تواصلت أعمال الدورة الرابعة لندوة "تبيُّن"، التي ينظمها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع قسم الفلسفة بجامعة الكويت، بعنوان "فلسفة القانون: مكانتها وإسهاماتها في الفكر الفلسفي العالمي والعربي المعاصر"، في جامعة الكويت. وقد شمل جدول اليوم الثاني ثلاث جلسات عرض خلالها ثلة من الباحثين أوراقا بحثية وناقشوا فحواها مع الحاضرين من باحثين وأساتذة وطلبة.
افتُتحت الجلسة الأولى من اليوم الثاني للندوة، يوم الثلاثاء 23 نيسان/ أبريل 2024، بورقة عنوانها "القانون والعدل والحرية في الفلسفة الاجتماعية"، قدّمها زواوي بغورة، وقد ترأّست الجلسة أنوار أحمد رضا، أستاذة فلسفة القيم في قسم الفلسفة بجامعة الكويت. حاول بغورة في ورقته تقديم قراءة تحليلية ونقدية لمفاهيم القانون والعدل والحرية انطلاقًا من جورج فيلهلم فريدريش هيغل الذي يُعَدُّ مؤسِّسًا لفلسفة القانون الحديثة. وإذا كانت الصلة بين القانون والعدل والمجتمع قائمةً في الفلسفة السياسية منذ أفلاطون، على أقل تقدير، فإنّ طبيعة هذه العلاقة في عصرنا كانت، ولا تزال، موضوعَ دراسةٍ ومناقشة في الميراث الفلسفي الهيغلي السياسي والقانوني، سواء أكان ذلك من جهة بنيتها أم من جهة تاريخها، وبخاصّة ما يترتب عليها من تصوُّر للعدل مقرونًا بالحرية.
ثمّ قدّمت ابتسام برّاج، ورقتها عنوانها "في الصُّلح الهيغيليّ بين الحرية والقانون"، وقد حاولت الباحثة من خلالها مناقشة فلسفة هيغل القانونية، اعتمادًا على منهجٍ تحليليّ نقديّ. ووضحت أنه ظهرت مع هذه الفلسفة، أوّل مرّة، الأطروحة المتمثلة في أن القانون ليس تقييدًا للحرية الإنسانية، بل تجسيدٌ لها؛ إذ ليس القانون عند هيغل نظامًا قَبْليًّا، من الأوامر والنواهي، يُفرض على الفرد قسرًا وإلزامًا، بل إنّ قانون الدولة هو نظامٌ حيٌّ نشبت فيه الحياة مُذْ بدأ العقل رحلته عبر التاريخ في طفولته؛ إذ كان القانون فكرةً مجردةً غير مجسدة. وبتعبيرٍ هيغيليّ أدق، كان مجرد فكرةٍ في ذاتها لم تتعيّن بعدُ في شكلٍ اجتماعيّ حتى يُحكم عليها بالتعارض مع الحرية أو التوافق معها. ثم أتى على ذلك النظام حينٌ عصيبٌ من الدهر سِمته التناقض، وقد نُظر فيه إلى القانون على أنه إلزامٌ وقهرٌ وإخضاعٌ لحريات الأفراد، وتناسلت دعواتٌ متطرّفةٌ لإسقاط القانون نفسِه دفاعًا عن الحرية الفردية.
ومن خلال ورقة عنوانها "إلى أي حد يجوز إدماج القيم الاجتماعية في التشريع القانوني من زاوية فلسفة القانون؟ دراسة في أعمال ستراوسن ونويبوم"، درس عز العرب لحكيم بناني آليات تحقيق الإنصاف استنادًا إلى الفقه الجنائي في الفلسفة والقانون. وقد توقّف الباحث عند الإنصاف بين المفاهيم الأخلاقية الاجتماعية والمفاهيم الجنائية من موقع الفلسفة التحليلية، وعند أخلاق الحمد وأخلاق الذمِّ كما طورها بيتر ستراوسن؛ وهي ردود الأفعال المستهجنة أو المستحسنة. وفحص مدى الوجاهة المعيارية التي يفترضها الاحتكام إلى القيم الاجتماعية، ومدى صلاحية القيم في تأسيس القانون الجنائي. وهذا ما دفع فلاسفة القانون إلى تحويل إشكالية التنظيم القانوني لمواضيع الاستهجان أو الاشمئزاز أو الاستنكار إلى موضوع فلسفي بامتياز.
