بدون عنوان

تواصلت يوم الأحد 12 آذار/ مارس 2023 أعمال الدورة التاسعة لمؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية من خلال محاضرة عامة قدّمها الدكتور ستيفن ويلش، الزميل الفخري في كلية الشؤون الحكومية والدولية بجامعة درهام البريطانية، في موضوع "الديناميات السببية للثقافة السياسية".

ستيفن ولشاستهلّ الباحث محاضرته بالحديث عن الثقافة السياسية والتفسير السببي، طارحًا السؤال الآتي: هل كان يمكن أن تكون الثقافة السياسية مفهومًا سببيًّا. ثم بيّن أنّ بعضهم يصرّ على مفهوم تأويل الثقافة بدلًا من المقاربة السببية. وأشار في هذا الصدد إلى الفيلسوف يوهان هيردر الذي استخدم نقدًا ثقافيًّا سياسيًّا متعلقًا بفكرة التفسير العلمي، ثمّ قدّم مقاربة الأنثروبولوجي الأميركي كليفورد غيرتز للثقافة، التي تبرز أنه من الصعب الكلام على الثقافة من دون ربط الكلام نفسه بالسببية، وأن بعضهم، وإن كان يتجنب السببية (ميشيل فوكو وإدوارد سعيد مثلًا)، فإنهم لم يفلتوا أيضًا من الحديث عن التفسير السببي؛ لأنّ الثقافة السياسية هي في نهاية المطاف مفهوم سببي.

ثم انتقل المحاضر إلى تعريف البحوث والدراسات التي تناولت الثقافة السياسية بوصفها خلفيةً، منطلِقًا في ذلك من غابرييل ألموند، ومفهوم التضمين Embeddedness، الذي يعتبر أنّ الثقافة السياسية ليست رأيًا سياسيًّا، وأنها تختلف عن الرأي العام، وهو ما يخلق مشكلةً في أساليب القياس؛ أي: كيف يمكن أن نقيس هذا الشيء المضمّن؟ وقد عدّ الباحث هذه البحوث المبكّرة التي ظهرت منذ أوائل ستينيات القرن العشرين "الموجة الأولى" من أبحاث الثقافة السياسية، حول الثقافة المدنية والثقافة السياسية والتنمية السياسية، التي أعقبتها "موجة ثانية" لدراسات الثقافة السياسية في السبعينيات، تمثّلت في الدراسات الشيوعية، وكانت الأسئلة المطروحة فيها أساسًا، من قبيل ما يلي: هل يمكن استخدام الثقافة السياسية لدراسة الدول الشيوعية الأوروبية بما في ذلك الاتحاد السوفياتي؟ أينبغي تغيير الحكومات أم تغيير الثقافات؟ وقد تمثل الفرق الرئيس بالنسبة إلى هذه الدراسات بين الثقافة السياسية والأيديولوجية، وارتبطت هذه الحالات بعجزٍ تجريبي، لأنه لا يمكن الانتهاء من الاستطلاعات في عدة أماكن؛ كالاتحاد السوفياتي على سبيل المثال. ثم انتقل الباحث إلى عرض دراسات علاقة الثقافة السياسية بالتغيير السياسي، مع رونالد إنغلهارت مثلًا، في كتابه الثورة الصامتة The Silent Revolution (1977)، الذي كان دراسةً استقصائية عن الثقافة السياسية، واشتمل على ادعاءين اجتماعيين مهمّين: نظرية التنشئة الاجتماعية (تتغير الثقافة السياسية مع التغيير السياسي)، ونظرية التحديث (يمكن أن تتغير الثقافة السياسية ببطء مع تزايد الأجيال في بيئة آمنة ماديًّا).

وقد خصص الباحث القسم الثالث من محاضرته للبحوث التي تناولت السياسة الثقافية بوصفها مقدمةً وليست خلفية. وأشار في هذا الصدد إلى أنه منذ ظهور القيم ما بعد المادية، أصبح السؤال مطروحًا بشأن العلاقة بين الثقافة السياسية والسياسة الثقافية. وبيّن الباحث أيضًا أن إنغلهارت تعامل مع هذا الأمر حين ركّز على السياسة الثقافية الأميركية الغربية، وقدّم، في كتابه الأخير المشترك مع بيبا نوريس عام 2019 رد الفعل الثقافي Cultural Backlash، نظريةً جديدة بشأن رد الفعل الثقافي إزاء المادية التي تخلق بيئةً سياسية أكثر دينامية.

وبالنظر إلى تعقّد مفهوم الثقافية السياسية، واشتماله على العديد من الثنائيات، فقد خصص لها الباحث قسمًا من محاضرته، مفكّكًا أهم الثنائيات الفلسفية التي تحكم تعقيد المفهوم (مستعرضًا إسهامات مايكل بولاني، في الثنائية بين المعرفة المضمّنة والمعرفة المرمّزة، ومارتن هايدغر، ولودفيغ فيتغنشتاين)، والثنائيات في علم الاجتماع (مستعرضًا إسهامات أنتوني غيدينز، وزيمرمان)، والثنائيات في علم النفس الاجتماعي (مستعرضًا إسهامات تيموثي ويلسون، وجوناثان هايدت).

وفي القسم الأخير من محاضرته، ذكر المحاضر، ذو الإسهامات المرجعية في مجال الثقافة السياسية على المستوى الدولي، تحديات أخرى تواجه النظرية الثنائية للثقافة السياسية، وقد قسّمها إلى عنصرين، هما: الممارسة والخطاب. وتشمل الممارسة على قسمين متمثّلين في العادات والمهارات، وهي تستغرق وقتًا للتعلم، وتتغير ببطء، ويمكن أن تصبح تلقائية، ويمكن أن تتكيف مع الإعدادات الجديدة. وعدّ الباحث أنه أثناء النظر إلى هذه المكونات، يمكن شرحُ سبب تغير الأشياء ببطء. أمّا الخطاب، فهو يشتمل على قسمين متمثّلين في التسمية والاعتراف، والقواعد والحسابات. وتتّسم هذه الجوانب بأنها تتغير بسرعة، وأنه يمكن أن تكون لها نقاط تحوُّل، أو ديناميات تشبه ديناميات السوق. ومع ذلك، لا يمكن تغييرها مرة واحدة.

أخيرًا، أجمل الباحث هذه التحديات في تساؤل مثير للانتباه: هل تستحق الثقافة السياسية تنظيرًا؟

 

عن اليوم الأول من المؤتمر