بدون عنوان

الجلسة الافتتاحية للمؤتمر ومحاضرة الدكتور عزمي بشارة
عزمي بشارة

انطلقت يوم السبت، 2 آذار/ مارس 2024، أعمال الدورة الرابعة لمؤتمر طلبة الدكتوراه العرب في الجامعات الغربية التي ينظّمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بمحاضرةٍ افتتاحية قدّمها الدكتور عزمي بشارة، المدير العام للمركز العربي، بعنوان "قضية فلسطين واللاسامية والمكارثية الجديدة".

استهلَّ بشارة محاضرته بالإشارة إلى أنّ الحديث عن خلفيات الحرب الجارية في قطاع غزّة ووصف معاناة الناس في فلسطين فقط من دون توسيع النقاش، سيغدو من باب التكرار واللجوء إلى البلاغة اللغوية في وصف المعاناة التي لا تسعفنا اللغة دائمًا في التعبير عنها. وبدلًا من ذلك، ركّز على المواجهة الجارية حاليًا على مستوى الرأي العام الغربي فيما يتعلق بما يمكن اعتباره عمليات إزاحة؛ أي تحويل مركز النقاش من موضوع معاناة الناس في قطاع غزّة وعدالة قضية الشعب الفلسطيني، التي أعادتها المقاومة في القطاع إلى الواجهة، إلى التفكير في اللاسامية واللغة المستخدمة في وصف الممارسات الإسرائيلية، بحيث يتحول المتضامن مع قضية فلسطين والفاعل من أجلها، إلى حالة الدفاع عن النفس وتبرير الذات والمصطلحات التي يستخدمها. ولا يحدث ذلك عفويًا، بل تعمل جهاتٌ كثيرة على تنظيم الحملات الرامية إلى تغيير الموضوع ومجرى النقاش بشأنه، بما يشبه المكارثية الجديدة. فبعض الإجراءات الجارية في الكونغرس الأميركي تذكّر بالمكارثية التي هدفت إلى التصدي لما سُمّي في حينه "خطر الشيوعية" في بداية خمسينيات القرن العشرين، ومن ذلك التحقيق مع ثلاثة رؤساء جامعات أميركيين في مجلس النواب، وتشكيل لجنة للتحقيق في أوضاع الجامعات الأميركية ومدى مكافحتها لتعبيرات اللاسامية في حرمها الجامعي.

وفي السياق ذاته، انتقل بشارة إلى معالجة العلاقة بين قضية فلسطين واللاسامية، مشيرًا إلى أنّ الهولوكوست وُظِّف في الدعاية الإسرائيلية عشية حرب عام 1967 وبعدها، وانتشر استخدامها في حينه من خلال الاتهامات الإسرائيلية لجمال عبد الناصر على أنه هتلر، وهو الاتهام نفسه الذي وسموا به فيما بعد ياسر عرفات وصدام حسين. ويهدف هذا الاستخدام إلى تغيير السياقات؛ بحيث تحتكر إسرائيل دور الضحية حين تقوم بدور الفاعل، وتتهم خصومَها وأعداءَها بـأنهم نازيّو المرحلة وأعداءُ السامية المعاصرون.

في هذا الصدد، أكّد بشارة أنّ اللاسامية هي ظاهرة أوروبية، بدءًا من العداء الديني منذ العصر الوسيط إلى العداء الناجم عن تحويل الصراعات الطبقية وتوجيهها إلى اليهود، وصولًا إلى النظريات العرقية وتسمية اليهود بالساميين. وقد استورد بعض عناصرها متأخرًا إلى المنطقة العربية بصيغة المؤامرة اليهودية العالمية على هوامش الحركة القومية العربية حينًا، والتيار الإسلامي أحيانًا أخرى، في فترات الأزمات التي بدا فيها للعرب أنّ اليهود يسيطرون على العالم. ومع ذلك، لم تكن الحالات التي تعرضت فيها الأقليات الدينية للاضطهاد في المنطقة العربية تحت عنوان اللاسامية، ولا ميّزت اليهود على نحوٍ خاص، ولا تقارن بالمطلق بظاهرة العداء لليهود في أوروبا منذ العصر الوسيط، التي لها جذور دينية وعرقية واجتماعية.

