العنوان هنا
أوراق استراتيجية 17 أغسطس ، 2020

تصاعد الفاعلية القتالية للتنظيمات المسلحة في العالم العربي وخارجه

عمر عاشور

أستاذ مشارك في الدراسات الأمنية والاستراتيجية، ومؤسس ورئيس برنامج الماجستير في الدراسات الأمنية النقدية بمعهد الدوحة للدراسات العليا. وهو مؤلف كتاب تحولات الحركات الإسلامية المسلحة (روتلدج، 2009) وكيف يقاتل تنظيم الدولة: التكتيكات العسكرية في العراق وسورية وليبيا ومصر (ادنبره وأكسفورد، 2020). عَمِل أستاذًا في جامعة اكستر (المملكة المتحدة) لعشر سنوات وفي جامعة ماكجيل (كندا) لعامين. وخدم كمستشار أول في الأمم المتحدة لشؤون إصلاح القطاع الأمني ومكافحة الإرهاب والتطرف العنيف.

مقدمة

تشهد القدرات العسكرية والأدوار السياسية للتنظيمات المسلّحة غير النظامية[1] زيادةً مُطّردةً منذ الربع الأخير من القرن العشرين، متحدّية الهيمنة التقليدية للمؤسسات المسلّحة النظامية[2] في مجال احتكار العنف. وخلصت الكثير من الأدبيات التي تتناول الدراسات الأمنية والعسكرية والاستراتيجية إلى وجود زيادة مُطّردة في انتصارات التنظيمات المسلّحة غير النظامية على مؤسسات مسلّحة نظامية أقوى منها، على الأقل نظريًا، أو إلى عجز جيوش نظامية عن إلحاق الهزيمة بميليشيات غير نظامية أقلّ منها عددًا وعدةً وعتادًا بكثير[3].

يمثّل ما تقدّم تغيّرًا في الأنماط التاريخية؛ إذ خلصت قاعدة بيانات عاينت 286 حالة تمرّد بين عامَي 1800 و2005 إلى أنّ القوات العسكرية النظامية لم تنتصر إلا في 25 في المئة فقط من الحالات بين عامَي 1976 و2005، في مقابل انتصار جيوش حكومية على ميليشيات متمردة غير نظامية في 90 في المئة من الحالات بين عامَي 1826 و1850[4]. وأظهرت دراسات أخرى نتائج مشابهة[5]. وعلى العموم، فإن النتائج متّسقة، بصرف النظر عن قواعد البيانات والمنهجية المستخدَمة، وعن الإطار الزمني المدروس؛ أي إنّ التنظيمات المسلّحة غيّرت اتجاهًا تاريخيًا مفاده أنّ المؤسسات النظامية أقدر على إنزال الهزيمة بتنظيمات مسلّحة غير نظامية في ميدان المعركة. ويسري هذا التغير في الاتجاه التاريخي على تنظيمات مسلّحة شديدة التباين؛ بدءًا من "القوّات المسلّحة الثورية الكولومبية – جيش الشعب" (فارك-إب) في كولومبيا، مرورًا بالميليشيات الانفصالية في أوكرانيا وجورجيا وغيرهما، وانتهاءً بحركة طالبان في أفغانستان. وفي العالم العربي، تواجه مؤسسات الدولة المسلّحة وغير المسلحة إشكاليات وتحدّيات مختلفة بدرجات متفاوتة ناجمة عن "الولايات" التابعة لـ "تنظيم الدولة الإسلامية" (أو ما يُعرف بـ "داعش")، وجماعة أنصار الله (المعروفة بالحوثيين) في اليمن، وبعض مكوّنات الحشد الشعبي ووحدات البيشمركة في العراق، وهيئة تحرير الشام ووحدات حماية الشعب في سورية، وحزب الله في لبنان، وتنظيمات مسلّحة منوّعة في ليبيا والسودان وغيرهما. تمتلك التنظيمات المسلّحة المذكورة آنفًا قدرات قتالية ونفوذًا سياسيًا كان يقتصر في ما مضى على مؤسسات الدولة النظامية. إلّا أنّ الثنائية العدائية للدولة والتنظيمات المسلّحة دون الدولة لا تُظهر الصورة الكاملة. فالثنائية لا توضح تفصيلات العلاقات المعقّدة بين التنظيمات المسلحة والدول (مثل درجات العداء، والتنافس، وتقاطع/ تضارب المصالح، والتحالف/ الشراكة، والموالاة، والوكالة، والتابع الرسمي/ القانوني)؛ إذ توجد حالات كثيرة تقع في "المنطقة الرمادية" (ما بين درجات التنافس والموالاة)، كما توجد جملة من العوامل – مثل الفاعلية القتالية للتنظيمات المسلّحة – دفعت عشرات المؤسسات المسلّحة النظامية إلى إقامة تحالفات وشراكات مع تلك التنظيمات لمحاربة أعداء مشتركين (منهم دول وتنظيمات دون الدولة على السواء). وربّما يكون أشهر هذه التحالفات والشراكات وتقاطعات المصالح العلاقاتِ بين قوّات سورية الديمقراطية والولايات المتحدة في سورية، وبين قوّات نوفوروسيا المسلّحة المتحدة وروسيا الاتحادية، وحزب الله وإيران، والجيش الوطني السوري وتركيا، وميليشيات المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن و"الجيش الوطني الليبي" من جهة، ودولة الإمارات العربية المتحدة من جهة أخرى، وغيرها الكثير من الأمثلة.

