ألقى الدكتور عزمي بشارة كلمة في افتتاح المؤتمر السنوي للمركز العربي للأبحاث والدراسات السياسية - باريس الذي يتناول
"فلسطين وأوروبا: عبء الماضي والديناميكيات المعاصرة". تجدون هنا النص الكاملة للكلمة.
الكلمة الافتتاحية
في المؤتمر السنوي للمركز العربي في باريس
"فلسطين وأوروبا: عبء الماضي والديناميكيات المعاصرة"
باريس، 13-14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025
الدكتور عزمي بشارة
يصعب حصر عدد زوايا النظر والمداخل التي يمكن الولوج منها إلى موضوع أوروبا وفلسطين؛ إذ من المحال فصل فلسطين عن علاقات شمال البحر المتوسط بجنوبه وشرقه بصيغها وتشكلاتها المختلفة عبر التاريخ. ومن المنطقي، إذا كان موضوعنا قضية فلسطين، أن ننطلق من القرن التاسع عشر مع ازدياد الاهتمام الاستعماري بالمشرق العربي الذي شمل بلاد الشام بما فيها فلسطين. ومن غير المستغرب أن نتخذ منشأ الحركة الصهيونية في أوروبا مدخلًا.
شهد القرن التاسع عشر إقبال باحثين في اللاهوت ورجال دين ورحّالة وجغرافيين أوروبيين على السفر إلى فلسطين. وأجرى بعضهم مسوحات لبيئتها الطبيعيّة والسكانيّة، ونقّبوا عن أي دليلٍ قد يؤكّد معتقداتهم الدينيّة بشأنها وإسقاط تصوراتهم التوراتية على تفاصيلها. وفحص بعضهم إمكانيّة إعادة إحياء المملكة اليهوديّة المتخيّلة وفقًا للتاريخ التّوراتي. لم يكن هؤلاء رحّالة صهيونيين، ولا يهودًا، بل كانوا مسيحيين أوروبيين، وغالبًا ما كانوا من البروتستانت. وقد عبّر الناشطان الصهيونيان من بولندا وأوكرانيا، دافيد بن غوريون وإسحاق بن تسفي، على التوالي، في مقدمة كتابهما "أرض إسرائيل في الماضي والحاضر"، لعام 1918 - الذي ألفاه في نيويورك بعد أن أبعدتهما السلطات العثمانية عن فلسطين - عن دهشتهما من عدم وجود كتابات وأبحاث عن جغرافية فلسطين وتاريخها بأقلام باحثين يهود. ومع أنّ غالبيّة الكتابات والمسوحات حول فلسطين، حتى ذلك الوقت، أنتجها مؤرخون ورحّالة وثيولوجيون ولاهوتيون أوروبيون مسيحيون، غالبًا بدوافع دينيّة، وهو أمر لافت فعلًا، فلم يكن ثمة نقص في عدد المؤرخين والباحثين اليهود، لكنهم لم يكتبوا كتابًا واحدًا عن جغرافية فلسطين وتاريخها. لم تكن فلسطين موضوع اهتمام العلمانيين اليهود قبل الصهيونية. أما المتدينون، فلم ينشغلوا بالبحث العلمي والمسوحات ورسم الخرائط، ولم تكن علاقة غالبيتهم بما يسمونه "أرض إسرائيل" دنيوية الطابع.
على كل حال، اختلطت الدوافع الدينيّة بالمطامع الاستعماريّة الجيوستراتيجيّة والاقتصاديّة والتنافس بين الدول الكبرى على اقتسام العالم، مثلما حدث في احتلال أميركا في القرنين السادس عشر والسابع عشر وأجزاء أخرى من عالمنا. وينطبق هذا أيضًا على الاهتمام الاستعماري بالمشرق العربي أكثر من غيره.
حتى تلك الفترة، لم تكن قد ظهرت مسألة فلسطينيّة منفصلة عما سمي "المسألة الشرقية"، ولكن كانت هناك بالتأكيد مسألة يهوديّة؛ فقد سبقت الأخيرة تاريخيًّا نشوء المسألة الفلسطينيّة، لكنها كانت مسألة أوروبيّة خالصة.
