بدون عنوان

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا العدد الحادي والأربعون من الدورية المحكّمة "تبيُّن" للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية. وتضمّن العدد الدراسات التالية: "تأملات في مسألة الهوية" لعزمي بشارة، وقد تأمل في دراسته مفهوم الهوية؛ بغية تبيّن دلالاته المتعددة، وتوضيح أسباب تضخّمه، عربيًا وعالميًا، إلى درجة أن هناك قضايا كبيرة جرى إخفاؤها تحت عباءة ما بات يعرف بـ "أزمة الهوية". واشتغلت دراسته أيضًا بفك التباسات تداخل مفهوم الهوية مع مفاهيم أخرى؛ كالشخصية الحضارية، والطائفية السياسية، والإيمان الديني، والمظلوميات على أنواعها. وسعت هذه الدراسة، كذلك، لنقاشٍ فلسفي بشأن علاقة الهوية بالكرامة، وتبيان الفروق بين الهوية الفردية والهوية الجماعية والتداخل بينهما، والصلة بين الهوية والأخلاق. واستعانت الدراسة بعلم النفس الاجتماعي لمناقشة قضايا تتعلق بأسس الانتماءات ووظائفها، وسياقات نشوء التمييز بين "نحن" و"هم"، وشرط الوعي الحديث للأفراد بذواتهم بصفتهم أفرادًا في تشكيلات الهوية. واختُتمت الدراسة بتحليل قضايا الهوية العربية والتداخل والتنافر بين الهوية الوطنية والهوية القومية، وبين الهوية القومية والعولمة، وفحصت إمكانية تكامل الهوية والمواطنة.

أمّا الدراسة الثانية في العدد، فهي "الهُوية في الخطاب الفلسفي الفرنسي المعاصر: فانسان ديكومب نموذجًا" لزواوي بغورة، وفيها بحث مسألة الهُوية في الفلسفة الفرنسية المعاصرة، من خلال الفيلسوف ديكومب الذي قدّم مقاربة تحليلية وبنائية، تعتمد على نظرية الاستعمال في فلسفة اللغة، وعلى الفلسفة الاجتماعية في دراسة المسائل الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ومنها مسألة الهُوية التي خصها بدراسات كثيرة، أهمها: إرباكات الهوية، وفيها ميّز بين الاستعمالات القديمة والحديثة، وبين الهوية الشخصية والجماعية القائمة على مفهوم الهُوية التعبيرية.

وأمّا دراسة رشيد الحاج صالح، "لماذا عادت الهُويّات لتتصدر عالم اليوم؟ نقد تشارلز تايلر للحداثة وعلمانيتها"، فهي بمنزلة تحليل للنقد الواسع الذي قدّمه تايلر لمختلف الأفكار التي كونتها الحداثة خلال الفترة السابقة حول الهوية، ولا سيما النقد الذي وجهه إلى "المنظور اللاثقافي" للحداثة؛ من حيث إنه منظور شوّه الحداثة، وقدّم تفسيرًا مغلوطًا للعلمانية ودور الدولة، ولم يُعطِ مسألة التعدد الثقافي الاهتمام الذي تستحقه، وهو الأمر الذي انتهى بتايلر إلى تقديم تفسير مختلف لأهم قضية يتناولها التفكير الفلسفي ما بعد الحداثي، وهي: السبب في عودة الأديان والهويات لتتصدر عالم اليوم. تبدأ الدراسة بتحديد الأنطولوجيا الأخلاقية المؤسِسة للهوية عند تايلر، ثم يقف الباحث على العلاقة بين الهوية السياسية والدولة الحديثة، وكذلك علاقة الهوية بالتعددية الثقافية، وسوء التفاهم الذي نشأ بين الدين والعلمانية في عصر الحداثة وما بعدها. وفي نهاية الدراسة، يقدّم الباحث تصورًا عامًّا لملامح مفهوم الهوية عند تايلر ومدى تجاوبه مع مشكلات ما بعد الحداثة؛ ولا سيما تضخم الحياة النفعية، وشطط العلمانية، والإفراط في النزعة الفردية.

وأمّا دراسة كمال بومنير، "الاعتراف وسؤال الهوية عند أكسل هونيث"، فقد نظرت في العلاقة بين مفهومَي الاعتراف والهوية، انطلاقًا من كتاب هونيث الأساسي "الصراع من أجل الاعتراف"، الذي عمد فيه إلى إعادة بناء التجربة الاجتماعية والثقافية والسياسية من خلال أشكال الاعتراف التذاوتي، التي يعتبرها مؤسِّسة للهوية الشخصية؛ وذلك حتى تحقق الذاتُ وجودها. ومن أجل تحقيق هذا المطلب، أعاد هونيث إدماج مختلف أشكال الصراعات الاجـتماعية، وأنماط التجارب الأخلاقية المعيشة، ضمن ما يسمى "النموذج المعياري" للاعتراف المتبادل. غير أنّ عملية تكوين الهوية أمرٌ يتوقف على عمليات التفاعل التذاوتي التي تجري بين الفرد والآخرين، وما يتضمنه هذا التفاعل من أشكال أو نماذج للتفاعل الاجتماعي والثقافي والرمزي، وبخاصة الحب والحق والتضامن؛ إذ يكتسب الفردُ وعيه بذاته وهويته، وكيفية تحقيقها، من خلال اعتراف الآخرين. لهذا السبب، يفترض التذاوت دائمًا تجربة الآخر. ومن هنا، لا يمكن تحقيق ذواتنا وهويتنا، من وجهة نظر هونيث، إلا من خلال تجاوز مختلف أشكال نكران الاعتراف والاحتقار والإذلال واللامرئية الاجتماعية، التي تهدّد هويتنا.