تثير انتصارات التنظيمات المسلّحة، و/ أو عجز المؤسسات النظامية المسلّحة عن هزيمتها، والتحالفات العملياتية والاستراتيجية بين هذه التنظيمات والدول، إضافة إلى التطوّرات التكتيكية في القدرات القتالية، جملةً من الأسئلة البحثية المهمة: كيف حدثت هذه الثورة في الأداء القتالي والأدوار السياسية؟ ولماذا حدثت؟ وما هي التداعيات الاستراتيجية لمثل هذا المسار في منطقة الخليج والعالم العربي والغرب وسائر مناطق العالم؟ وكيف سيؤثّر هذا المسار في نتائج الحروب الهجينة في العالم العربي وغيره؟ وما هي انعكاسات ذلك على الاستقرار والإصلاحات وترسيخ الديمقراطية في المنطقة العربية؟

جرت معالجة بعض هذه الأسئلة وغيرها ومناقشتها في المؤتمر السنوي الثاني لوحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بعنوان "ميليشيات وجيوش: تطوّرات الأداء القتالي والسياسي للحركات والمؤسّسات المسلّحة"، في مقر المركز بالدوحة، وقد ناقش فيه الباحثون والممارسون الموضوعات الرئيسة في سبع جلسات، ركّزت على التنظيمات المسلّحة المُزعزِعة للوضع القائم، والتنظيمات المسلّحة من غير الدول المُثبّتة للوضع القائم، والحرب الهجينة والتدخّلات الأجنبية، وحالات تحوّل الميليشيات إلى جيوش، وحالات تحوّل الجيوش إلى ميليشيات، والتطوّرات في مجال القدرات التكتيكية. وغطّت جلسات المؤتمر ما يفوق 30 تنظيمًا مسلّحًا غير نظامي ومؤسسة مسلّحة حكومية في أكثر من 20 دولة. وسيُصدر المركز العربي عددًا محدّدًا من أوراق المؤتمر في كتاب، وستنشر وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي أوراقًا أخرى. وسيُركّز الكتاب جزئيًا على تطور الأداء القتالي للتنظيمات المسلّحة من غير الدول والتداعيات الاستراتيجية لذلك التطوّر، كما سيركز على عمليات تغير الطابع المركزي والمؤسسي للجيوش وتحوّلها إلى ميليشيات، وتحوّل ميليشيات إلى وحدات رسمية في جيوش الدول.