لسنا في حاجة إلى الخوض في خلفيّات المسألة اليهودية الدينيّة والاجتماعية الطبقيّة وظهور النظرية العرقية؛ فالموضوع نوقش بكثرة في الدراسات حول اللاسامية. في الواقع، نشأت المسألة اليهودية عن الحداثة الأوروبية، وتحديدًا حينما شرعت الدول الأوروبيّة الرئيسة في تطبيق سياسات إدماجيّة لليهود، وتصحيح أوضاعهم تدريجيًّا بما فيها إلغاء القوانين التي تُميّز ضدهم. وكان مصدر ذلك الصراع بين مؤيدين لدمج اليهود وتطبيق المساواة القانونية عليهم كجزءٍ من علمنة مؤسّسات الدولة وتحييدها دينيًّا، وبين المعارضين لهذا الإدماج سأسمالأسماليتحت مزاعم تتعلق بطبيعة اليهود ودينهم وشريعتهم، وعدم قابليتهم للاندماج، وزيف ولائهم للأوطان التي يعيشون فيها، فضلًا عن نسج أساطير مثل "بروتكولات حكماء صهيون" بشأن وجود محفل يهودي عابر للحدود يحيك المؤامرات ضد الدول من خلال تأجيج الصراع الطبقي فيها، وحتى إثارة الحروب بينها لإضعافها.
أصبح واضحًا أنّ هناك مسألة يهوديّة في أوروبا في النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر ، وأنّها تُستخدَم أيضًا للتنفيس عن الصراعات الداخلية بتوجيه النقمة إلى عدو داخلي من خلال استغلال مزيج من الكراهية الدينية المسيحية من رواسب العصر الوسيط والقومية الإثنية والنظريات العرقية. واتخذ ذلك شكل موجات عنف متكررة ضد اليهود (الكلمة الروسية هي بوغروم)، أو شكل تمييز اجتماعي ضدهم في الدول التي تحقّقت فيها مساواة قانونية، أي في غرب أوروبا.
نشأت الصهيونيّة في أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر متأثرة بالتنوير اليهودي (هسكلاه)، وبوصفها نفيًا له في الوقت ذاته. وعارض المثقفون اليهود الذين أسّسوا الحركة الصهيونيّة النّزعة الاندماجيّة لتيار الهسكلاه، رغم أنهم كانوا في غالبيتهم اندماجيي النزعة قبل تبني الصهيونية، وأكدوا أن اليهود ليسوا طوائف دينية فحسب، بل هم شعب واحد أيضًا. وأصر بعضهم على أنهم عرق، في سياق رواج النظريات العرقية. ولكنّهم، في الوقت ذاته، كانوا نتاج الإصلاحات الأوروبية التي أخرجتهم من "الغيتو" والتنوير اليهودي، الذي شجع على التعليم الحديث وممارسة المهن المختلفة، واشتركوا معه في معارضة انعزاليّة التّيار الدّيني في "الغيتو".
رفض التيار الديني الاندماج، وأصر على مواصلة اليهود العيش وفق الشريعة اليهودية والحفاظ على خصوصية نمط الحياة، وإنْ كان ذلك على هامش البلدان التي عدّوها بلاد الشتات، وبالعبرية "غلوت" أو "غولاه"؛ أي منفى. واتفقت الصهيونية مع التيار الديني على رفض الاندماج. فقد رفضت الصهيونية اعتبار اندماج اليهود، بوصفهم أفرادًا مواطنين متساوين في الحقوق في المجتمعات الأوروبيّة، حلًا للمسألة اليهودية. لكنها، خلافًا للتيار الديني، دعت إلى الاندماج في المدنيّة الأوروبيّة بتأسيس دولة قوميّة مثل بقيّة الدول الأوروبيّة باعتبارها الطريق الوحيد لحل المسألة اليهوديّة، خارج أوروبا، وذلك من خلال الانخراط في المشاريع الاستعمارية الأوروبية.
تلخصت رؤية الحركة الصهيونيّة لمهمتها الرئيسة ووظيفتها التاريخيّة بما قد يُسمى في عصرنا بناء أمة من خلال إنشاء دولة، وذلك بتحويل اليهود من مجرّد طوائف دينيّة يقودها رجال دين يعدّون "المنفى" عقابًا إلهيًّا وينتظرون الخلاص الإلهي بقدوم المسيح المنتظر، إلى جماعة قوميّة حتى لو كان يجمعها الدّين فقط في غياب لغة وثقافة مشتركة، وهي تعوّض عن فقدان الأرض المشتركة بقومنة التوق الديني إلى فلسطين باعتبارها أرض إسرائيل التوراتية؛ أي تحويله إلى توق قومي في السعي إلى إنشاء دولة قومية مثل الدول الأوروبية. وشددت على ضرورة قلب الشخصية النمطية ليهود المنفى الضعيفة والمستكينة، من منظورهم، التي استخدم المنظرون الصهيونيون أسوأ الألفاظ في وصفها، إلى شخصية قومية فخورة من خلال العمل الجسدي في الأرض وحمل السلاح، وإنشاء "يهودية العضلات"، كما سماها ماكس نوردو الرجل الثاني في القيادة الصهيونية ومنظّرها الرئيس في مرحلة تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية.
