بدون عنوان

انطلقت أعمال المؤتمر السّنوي للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في شقّه الخاصّ باللّغة والهويّة في الوطن العربيّ بعقد جلستين متزامنتين عن موضوع "تجلّيات التّفاعل بين اللّغة والهويّة". وقد ترأّس الجلسة الأولى الدّكتور أدونيس العكرة، الذي أثنى على الدّور المثابر للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في ترسيخ وتعميق وعي الانتماء في الوطن العربي من خلال إتاحة الفرصة للباحثين والأكاديميّين العرب للتّفاكر في هذه المواضيع المهمّة. وترأّس الدّكتور سعيد بنسعيد العلوي الجلسة الأخرى.

واستهلّ الدّكتور العكرة حديثه في الجلسة الأولى من محور "اللّغة والهويّة: تجلّيات التّفاعل" بالتّركيز على تموضع اللّغة العربيّة كهويّة وانتماء، خاصّةً في ظلّ محاولات التفكّك والإلغاء التي واجهتها في مراحلَ سابقة. وأثنى العكرة على مفكّرين سابقين أغنوا الثّقافة العربيّة من آل البستاني، وآل معلوف في لبنان وصولًا إلى سعيد عقل وغيرهم من الرّموز.

ورأى الدكتور العكرة أنّ اختلاف الهويّات ليس هو ما بلور أممًا أوروبيّة متعدّدة وأدخلها في حقبٍ ماضية في حربين عالميّتين في القرن العشرين، وإنّما هو "تعدّد اللّغات". لذلك فإنّ اللّغة هي الهويّة، وهذه هي الإشكاليّة التي ركّز عليها العكرة بشكلٍ أساسيّ، ووضعها إشكاليّة يناقشها المؤتمرون في هذه الجلسة.

بعد ذلك، قدّم الدّكتور عيسى برهومة ورقة بحثيّة ركّز فيها على دور اللّغة في إنضاج معالم الهويّة إثنيّة كانت، أو دينيّة أو قوميّة. ورأى أنّ الهويّة تتكوّن من جملةٍ من المحدّدات المتعارفة كالتّاريخ والعادات والتّقاليد، والمصير المشترك، إضافةً إلى اللّغة التي تشكّل أداة التّواصل والوعي المحيط به.

ورأى برهومة أنّ اللّغة ليست كلمات وتواصل فحسب، بل إنّها الهويّة التي بها تعلو أقوام وتنحطّ أقوام أخرى، نتيجة ارتباطها العضويّ بالثّقافة، التي تعدّ بمنزلة الموجّه لهويّة الأمّة وخصوصيّتها، والتي تتعاضد مع الشّعب في صورة مثلّث متماسك، إذا تهاوى أحد أضلاعه تلاشى.

ونوّه برهومة إلى انقساماتٍ في موضوع العلاقة بين اللّغة والهويّة بين محافظٍ يريد العودة بها إلى الأصول والجذور، وقسم آخر يرى أنّ خطاب الهويّة هو خطاب أيديولوجي يتعارض مع الحداثة والتطوّر، وهناك موقف وسطيّ يربط ما بين الحفاظ على خطاب الهويّة كأحد المحدّدات الحافظة لثقافة الأمم وانفتاحه على الحداثة بما فيها الانفتاح على اللّغات الأخرى ولكن من دون هيمنة.

كما ركّز برهومة على العولمة وأبعادها الخطرة على اللّغة والهويّة، ويعود ذلك إلى سياسات الهيمنة التي تقودها الولايات المتّحدة، التي خلقت عدوًّا تمثّل في العالم الثالث، خاصّةً عندما حاولت تعميم ثقافتها ولغتها كغطاء ثقافيّ لهذه الدّول المتخلّفة، على اعتبار أنّ اللّغة هي وعاء الفكر والحداثة، وعليه فهي ترتبط بصفة مباشرة باللّغة الإنكليزيّة.

وشدّد برهومة على أنّ مواجهة ذلك تكون بإدراك العلاقة بين الثّابت والمتغيّر، بحيث يتمّ الحفاظ على هويّتنا ولغتنا كمحدّدٍ ثقافيّ، مع الانفتاح حضاريًّا على نتاج التّراكم المعرفيّ للثّقافات الأخرى، وتسخيرها بما يخدم تطوير الواقع المعيش مع الحفاظ على الثّوابت.