أما الجلسة الثانية، فترأّستها شيخة الجاسم، أستاذة الميتافيزيقا في قسم الفلسفة في جامعة الكويت. وقدّم فيها الباحثان بالمركز العربي عمر المغربي ومجد أبو عامر ورقة عنوانها "حقوق الإنسان في عصر ما بعد ليبرالي: محاولة تفكير مع نوربيرتو بوبيو". وقد حاول الباحثان استكشاف إمكانات الحفاظ على المُكتسبات الأخلاقية لحقوق الإنسان في ظل التنامي المستمر للخطابات الشعبوية والمعادية لليبرالية من جهة، وممارسات المؤسسات المعنية بالحفاظ على حقوق الإنسان المتناقضة مع خطابها من جهة أخرى، وذلك من خلال مراجعة مداخلة الفيلسوف الإيطالي بوبيو المتعلقة بحقوق الإنسان وفلسفة القانون، المبثوثة في أكثر من كتاب، والتي توفّر أساسًا يُمكن البناء عليه لرفع اللبس عن صور التناقض والظلم التي لحقت بـخطاب حقوق الإنسان.
وشارك نذير المومني، بورقة عنوانها "الكرامة الإنسانية بوصفها قيمة دستورية من منظور فلسفة القانون الدستوري: مداخل نظرية ودراسة حالة"، وارتكزت ورقته على ثلاثة محاور أساسية: أولها يتعلق بتحليل ما يترتب على وضع الكرامة الإنسانية بوصفها قيمة دستورية من رهانات استدلالية وتأويلية، داخل المنظومة المعيارية الوطنية، وذلك باستثمار الأعمال النظرية الدستورية المشار إلى بعضها من قبل، وثانيها يتعلق بدراسة "الممكن التأويلي" المرتبط بقيمة الكرامة الإنسانية انطلاقًا من نص الدستور النافذ، أما ثالثها فهو في موضوع استراتيجيات الاستدلال والتأويل المستعملة من جانب القضاء الدستوري المغربي، بشأن استثمار الكرامة الإنسانية بوصفها قيمة. وقد عقبت هذه المحاورَ الثلاثة خلاصاتٌ تركيبية.
أما الجلسة الثالثة، فترأّسها الدكتور حيدر سعيد، الباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وقدّم فيها الباحث رجا بهلول، ورقة عنوانها "ما طبيعة القانون الطبيعي؟ وقد انطلق الباحث في ورقته من التفريق الذي تبلور في الفكر اليوناني القديم بين القوانين التي يصنعها البشر في مجتمعاتهم المختلفة "كلّ على هواه"، والقوانين ذات المصدر الإلهي، أو تلك التي يشهد العقل بصحتها (وهذا ما استقر عليه المصطلح في نهاية الأمر)، أو قوانين الطبيعة (القانون الطبيعي). اقترن هذا التمييز بين قوانين البشر وقوانين الطبيعة بتمييز أخلاقي بين قوانين تتسم بـأنها عرَضية، وأنها قد تتعارض مع المبادئ الأخلاقية من جهة، وقوانين تشترط العدل في المعاملات بين الناس وتسعى لتحقيق ما فيه خير لهم من جهة أخرى. ومنذ وقت مبكر، نظر مفكرون كثيرون إلى القانون الطبيعي كالقانون الأخلاقي العادل الذي ينطبق على جميع الناس، بغضّ النظر عن ثقافتهم وأساليب عيشهم، في حين أنهم نظروا إلى القوانين المختلفة التي يصنعها البشر على أنها قوانين عرَضية يعتورها النقصان.
وشارك محمود سيد أحمد، بورقة عنوانها "العلاقة بين الأخلاق والقانون لدى كانط"، وفيها حاول تبيين أوجه الاتفاق بين الأخلاق والقانون، ثم أوجه الاختلاف بينهما لدى الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط. وقد حاول الإجابة عن هذه الأسئلة: هل ثمة تقاطع بين الأخلاق والقانون؟ أيهما يسبق الآخر منطقيًّا؟ أيهما يُقدّم الأساس للآخر؟ ثم اختتم الباحث ورقته ببيان مواقف بعض الفلاسفة المعاصرين من العلاقة بين الأخلاق والقانون، مع التركيز على مواقفهم من كانط، وقد كان ذلك خاصّة من خلال يورغن هابرماس.