هنا نشأت أوّل مرّة صراعات بين الصهيونيّة وثلاثة معسكرات يهودية معادية لها: التيارات اليهودية الدينية، والتيارات اليهودية الليبراليّة التي رأت أن الصهيونية تُهدّد إنجازات التنوير الأوروبي والتنوير اليهودي بتحقيق المساواة الحقوقيّة لليهود، والتيارات اليسارية والاشتراكية اليهودية التي آمنت بأن حل المسألة اليهودية يكون بتحقيق الاشتراكية في البلدان الأوروبية.
نشأ عداء يهودي للصهيونيّة مع نشوئها. وكان الصراع وجوديًا؛ فقد دار حول تعريف اليهوديّة: أهي قوميّة، أم يُفترض أن تصبح قومية بفعل الصهيونية التي تبنت الأيديولوجية القومية الحديثة، أم طائفة دينيّة كما عدّها المتدينون والعلمانيون، كلٌ من منطلقاته؟ فاليهودية بالنسبة إلى المتدينين هي دين، وإذا كان اليهود شعبًا، فهم شعب مختار لا يشبه بقية الشعوب، ولا القوميات الحديثة، ولا يرنو إلى دولة قومية، بل إلى الخلاص الإلهي. وهي دين بالنسبة إلى العلمانيين، ومن ثم فهي لا تشكّل عائقًا أمام الاندماج في دول علمانيّة ديمقراطيّة محايدة دينيًا، سواء أكانت ليبرالية أم اشتراكيّة. لقد تألّفت التيّارات العلمانية اليهودية المعادية للصهيونيّة من تيّارات تتبنى تفسيرات مختلفة للتنوير الأوروبي، ومنها تيّارات ديمقراطيّة ليبراليّة، واشتراكيّة، وشيوعيّة. ومن المعلوم أنّ تمثيل اليهود في اليسار الأوروبي كان أعلى كثيرًا من نسبتهم من السكان.
لقد جرت كل هذه التطورات بمعزلٍ عن الشّعب الفلسطيني، وربما قلّة قليلة منه سمعت بهذه النقاشات وبسياق المسألة اليهودية في أوروبا. لم يكن الشعب الفلسطيني في تلك الفترة معاديًا للصهيونيّة، ولا كانت الشعوب الأوروبيّة في الحقيقة معادية للصهيونيّة. لقد كان العداء للصهيونيّة ظاهرة يهوديّة؛ لأن الصراع معها دار على تعريف اليهوديّة واندماج اليهود. ولا علاقة نظرية أو تاريخية بين العداء للساميّة والعداء للصهيونية. فتاريخيًا، كان العداء للسامية في أوروبا أقدم كثيرًا من العداء للصهيونية. والأوروبي المعادي لليهوديّة لأسباب دينيّة أو عرقيّة أو بسبب التنافس الاقتصادي لا يهمه أكان اليهودي صهيونيًّا أم لم يكن كذلك. أما الفلسطينيون - سكان البلاد الأصليين - الذين بدؤوا بالتبلور كشعب يمر بعملية تحديث وتمدين، ولديهم تطلعات وطنية، فلم يناهضوا الاستيطان الصهيوني في فلسطين بسبب عداءٍ لليهود، ولا الاختلاف على تعريف اليهودية بعد نشوء الصهيونية، بل بسبب الشك في نوايا الاستيطان ومطامعه. وما لبث هذا الشك أن قُطِع بيقين أن هدفه إقامة دولة يهودية في فلسطين.