بعد ذلك، بدأ الدّكتور عمار بوحوش مداخلته ووجد أنّ مشكلتنا في العالم العربيّ في موضوع اللّغة والهويّة تكمن في عدّة نقائصَ أبرزها عدم توطين المعرفة في البلدان العربيّة، وتشريد الكفاءات في الدّول العربيّة وعدم إعطائها دورها الفاعل والاعتماد على الكفاءات من الخارج.

أمّا الصّعوبة التي نواجهها في اللّغة العربيّة، فيرى الدّكتور بوحوش أنّها تتجلّى في عدم الاهتمام بمنهجيّة البناء اللغويّ، وعدم وجود الحوافز المادّية والمعنويّة للخرّيجين العرب والكفاءات التي تتخرّج من الجامعات العربيّة، وبذلك عدم القدرة على استبقائها داخل الدّول العربيّة. وهو ما يؤدّي إلى نزوعٍ لدى شرائحَ كثيرة للاغتراب اجتماعيًّا وثقافيًّا ولغويَّا إلى ثقافاتٍ أخرى. إضافةً إلى ذلك، وجد الدكتور أنّ من أبرز الصّعوبات أيضًا قلّة التّرجمة إلى العربيّة وهو ما يمنع إغناء المعارف والعلوم باللّغة العربيّة. كما أنّ عدم تنمية اللّغة العربيّة وعدم وجود مراكز أبحاث عربيّة تهتمّ بمنهجيّة اللّغة وتساهم في خلق ثقافة اللّغة في الحياة العلميّة، وليس التغنّي بها كلغة تراث ودين وغيره تعدّ إحدى أبرز الصّعوبات التي تواجهها اللّغة العربيّة.

بعدها، انتقلت الكلمة إلى الدّكتورة لطيفة النجّار لتقدّم ورقة بحثيّة بعنوان" اللّغة والهويّة بين أزمة الهويّة وإشكاليّة الاختيار"، حيث أعطت بعض الأمثلة المعيشة شعبيًّا عن الاغتراب الذي يعيشه الطّلاب العرب وخاصّةً في دول مجلس التّعاون الخليجي عن اللّغة العربيّة ثقافيًّا في ظلّ النّزوع القيميّ إلى معارفَ إجرائيّة تبعد هؤلاء عن أهمّ معطى في وعي انتمائهم والمتمثل في اللّغة العربيّة، التي تشكّل هويّتهم.

ورأت الدّكتورة النجار أنّ الهويّة تقع في صميم ما تعنيه اللّغة وفي آليّة عملها وكيفيّة تعلّمها، كما وجدت أنّ اللّغة تتأثّر تأثّرًا عميقًا بما يصيب هذه الهويّة من تغيّرٍ أو تبدّل أو انزياح، لذلك فإنّ تعلّم اللغة العربيّة لا يشبه تعلّم أيّ نوع آخر من المعارف والعلوم على اعتبار أنّ تعلّم اللّغة هو تعلّم غير موضوعيّ وغير محايد ويرتبط بعوامل تشكّل وعي الفرد وميوله.

وركّزت الدكتورة النجار على ضرورة وضع خطط علميّة مدروسة للنّهوض باللّغة العربيّة بعيدًا عن النّظرة العاطفيّة واللّغة الانفعاليّة، خاصّةً في ظلّ ازدواجية لغويّة يعانيها المواطن العربي بين اللّهجات الدّارجة واللغة العربيّة الفصيحة من جهةٍ، وازدواجيّة لغويّة بين اللغة العربيّة واللغة الأجنبيّة من جهةٍ أخرى.

وحذّرت النجار من أنّ عدم التّعامل بجدّية لإنقاذ واقع اللغة العربية في عصر العولمة، سيؤدّي إلى انزياح شعبيّ تدريجيّ عنها، لتحلّ في مرتبةٍ ثانية بعد لغاتٍ أجنبيّة، خاصّةً في ظلّ الصّورة النّمطية عن ارتباط هذه اللّغات بالتقدّم العلميّ والتّقني.

وأكّدت النجار على أنّ معالجة ذلك تكون ببحث العوامل المؤثّرة في عمليّة الحفاظ على اللّغة ووضع خطط مستقبليّة للحفاظ على اللّغة العربيّة وتأكيد حضورها في حياتنا العلميّة والعمليّ.