الدراسات الاستشرافية"، وعاد فيها على الجدل في وجهات النظر حول الأسس والمنطلقات الإبستيمولوجية والمنهجية للتعامل مع الظواهر الإنسانية، ولا سيما الجدل في إشكالية الخصوصية الإبستيمولوجية للظواهر الإنسانية مقارنةً بالظواهر الطبيعية.

المسار الثالث: في المناهج القانونية والعرفانية

من جهتها، فسحت أعمال المسار الثالث المجال لعرض دراسات منهجية قانونية، استهلّها محمد وفيق زين العابدين بمداخلة له بعنوان "التبعية الأكاديمية في المجتمع العلمي العربي: علم القانون نموذجًا للأزمة"، أشار فيها إلى أزمتين كبيرتين يُعانيهما علم القانون في البلدان العربية بوجه عام: أزمة هوية، وأزمة وظيفية، يوضحهما مؤشران رئيسان؛ أحدهما متمثّل في الفجوة بين التنامي الكمي لعدد الدارسين للقانون وضعف إنتاج المعرفة ممثلًا في ضعف الجودة النوعية للبحوث ونتائجها العلمية، والآخر متمثّل في الفجوة بين التنامي الكمي لمؤسسات التعليم القانوني وتكلّس الأبنية القانونية.

ثم تابع محمد الخراط، في مداخلة "التشريع القانوني والقيم: مساهمة في أنثروبولوجيا القانون"، سبر أغوار المناهج القانونية من خلال الوقوف على العلاقة الملتبسة بين واقع التحديث القانوني الذي تقتضيه حركة المجتمعات من جهة، ومنظومة الأعراف والقيم والعادات الموروثة من جهة أخرى. وكانت التساؤلات المركزية التي برزت في هذه المحاضرة متّصلة بالمخوّل واقعًا للتحديث في التشريع أو للتدخل القانوني من أجل إيقاف عُرفٍ أو عادةٍ أو تغيير حكم فقهي، إضافة إلى الأسئلة بشأن حاجة المجموعة إلى التغيير أم بفرض الأمر بالقوة القهرية لقانون الدولة، وإن كانت القضية نابعة من إرادة رجل القانون، أم رجل السياسة، أم رجل الدين، أم المجتمع المدني، أم هي استجابة لمطالب المجتمع. ليخلص الباحث إلى تبيان العلاقة الجدلية بين قيم المجموعة وتجديد التشريع من جهة، وقدرة القانون على استباق العقل الجمعي، وقدرة هذا العقل على تمثّل المكتسبات التشريعية الحديثة من جهة أخرى، خصوصًا أنّ من أهمّ أهداف أنثروبولوجيا القانون الكشفَ عن الخطاب العميق وراء الخطاب القانوني الظاهر، والنظر في الكيفيات التي تتمثّل بها المجموعة نظامها القانوني.

وواصلت دينا حداد، في مداخلتها "المقاربات العالم - ثالثية للقانون الدولي: العولمة وديناميات الانخراط في الدراسات الاجتماعية القانونية في العالم العربي"، المقاربة القانونية المنهجية ذاتها، بالتركيز على الطابع والتطور المعقدين للقانون الدولي، وخاصة في ما يتعلق بتعزيز سيادة القانون في أوقات الأزمات والتحولات التي تصل إلى منطقة الشرق الأوسط بأسرها. وتناولت المحاضرة مسألة الانخراط التاريخي لمجال القانون الدولي في منطقة الشرق الأوسط، ثم انتقلت للنظر في "مقاربات العالم الثالث للقانون الدولي" إطارًا نظريًّا يردّد أصداء ما خلصت إليه دراسات ما بعد الاستعمار، لتستعرض في الأخير مناقشة لبعض الخطابات المعاصرة بشأن ممارسات الدولة، أو الدول، في أوقات الأزمات الدولية، وتقدم الدراسة استنتاجاتها حول واقع قصور القانون الدولي في الشرق الأوسط.

أما شفيقة وعيل، فقدمت مداخلة بعنوان "المعجم الصّوفيّ وإشكاليّة المنهج: معضلة التّجربة، وسؤال الإمكان والتحقّق"، لتنتقل في هذا المسار إلى درس التجربة الصوفية المتعالية والإشكاليات المتعلقة بمعجمة المفردة الصوفية؛ ذلك أن الـمعجمة، بوصفها تحديدًا للمدلولات، تبدو، نظريًا، غير قادرة على اقتناص الدلالة من المفردة الصوفية، مميزةً منهجيًا بين المعجم العام والمعجم المتخصص؛ على اعتبار أنّ الأول يتناول الحالة العامة التي توحي بها المفردة في التصوف، والثاني يتتبّع تفصيليًا كل تصورات المعنى في تعاليه.