من ناحية أخرى، عمل مايكل مدحت، في دراسته "المقاربة النسوية لفكرة الهوية في فلسفة مارثا نوسباوم"، على تحليل مقاربة نوسباوم النسوية لفكرة الهوية واختبارها، مُتوسلًا في ذلك بالمنهجين التحليلي والنقدي. ويُقدّم المحور الأول من الدراسة تيرمنولوجيا للمصطلحات المستخدمة في كتاباتها، بينما يُقدّم المحور الثاني تحليلًا للعلاقة بين فكرة الهوية وما تسميه نوسباوم "مقاربة الإمكانيات"، ثم يأتي المحور الثالث بوصفه مخططًا وصفيًّا لسمات مقاربة الإمكانيات لديها، أما المحور الرابع فهو محاولة لاستكشاف النتائج المترتبة على هذه المقاربة في حالة "الوصم الاجتماعي والشعور بالعار"، وأمّا المحور الخامس فهو بمنزلة نوعٍ من الرؤية النقدية لنسخة نوسباوم من النزعة النسوية ومقاربة الإمكانيات.

إثر ذلك، تناول سري نسيبة، في دراسته "أمارتيا سِن والهوية"، منظور سِن الأساسي القائل إنّ الأشخاص يجب أن يتحكموا في هويّاتهم بدلًا من تركها تتحكم فيهم. وهذا يفترض الحاجة إلى تبديد الوهم القائل إنّ الهويّات معطاة، وإنها لا يمكن أن تتمازج، أو لا يمكن أن يتكامل بعضها مع بعضها الآخر. لكنّ تبديد هذا الوهم يبدد بدوره ما قد يُنظر إليه على أنه صدام حتميّ بين الهويات/ الحضارات، وما ينتج من ذلك من اندلاعٍ للعنف. وتناقش الدراسة عددًا من أفكار سِن التي ترتبط بالعلاقة بين الهوية والعنف، وخطر الهويات المغلقة، ودور الهوية الشخصية والهوية العامة في حياة الأفراد والمجتمعات، وقد ناقشت الدراسة السؤال الآتي: أيولّد العنفُ العنصريةَ أم أنّ العنصرية هي التي تولّده؟

وفي سياق الهوية والعولمة، وردت دراسة حجاج أبو جبر، "هل من مكان للهوية في عالم معولم؟ استكشاف ’الهوية السائلة‘ عند زيغمونت باومان"، وفيها افترض أن خطاب باومان عن الحداثة السائلة يتجاوز الفصل الحاد بين الحداثة وما بعد الحداثة (أو الحداثة والعولمة)، وقد رأى أن الحداثة متتالية واحدة تختلف في درجة الإذابة وحِدَّتها ونطاقها ومداها. وهذا يعني أن مشكلة الهوية إنما هي مشكلة قديمة، لكنها تشهد تحولًا جديدًا في شكلها ومضمونها في زمن العولمة. وسعى الباحث في هذه الدراسة إلى الكشف عن هذا التحول، وذلك من خلال استكشاف أهم الصور المجازية في خطاب باومان المتعلق بالهوية. ويأتي هذا الاستكشاف في محورين أساسيين، هما: الصور المجازية للهوية في الحداثة الصلبة (الحاجّ، والبستاني، والبطل)، والصور المجازية للهوية في الحداثة السائلة (اللاعب، والسائح، والصعلوك).

تضمّن العدد ترجمةً أنجزها زواوي بغورة لدراسة ديفيد سبارتي "الهُويّة وإحراجاتها: من الهُوية الشخصية إلى الاعتراف الاجتماعي" التي بيّنت أنَّ مسألة الهوية تقبل مقاربتين مختلفتين. فبالنسبة إلى الفلاسفة ذوي التوجه التحليلي، فإنّ الهوية يجب أن تتجذَّر في أرضية صلبة مثل الحقيقة المتعلِّقة بالذهن والجسد. وأمّا بالنسبة إلى البنائيِّين، فإنَّ الهوية هي قبل كل شيء نتاج سياق اجتماعي. وتضمّن العدد، أيضًا، ترجمة أخرى أنجزها حجاج أبو جبر لدراسة روب كوڤر "الهوية في زمن الكورونا المضطرب: الأدائية والأزمة والتنقل والأخلاق". وفي هذه الدراسة سعى المؤلف لفهم تلك الأزمة من منظور ثقافي وخِطابي، بوصفها انقطاعًا في المعيارية، واضطرابًا في العلائقية الاجتماعية، وحالة استثناء. وقد استعان بنظريات جوديث بتلر عن الأدائية، من أجل استكشاف تأثيرات ذلك الانقطاع الثقافي في الذاتية الأدائية والهوية والأَنَويَّة؛ إذ يؤدي انقطاع الحركة اليومية المعيارية إلى إعادة تشكيل الذاتية نفسها. وفي الدراسة، أيضًا، استكشاف لتجربة إعادة تشكيل الهوية؛ بوصفها تجربةً جسدية، وساحةً للقلق والكرامة المفقودة. أمّا في القسم الأخير من الدراسة، فقد استخلص المؤلف بعض الاستنتاجات الأولية عن قدرة التحول الثقافي والهوياتي على تجديد أخلاقيات اللاعنف، وأكّد أن الالتزام بضوابط التنقل والاختلاط هو التزام أخلاقي يقتضيه التعايش الحتميّ.

وفي باب "مراجعات الكتب"، وردت مراجعة لكتاب "الهوية بأربعين وجهًا" لداريوش شايغان، أعدّها كمال طيرشي، فضلًا عن مراجعة ثانية لكتاب "الهوية: مطلب الكرامة وسياسات الضغينة" لفرانسيس فوكوياما، أعدّها عبد الله الجسمي.

** تجدون في موقع دورية "تبيّن" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.