لم يخطر ببال قادة الحركة الصهيونية الأوائل أن يتهموا الفلسطينيين بالعداء للسامية. وقد كتب فلاديمير جابوتنسكي، قائد الجناح اليميني فيها، في مقالين في عام 1923 بعنوان "الجدار الحديدي" و"النظرية الأخلاقية للجدار الحديدي"، أنه من الطبيعي أن يرفض العرب مثل أي شعب لديه كرامة الاستيطان على أرضه، ولذلك فإن القوة وحدها هي الوسيلة "لإقناعه" بتقبّل الاستيطان والتسليم بتأسيس دولة يهودية على أرضه. أما توجيه تهمة العداء للسامية إلى العرب، فظهرت بعد تأسيس إسرائيل في إطار استراتيجية الدعاية الرسمية أو "البروباغندا"، لا أكثر ولا أقل. وقد انتشرت خلال التحضير لحرب عام 1967 وبعدها، وما زال اتهام نقاد إسرائيل عمومًا باللاسامية جزءًا من هذه "البروباغندا".
ووفقًا لمذكّرات ثيودور هرتسل وخطاباته في المؤتمرات الصهيونيّة نفسها، فإن إحدى أهم الحجج في إقناع الأنظمة الأوروبيّة بدعم المشروع الصهيوني عبر إقامة وطن قومي لليهود خارج أوروبا، وتحديدًا في فلسطين، هي إغراؤهم بإراحة أوروبا من المسألة اليهوديّة التي تُولّد صراعات، والتي تُسهم في انضمام اليهود إلى حركات راديكاليّة تُهدّد الاستقرار في الدول الأوروبيّة. وقد اقتنع بعض زعماء أوروبا في القرن التاسع عشر بهذا التبرير، ولكنهم لم يتحمسوا لتنفيذه لأسباب عملية مثل الصراعات (ولاحقًا التفاهمات) بين تلك الدول على اقتسام التركة العثمانيّة، وعدم الثّقة بواقعيّة المشروع الصهيوني، وغيرها من العوامل. ولم يمنع ذلك الحركة الصهيونيّة من التنظّم وإنشاء المؤسّسات بعد الشروع بالاستيطان في فلسطين. ولكنّ المشروع برمّته لم يكن قابلًا للحياة، فضلًا عن النجاح، لولا حدوث تحولين عالميين كبيرين - وكلمة عالميين كانت تعني في تلك الفترة أوروبيين – أولهما، هزيمة السلطنة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى، والتفاهم الفرنسي - البريطاني على اقتسام المشرق العربي، وموافقة بريطانيا على التعاون في إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، واختيار حكومة بريطانيا مندوب سامي صهيوني بفكره وقناعاته، وتبنّي وعد بلفور ضمن صك الانتداب والتزام الانتداب البريطاني بتنفيذه. وثانيهما، الحرب العالمية الثانية والمحرقة النازية.
ورغم كل الجهود في التنظيم والمأسسة التي بذلها مستوطنون يهود أوروبيون ذوو خلفيّات في العمل الحزبي والنّقابي وغيره في بلدانهم الأصلية، ورغم نشوء ساكنة يهودية منظمة (يشوڤ) داخل فلسطين ذات مؤسّسات بدءًا من بنك استيطاني ومؤسّسات لشراء أراضي العرب والاستيلاء عليها مثل كيرن كييمت، وتنظيم حراسة المستوطنات مثل تنظيم "هشومير"، وتنظيم الهغناه، الذي أصبح نواة الجيش الإسرائيلي وجامعتين، واتحاد نقابات متمثلًا بالهِسْتَدْرُوت، فإنّ المشروع لم ينجح ولم يكن نجاحه ممكنًا بالتطوّر التدريجي Evolution. ولم يكن ممكنًا أن تقام دولة يهودية، واليهود أقليّة في فلسطين، من دون طرد قسم كبير من السّكان الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم. وقد أصبح هذا ممكنًا فقط بعد المحرقة النازيّة؛ وهي واقعة أوروبيّة جلل لم تحصل في منطقتنا، ولا علاقة للفلسطينيين ولا العرب ولا المسلمين بها. وبعدها تمكّنت الحركة الصهيونيّة من الحصول على قرار التقسيم في الأمم المتحدة، واستخدامه ذريعة لإعلان دولة يهودية من طرف واحد في بلد تعيش فيه أكثرية عربية فلسطينية من السكان الأصليين، كما تمكنت من طرد غالبية العرب المقيمين في فلسطين بالقوة خلال حرب عام 1948.