وتصدّى محمد همام في مداخلة عنوانها "المدخل اللغوي إلى تجديد البحث في العلوم الاجتماعية: اجتهاد طه عبد الرحمن نموذجًا"، للبديل الذي يقترحه عبد الرحمن، بعد نقده ظاهرة النقل المصطلحي في الثقافة العربية، خصوصًا في الفلسفة والمنطق والعلوم الاجتماعية، من خلال نقد استنساخ النموذج الاصطلاحي اليوناني القديم أو النموذج الاصطلاحي الغربي الحديث؛ ما سبّب، في نظره، قلقًا في العبارة الفلسفية العربية قديمًا وحديثًا، وفي مختلف حقول المعرفة والبحث. وقد عدّ همام في عرضه استنساخ مفاهيم الغير ومصطلحاته، في نظر عبد الرحمن، إنتاجًا لنص مضاد لمقومات الأمة ومفرداتها التداولية، بالنظر إلى ما يولّده من العجز في التفكير والحصر في التعبير، وهو ما أضرّ بقدرة اللغة العربية على صنع المفاهيم واستثمارها في البحث الاجتماعي؛ فتعطّلت قوتها التي تتحرك بها ألفاظها، وتتولّد من خلالها تراكيبها، فتجمّدت آليات اشتغالها في إنتاج الفكر.

وواصلت سرور الحشيشة، في مداخلتها التي اختارت لها عنوانًا "العرفان من اللّسانيّات إلى الإنسانيّات: إبستيمولوجيا الدّرس العرفانيّ بين علوم اللّسان وعلوم الإنسان"، النظر في القضايا الإبستيمولوجية التي فرضتها ثورة العلوم العرفانية، من خلال المراهنة على الدرس اللساني العرفاني في أن يكون لسائر الاختصاصات في مجال الإنسانيّات جسرٌ تعبره إلى حقل العرفانيّات. وبيّنت الباحثة أثر النظرية التوليدية في الخروج بالبحث اللسانيّ من الطور البنيويّ إلى الطور العرفانيّ، استنادًا إلى أسس المنهج العلميّ في هذه النظرية. وعاينت خصائص المنهج في اللسانيّات العرفانية، انطلاقًا من الإطار الإبستيمولوجيّ العام لحقل العلوم العرفانية. ثم استقرأت الوضع الإبستمولوجيّ الرّاهن للدرس اللسانيّ العربي الحديث. فبيّنت في ضوء العوائق المنهجية التي مرّ بها على امتداد مراحل من تاريخه أهمية الخطوة التي اتخذها التفكير اللغوي عند العرب في اتجاه أن ينتهج الدرس اللسانيّ منهج المدرسة النفسية التوليدية، فالعرفانية.

المسار الرابع: تقنيات ومقاربات

وتميزّ المسار الرابع، الذي يكتسي مضامين سوسيولوجية بالأساس، بمداخلة قدمها علي جعفري بعنوان "’الميكرو - ماكرو‘: في إلزامية تبيان آليات الانتقال"، طرحت سؤالًا بسيطًا في شكله، معقدًا في مضمونه؛ وهو سؤال العبور بين مستويات الواقع الذي نميز فيه، إلى حدود اليوم، بين الفردي والوسطي والاجتماعي.

الأبحاث كلها التي تروم تفسير الظواهر الاجتماعية، انطلاقًا من معطيات وحدات فردية، تصطدم بمعضلة الانتقال؛ إذ لا يستساغ التأويل، ولا يجوز التفسير إذا ما أغفل الباحث مسألة الربط من الميكرو إلى الماكرو. عكسيًا، يلزم جميع الدراسات التي تتوخّى تفسير فعل فردي اعتمادًا على معطيات تنتمي إلى الاجتماعي إيجادُ حل لمشكلة الانتقال من هذا إلى ذاك. بمعنى آخر، ليست الدراسات كلها معنية بمشكلة العبور؛ أي إنّ الإشكاليات التي تنتمي إلى مستوى الفرضيات ووحدات الملاحظة والتحليل نفسها معفية من تبيان العبور. ويرى الباحث أن مردّ إلزامية تبيان وسيلة العبور - على اعتبار أنّ "الميكرو – ميكرو" و"الماكرو - ماكرو" و"الميسو - ميسو" غير معنية بالعبور - تحت طائلة بطلان التفسير مبدأ إبستيمولوجي قار في المجالات العلمية كلها، فالمستويات غير المتجانسة تبقى منفصلة ولا تفيد في فهم بعضها من دون أدوات الوصل.

وتناول محمد نعيمي، في مداخلته "قيمة نظرية الاختيار العقلاني في العلوم الاجتماعية ومحدوديتها: حالة سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية"، إشكالية المناهج في العلوم الاجتماعية والإنسانية من زاوية فحص إبستيمولوجي لنظرية الاختيار العقلاني، بوصفها من أهم أشكال الفردانية المنهجية؛ منطلقًا في ذلك من هذه النظرية في سوسيولوجيا الحركات الاجتماعية، من أجل تفسير بعض الظواهر المرتبطة بهذه الحركات، وساعيًا لبيان قيمة هذه النظرية ومحدوديتها في دراسة الفعل الجمعي الاحتجاجي.