تقدّم هذه الورقة الاستراتيجية عرضًا إطاريًا عامًّا يُفسّر الصعود العسكري للتنظيمات المسلّحة من غير الدول، ويقدّم عرضًا تحليليًا لهذه الظاهرة والأدبيات التي تشرحها. وتعرض دراسات لحالات تجريبية مختارة وتتناول بعض تداعياتها. وتتألّف الدراسة من ثلاثة محاور. فالمحور الأول يُبيّن، في إيجاز، إطارًا معتمدًا على أدبيات تشرح تطوّر الأداء القتالي للتنظيمات المسلّحة دون الدولة. في حين يناقش المحور الثاني بعض أبرز دراسات الحالة لهذه التنظيمات ذات الفاعلية القتالية العالية. ويقدّم المحور الأخير ملاحظات بشأن الأجندات المستقبلية للأبحاث.

وللتركيز على تطورات الأداء القتالي، لا تتناول الورقة الانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان – بعضها يصل إلى جرائم ضد الإنسانية ومحاولات إبادة جماعية ممنهجة - التي ارتكبتها التنظيمات المذكورة أدناه، كما لا تحلل الورقة أيديولوجيات وخطابات وسلوكيات التطرف العنيف والطائفية والانفصالية والإثنو-قومية التي تتبناها تلك التنظيمات، وآثارها التدميرية على التماسك الاجتماعي والسِلم الأهلي والإصلاح السياسي-الاجتماعي والانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية وخارجها[6]. ولكن ينبغي التذكير هنا أن كل هذه التنظيمات إما استخدمت أو ما زالت تستخدم تكتيكات الإرهاب، بهدف الترويع للضغط السياسي أو بهدف القتل الجماعي أو الاثنين معاً، وهو ماله آثار عسكرية وغير عسكرية.



[1] أي التنظيمات المسلحة غير التابعة لدولة، إما بوصفها أمرًا واقعًا de facto أو غير دستوري/ قانوني de jure.

[2] أي المؤسسات المسلحة الحكومية/ التابعة رسميًا لدولة. هذه الثنائية (تابع مقابل غير تابع للدولة) بالغة التبسيط، ولا توضح تفصيلات العلاقات المعقدة بين التنظيمات المسلحة والدول (مثل درجات العداء، والتنافس، وتقاطع المصالح، والتحالف/ الشراكة، والموالاة، والوكالة، والتابع الرسمي). وتوجد حالات كثيرة تقع في "المنطقة الرمادية" (ما بين درجات التنافس والموالاة) كما هو موضّح أدناه.

[3] Omar Ashour, How ISIS Fights: Military Tactics in Iraq, Syria, Libya and Egypt (Edinburgh: Edinburgh University Press, forthcoming in 2020);

عمر عاشور، "كيف تُقاتِل ’ولاية سيناء‘؟ تحليل سياسي عسكري للأزمة السيناوية"، سياسات عربية، العدد 33 (تموز/ يوليو 2018)، ص 7-21؛ ينظر أيضًا وقائع المؤتمر السنوي لوحدة الدراسات الاستراتيجية بعنوان "ميليشيات وجيوش: تطوّرات الأداء القتالي والسياسي للحركات والمؤسّسات المسلّحة"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 24/2/2020، شوهد في 9/8/2020، في: https://bit.ly/31ysCX6

[4] J. Lyall & I. Wilson, “Rage against the Machines: Explaining Outcomes in Counterinsurgency Wars,” International Organization, vol. 63, no. 1 (2009), pp. 67-106.

[5] B. Connable & M.C. Libicki, How Insurgencies End (Arlington: Rand Publications, 2010).

[6] كمثال يمكن مراجعة: عزمي بشارة، تنظيم الدولة المكنى "داعش". ج 1: إطار عام ومساهمة نقدية في فهم الظاهرة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص 46-60؛ عزمي بشارة، الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة (الدوحة/ بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، ص458-452.