وأكّد بشارة أنّ العداء للصهيونية ليس ظاهرة عربية ولا إسلامية أيضًا، بل ظاهرة يهودية مثلها مثل الصهيونية؛ فقبل أن ينشأ الصراع مع الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي، لم تكن بداياته مع الفكر الصهيوني لا على فلسطين ولا على الأرض، بل تجسّد مع الصهيونية في المجتمع اليهودي، على تعريف الهوية اليهودية، وكان مصدر هذا الصراع دينيًا ضد تعريف اليهود بوصفهم قومية كباقي القوميات وضد إقامة دولة يهودية بوصف الدولة الدنيوية كيانا علمانيًا. وظهرت مصادر يهودية أخرى للعداء للصهيونية هي مصادر علمانية عبّر عنها اليهود الاشتراكيون والشيوعيون من جهة، ممّن اعتقدوا أنّ خلاص اليهود مثلهم مثل باقي الشعوب يكون بإقامة النظام الاشتراكي، والليبراليون، من جهة أخرى، الذين اعتقدوا أنّ الدولة العلمانية الأوروبية لا تتناقض مع الدين، وأنّ تحويل اليهودية إلى قومية يضع حاجزًا أمام اندماج اليهود في مجتمعاتهم، وإقامة الدولة تُنشئ إشكالية الولاء المزدوج. هذا رأي ليبرالي يهودي وليس تحريضًا معاديًا للسامية. أمّا العداء العربي والفلسطيني للصهيونية فهو عداء لها بوصفها حركة استعمارية ولا يتعلق بالديانة اليهودية ولا يمثّل عداءً لليهود.

واختتم بشارة المحاضرة بتفنيد الشق الثاني من تعريف التحالف العالمي لتذكر الهولوكوست IHRA الذي تبنّته الخارجية الأميركية، مبيّنًا أنّ الشق الأول يمكن قبوله، وشق الأمثلة يتألّف من أحد عشر مثالًا، سبعة منها تتناول إسرائيل وثلاثة تعني عمليًا منع توجيه النقد لإسرائيل. وشدد المحاضر على أهمية تنظيم الردود على الممارسات والإجراءات في الغرب التي وصفها بـ "المكارثية الجديدة" الجارية، من خلال تحالف المتضامنين مع فلسطين ومؤيّدي القضية الفلسطينية مع قوى ليبرالية غربية متضررة من التحريض الرامي أيضًا إلى تقييد حرية التعبير في الجامعات، ودعا إلى التحوّل من وضعية الدفاع إلى الهجوم، على مستويَين: أولًا، لا يكفي الدفاع عن ضحايا هذه الإجراءات والهجمات في المحاكم، بل يجب تحويل الافتراءات إلى اتهامات بالتشهير يُقاضَى بموجبها أصحابها. وثانيًا، ثمّة حاجة إلى خوض نقاش على المضامين، لا التركيز على ما يتعلق بحرية التعبير فقط، وذلك من خلال مناقشة المفاهيم التي تتعرض إلى عملية تشويه، ومناقشة مضمون التّهم وليس الدفاع عن الحق في التعبير فقط، بل الدفاع عن مضمون المواقف من الاستعمار الاستيطاني والاحتلال ونظام الأبارتهايد والإبادة الجماعية. وكلّها مواقف يمكن الدفاع عنها؛ فهي ليست قريبة حتى من لغة اللاسامية وفكرها وخطابها، ومن ثم تحويل تهمة اللاسامية إلى تشهير يفترض أن يحاسَب عليه قائله.