واختار أحمد مفلح، في مداخلة عنوانها "تقنية تحليل المضمون: خطواتها ومصاعبها وعلميّتها؛ قراءة في التجربة الشخصية"، تسليط الضوء على تقنية "تحليل المضمون" بوصفها أداةً بحثية غير دينامية ومجهولة ومحلّ جدل (على الأقل في الخطاب العربي)، وغير محددة بتعريف موحّد وخطوات استخدام وتقييم لنتائجها باعتبارها صادقة وثابتة، أي مدى تطابق النتائج التي تُجمع عن طريق إعادة تطبيق الاختبار نفسه على الأفراد والظواهر نفسها، وفي الظروف نفسها أو المشابهة لها. وحاول الباحث الإجابة عن الأسئلة العديدة التي تطرحها هذه التقنية، من وجهة نظره وتجربته الشخصية في استخدام هذه التقنية، مرتكزًا على بعض الدراسات والبحوث العربية التي تناولت، نظريًا، الكتابة عن هذه النظرية، وهي بحوث كثيرة وتتزايد في الفترة الأخيرة، على نحو عشوائي وتكراراي أحيانًا، الأمر الذي شوّه استخدامها وأضعفها وجعلها عرضة للشك في نتائجها، على الرغم من أنها تقنية بحثية تحمل نتائجها الكثير من الصدق والثبات لو استُخدمت بدراية ومعرفة.

من جهته، عدّ علي عبد الرازق جلبي، في مداخلته "مدخل العلوم البينية بين التكامل والاندماج المعرفي: ابتكار علم الاجتماع الرقمي نموذجًا"، أنّ مدرسة فرانكفورت تصدّت في بداية القرن الماضي لأزمة العلوم الاجتماعية، ورفضت انقسامها إلى تخصصات فرعية دقيقة، ودعت إلى تبني مدخل العلوم البينية من أجل تحقيق الفهم الشامل للظواهر الاجتماعية، وإيجاد مناهج جديدة في البحث، لكن ظهر تيار فكري انصرف بعيدًا عن هذا الهدف ومال إلى تبني مدخل العلوم المتعددة من أجل تحقيق التكامل المعرفي والمساعدة في حلّ المشكلات المجتمعية، غير أنّ هناك من شكك في طموحات هذا المدخل، واعتبره وهمًا وخداعًا، ووجد في تبني مدخل العلوم المتباعدة طريقة جديدة في إنتاج المعرفة تستند إلى الاندماج المعرفي. وقد تبلورت فرضية الباحث في أنّ الاندماج المعرفي بين العلوم المتباعدة يساهم في ابتكار نظم فكرية جديدة، تتسق مع تحديات المجتمع الشبكي وتداعياته، استعان الباحث في درسها بعدة بأساليب منهجية: التحليل التاريخي لمداخل العلوم البينية وتحولات المجتمع الشبكي وطريقة دراسة الحالة وابتكار علم الاجتماع الرقمي نموذجًا، فضلًا عن منهج إعادة التحليل وتفكيك نتائج بحوث التراث والدراسات السابقة وتركيبها.

وواصل عبد الرحمن المالكي، في مداخلة له بعنوان "الميدان والمنهج: حول نشأة التحقيقات السوسيولوجية في الغرب والمغرب"، سبر المناهج السوسيولوجية من خلال تناوله بالدرس والتحليل التحقيقات الميدانية وانتشارها مع الغزو الاستعماري الاستيطاني، والذي كان المغرب في بداية القرن العشرين هدفًا له والذي أراد له مهندسوه أن يكون غزوًا "علميًا" وسلميًا من خلال الاعتماد على الدراسات والأبحاث الإثنوغرافية التي كلّفت "البعثة العلمية بالمغرب" بإنجازها؛ وهي الأبحاث والدراسات التي ستشكل مادة معرفية كثيفة وغنية نصطلح اليوم على تسميتها "السوسيولوجيا الكولونيالية" التي تلتقي، من الناحية المنهجية، الطرائقَ المعتمدة في "التحقيقات الاجتماعية".

واختتم عبد القادر بوطالب هذا المسار بمداخلة "علم الاجتماع بين الكوني والمحلي: إشكالية المفاهيم وسياقاتها في البحث السوسيولوجي بالمغرب"، سلّط فيها الضوء على السياق التاريخي والاجتماعي لظهور السوسيولوجيا في المجتمع المغربي الذي يكشف أنها لم تكن ضرورة داخلية، ولم تتبلور بوصفها سوسيولوجيا محلية، بل خرجت من معطف الأبحاث الكولونيالية. وخلص الباحث إلى أنّ سؤال بناء سوسيولوجيا وطنية (أو محلية)، في مقابل السوسيولوجيا الغربية، التي فرضت ذاتها بوصفها سوسيولوجيا كونية، يقتضي مساءلة السياقات وتفكيك المفاهيم التي أُنتجت داخل السوسيولوجيا الكولونيالية، وكذلك النظريات التي قامت عليها، لا الاستمرار في إعادة إنتاجها، فضلًا عن الاستمرار في استيرادها، ذلك هو الإشكال المركزي الذي تحاول هذه الدراسة معالجته.

وسيختتم مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية ليلة الإثنين 25 آذار/ مارس 2019 بحفل توزيع الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية التي تُمنح في العادة، مع انعقاد أعمال المؤتمر.