أدرك قادة الحركة الصهيونيّة منذ البداية أنّه من غير الممكن إنشاء دولة يهوديّة في فلسطين من دون التّعاون مع قوّة أوروبية استعماريّة واحدة أو أكثر تتبنى المشروع. وقد آمن هرتسل بأنّ العمليات الاستيطانيّة التي قامت بها حركات في شرق أوروبا مثل حركة "محبي صهيون" (حوففي تسيون) كانت فعل هواة. وسعى إلى صدور مرسوم قانوني يجعل الهجرة اليهوديّة قانونيّة برعاية دول استعماريّة عظمى.
لم تكن كلمة استعمار في تلك المرحلة كلمة سلبيّة، بل اعتُبر الانخراط في النّشاط الاستعماري من مميزات التمدّن ونشر المدنيّة. ولذلك، لم تكن ثمة مشكلة في تأسيس مؤسّسات تدعم الاستيطان مثل Jewish Colonial Trust أو بالألمانية Judische Kolonialbank.
وسواء أكان الاستيطان في فلسطين مدعومًا بدولة استعماريّة أم بمبادرة وتمويل من يهود في أوروبا، فإنّه يبقى استيطانًا استعماريًّا لأنّه يُنشئ اقتصادًا مختلفًا عن اقتصاد البلاد، لا علاقة له بحاجات سكانها، وبيئة ديموغرافيّة مختلفة عن بيئة البلاد لأهداف غريبة، والأهم من هذا كلّه أنّه يرمي إلى إنشاء كيان سياسي للمستوطنين من دون سكان البلاد الأصليين.
وربما لم يعد يُزعج إسرائيل أن تُعد كيانًا سياسيًّا ناجمًا عن عمليّة استعمار استيطاني، فهي لا تُمانع أن تنضم إلى نادي دول مثل الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا، وقد بلغت من الثّقة بالنّفس حد الاعتراف بتاريخ من السلب والنّهب مكتفيةً بالتأكيد على الصلة الدينيّة التاريخيّة لإسرائيل التي حوّلت التوراة إلى وثيقة عقاريّة وسياسيّة. ولا يبدو أنّ هذا الخلط بين الديني والسياسي - هذه السلفيّة الدينيّة - تُزعج أحدًا من الزّعماء العلمانيين في الغرب. وأصبحت وثائق صادرة مؤخّرًا عن أكبر دولة ديمقراطيّة في العالم، وهي الوثائق المسمّاة بـ "صفقة القرن" تعجّ بالمصطلحات الدينيّة والتوراتيّة، وتُناقش في تبرير نشوء إسرائيل أن أرض إسرائيل والقدس هي أرض الميعاد، وأنّ القدس غير مذكورة صراحةً في القرآن.
لكنّ هذا الاستعمار الاستيطاني لم يستقر واستمر في التوسع في حرب عام 1967، وما زال يفضل ضم أراض جديدة على السلام مع العرب. ولم يجد طريقة لابتلاع أرض الضفة الغربيّة وقطاع غزة بسكانها الذين بقوا على أرضهم بعد تلك الحرب. ولأنّ إسرائيل ترفض أي حل سياسي عادل، أو عادل نسبيًا، يعترف بالحقوق المشروعة للسكان الأصليين، فإنّها تجد نفسها ضالعةً في إنشاء نظام أﭘارتهايد Apartheid في فلسطين. فالحديث ليس عن استعمار استيطاني فحسب، بل عن نوع من الاستعمار الاستيطاني يُنتج نظامَ فصلٍ عنصريًا كما كان عليه الحال في جنوب أفريقيا. فالمؤسّسة الإسرائيليّة بتياراتها المختلفة، سواء تلك التي تُبرّر إنشاء نظام أﭘارتهايد، أو تلك التي تُنكر وجوده، تُصر على دولة يهوديّة وترفض إقامة دولة فلسطينيّة في الضفة الغربيّة وقطاع غزة عاصمتها القدس. وتأبى في الوقت ذاته منح المساواة الكاملة للفلسطينيين في الضفة الغربيّة وقطاع غزة بوصفهم مواطنين في الكيان السياسي. ولكن هذا الكيان يصر على أن يحكمهم ويحجب عنهم الحقوق الفرديّة من جهة، والحقوق الجماعيّة كشعب من جهة أخرى، في الوقت ذاته.
تُكيّف أوروبا نفسها مع واقع الفصل العنصري هذا. ولا يكتفي الاتحاد الأوروبي، أو دول أوروبية منفردة، بمجرّد علاقات عاديّة مع إسرائيل، بل إنها تُمنح امتيازات. فهي تتعامل معها كأنّها دولة أوروبيّة. وحتى المعادون للسامية الذين وجدوا لأنفسهم "آخرين" أو "غرباء" جددًا من غير اليهود في أوروبا، ليس لديهم مانع في التعامل مع دولة اليهود، بل التحالف معها بوصفها أوروبية ما دامت خارج أوروبا.
لقد جرى تصدير المسألة اليهوديّة إلى مكان لم يكن لها فيه وجود، أي إلى العالم العربي والإسلامي. وكي لا أُفهم خطأً، لم يعش يهود الشرق في فردوس من التسامح، وعانوا في العديد من الفترات مثلما عانت التمييز جميع الأقليات، لكن ليس بصفتهم يهودًا، بل بصفتهم غير مسلمين. ويجري إحلال المسألة اليهودية ذهنيًا محل المسألة الفلسطينية، مثلما يجري التعاطف مع الفاعل كأنه الضحية. وبسبب هذا الإسقاط Projection شهدنا تقبلًا للدعاية الصهيونيّة الكاذبة بتشبيه ما جرى في 7 أكتوبر 2023 بالهولوكوست.
بناءً عليه، من الطبيعي أيضًا أنْ يرغب قادة أوروبيون ومؤسّسات إعلاميّة رئيسة في أوروبا في التعامل مع 7 أكتوبر كأنّه بداية التاريخ مع تجاهل كل ما كان قبله، لا أقول منذ وعد بلفور ولا منذ النكبة ولا منذ احتلال عام 1967، بل على الأقل منذ فرض الحصار الخانق على غزة. وعندما شنت إسرائيل حربها الوحشية الأخيرة، وتجاوزت حدود الرّد المُبرّر أوروبيًّا بأنّه "دفاع عن النّفس ضدَّ الإرهاب"، وانتقلت من الثأر من السّكان المحليين إلى شن حرب إبادة بأهداف سياسيّة متعلّقة بإعادة السيطرة على غزّة، وتوسيع الاستيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس في ظل الحرب، واستغلال الحرب أيضًا لتصفية حسابات إقليميّة في لبنان وسورية وإنشاء مناطق نفوذ جديدة لها في المنطقة، دار نقاش سفسطائي ليس حول ما يجري فعلًا، بل حول استخدام كلمة إبادة أو عدم استخدامها، وحساسيّة استخدامها في قارّة جرت فيها عمليّات إبادة فعلًا. وهكذا واصلت إسرائيل استفادتها من احتكار دور الضحيّة أوروبيًا، حتى وهي تقصف المدارس والمستشفيات وتقتل الأطباء والأطفال والصحافيين.
لقد كان قطاع غزّة محاصرًا طوال عشرين عامًا في ظروف انعدام أي أفق لحل سياسي في فلسطين واستمرار توسيع الاستيطان في الضفة الغربية. وقد امتنعت أوروبا عمومًا عن إدانة إسرائيل بجرائم الاحتلال، واكتفت بإدانة المستوطنين كأنهم عصابات إجرامية لا مبتعثي دولة. ولم تتخذ أي خطوة عملية ضد صيرورة إنشاء نظام أﭘارتهايد في فلسطين. ولم تصل إلى درجة الانحياز إلى الضحية. ظلت أوروبا الرسمية متحالفة مع إسرائيل، وأقصى ما بلغته بلاغةً Rhetorically هو الموازنة بين طرفين، وتشجيع المعتدلين، وإدانة المتطرفين، واستعمال جميع المصطلحات التي تعمي عن واقع وجود احتلال؛ أي دولة محتلة وشعب رازح تحت الاحتلال. وكان هذا مهربًا مريحًا خصوصًا في ظل التسليم بأن الدور الرئيس للغرب في الشرق الأوسط منذ ما بعد عام 1956 تتولاه الولايات المتحدة الأميركية.
كانت صورة الزعماء الواقفين خلف الرئيس دونالد ترمب في قمة شرم الشيخ، في 13 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، أفضل تمثيل لتبني أوروبا دور مُساعد أو مُلحق أو كومبارس. إنه وقوف خلف الدولة التي تقدم دعمًا غير مشروط لإسرائيل، بل وتتبنى لغتها اللاهوتيّة بشأن فلسطين.
بلغت فظائع الحرب الإسرائيلية على غزة حد إحراج حلفاء إسرائيل. لذلك، فإن وقف الحرب أوقف الحرج. وأصبح المهم وقف الحرب، ولو بتبني الشروط الإسرائيلية. وقد توقفت الأمور عند ضرورة الحفاظ على وقف إطلاق النار. ويؤكد الرئيس الأميركي يوميًا، والذي يظهر يوميًا في الإعلام، أن وقف إطلاق النار صامد، على الرغم من الخروقات الإسرائيلية، فهذه الخروقات جزء من وقف إطلاق النار. ويهدد ترمب حركة حماس من خرق الاتفاق أو الرد على الخروقات الإسرائيلية. ويمكن الآن دعوة العرب إلى التطبيع مع إسرائيل، والإلحاح عليهم لاستقبال مجرم الحرب و"بطل الإبادة" في بلدانهم، بينما لا يوجد حديث عن حل قضية فلسطين حلًا عادلًا، وكأن الحرب والإبادة الجماعية لم تقع، وكأن الاحتلال وإهمال قضية فلسطين وتهميشها لم يقودا إلى الحرب.
لقد ألحق السلوك الرسمي الغربي والإعلامي التقليدي خلال الحرب ضررًا كبيرًا بمصداقية القيم الكونية المتجسّدة في إعلان حقوق الإنسان. وتجاوز الغضب الشعبي في بلداننا اتهامها بالنفاق إلى التشكيك في وجود مثل هذه القيم. وفي هذه الحالة، أدى فكرُ ما بعد الحداثة، الذي يدّعي أن القيم الكونية هي مجرد خطاب غربي - أي نتاج علاقات القوة والسيطرة - دورَ فكر ما قبل الحداثة في بلدان المشرق. ووجدنا أنفسنا في حالة دفاع عن المرجعيات الأخلاقية الكونية بين الضحايا على حساب الجهد والوقت اللازمين لفضح قيام الجناة والمتواطئين معهم بعملية تدمير منهجية لهذه القيم خطابًا وممارسة.
لكنّ الجديد هو نشوء جيل في أوروبا والولايات المتحدة يأخذ القيم الأخلاقية بجدية ولا يحصر كونيتها في مضمونها، بل يقصد بالكونية سريان مفعول هذه القيم على الآخرين، على الإنسان بما هو إنسان. ولا يستقي هذا الجيل معلوماته عما يجري في فلسطين من الإعلام المنحاز إلى دولة الاحتلال، إلى الدولة التي تمنعه هو ذاته من الوجود على الأرض وتغطية ما يجري.
إنه جيل يدين المجرمين ويتضامن مع الضحايا. ويرفض النفاق وازدواجية المعايير. ويجري هذا في عالم تُلاحق فيه الدولة العظمى قضاة المحكمة الجنائية الدولية وتتبنى مجرمي الحرب المطلوبين، وتقيّد حرية التعبير في مهد الديمقراطية الليبرالية، ويصرح رئيسها بنفسه عن خضوعه للتمويل الانتخابي واللوبي الإسرائيلي، وأنه اعترف بضم الجولان والقدس لإسرائيل بإلحاح الممولين من هذا اللوبي. إنه صريح إلى درجة تُفقد المحللين السياسيين دورهم ووظائفهم. يتجرأ هؤلاء الشباب على إسماع أصواتهم في الدول التي يتملق قادتُها ترمب وهم يعرفون شخصيته جيدًا، فيزيدونه بتزلفهم غرورًا وإمعانًا في نزواته.
والجديد أيضًا هو أن إسرائيل وجماعات الضغط المرتبطة بها أصبحت تدعو إلى استخدام التهديد بلقمة العيش وتأشيرات السفر والحرمان من مقاعد الدراسة لإسكات تلك الأصوات الحرة، وهذا في دول ديمقراطية . لم تكن الدعاية الإسرائيلية في الماضي في حاجة إلى مثل هذه الإجراءات القمعية لإسكات منتقديها، فقد كان خطابها هو المهيمن في أوروبا وأميركا الشمالية من دون اللجوء إلى قمع حرية التعبير.
إن خسارة إسرائيل هيمنة خطابها في الغرب، هو التحول الأهم الذي يجب الحفاظ عليه، وتحويل موجة التضامن من تضامن إنساني مع الضحايا ونفور من الوحشيّة الإسرائيليّة إلى تضامن سياسي لا يتوقف عند خطة لوقف الحرب تشمل جميع الشروط الإسرائيلية من دون حل عادل لقضية فلسطين.