العنوان هنا
تقييم حالة 09 أكتوبر ، 2021

مقاطعة الانتخابات في العراق: استراتيجية فعّالة أم خطأ استراتيجي؟

زينب شكر

أستاذة مساعدة في قسم علم الاجتماع في جامعة سام هيوستن ستيت بالولايات المتحدة الأميركية. حاصلة على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة كاليفورنيا في ريفرسايد. تتركز اهتماماتها البحثية على نظريات الدمقرطة، وعدم المساواة الاقتصادية والتنمية الاقتصادية، والهجرة والنزوح، واقتصاديات النفط، وتغير المناخ وقطاع الطاقة، وحقوق الإنسان. لها العديد من البحوث العلمية المحكمة المنشورة في دوريات عالمية، آخرها بحث مشترك مع سيث أبروتين، بعنوان: “Oil, Polity, and Civil Society: The Construction of a Hegemonic System in Iraq (1945-1958),” Journal of Historical Sociology, vol. 32, no. 4 (2019).

مع توجّه العراقيين الى صناديق الاقتراع، يوم 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، طالبت جماعات مختلفة - لا سيما تلك المرتبطة والمنبثقة من حركة الاحتجاجات التي شهدتها البلاد في تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وكذلك الملايين من الشباب المُحبطين والمواطنين المحرومين - بمقاطعة الانتخابات، أو أعربوا عن نيّتهم مقاطعتها. وهنا، ينبثق سؤال مهم: أتشكّل مقاطعة الانتخابات استراتيجية فعّالة في العراق، أم تمثل إضاعة لفرصة مهمة للتغيير؟

تزامنت نهاية الحرب الباردة مع صعود ما بات يُعرَف في العلوم السياسية بـ "الأنظمة الهجينة" Hybrid Regime في أوروبا الشرقية وأميركا اللاتينية وأفريقيا؛ وهي الأنظمة التي تجمع سمات أوتوقراطية وديمقراطية في الوقت نفسه، وباتت تشكّل نمط الأنظمة الأكثر انتشارًا في العالم، مع نهاية القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين. في هذه الأنظمة، أصبحت مقاطعة الانتخابات أداة مألوفة، تعتمدها المعارضة السياسية والاحتجاجات؛ إذ تكون الانتخابات الحرّة أو شبه الحرّة أداة تتنامى قيمتها بالنسبة إلى الأحزاب المعارضة في سعيها للتمثيل السياسي. وقد أصبحت الانتخابات، أيضًا، أداة أساسية للقادة السياسيين، تتيح لهم "ممارسةً ديمقراطية"، يُرضون بها مواطنيهم، وتُكسبهم دعمَ المجتمع الدولي ليحظوا بتأييده. وقد أدّت زيادة عدد الانتخابات المتنازع عليها إلى زيادة عدد قرارات المقاطعة. ففي عام 1989، تمّت مقاطعة 4 في المئة فحسب، من مجموع الانتخابات التي جرتْ في أنحاء العالم كلّها. وارتفع هذا الرقم إلى 15 في المئة في عام 2002، في حين أنه بين العاميْن 1995 و2004، جرتْ مقاطعة ما متوسّطه 10 انتخابات في السنة.[1]

يكمن هدف أغلبية استراتيجيات المقاطعة هذه في تحقيق مزيج من تكافؤ الفرص للأحزاب السياسية الحاكمة، ونزع الشرعية عن العملية السياسية المُعيبة، وإثارة الاهتمام الدولي بالممارسات الاحتيالية لدى النخب الحاكمة. ويرى العديد من الحكّام الأوتوقراطيين الإصلاحيين أن اعتراف المجتمع الدولي بالانتخابات التي يجرونها (ومن ثم، الاعتراف بديمقراطية قيادتهم) هو خطوة مهمّة لتحقيق الشرعية، وتوفير الاستقرار، وحماية سلطتهم الحالية ضد تمرّد مواطنيهم وعصيانهم. وترى أستاذة العلوم السياسية في جامعة بيركلي والباحثة في شؤون الحوكمة وتعزيز الديمقراطية والانتخابات، سوزان دايتون هايد[2]، أن هؤلاء الحكّام يسعون لحماية أنفسهم من العقوبات الاقتصادية والسياسية التي قد يفرضها المجتمع الدولي. ولتحقيق ذلك، يلجؤون إلى الدعوة لإجراء رصد دولي للانتخابات، حتى أمستْ هذه الممارسة هي القاعدة في العديد من البلدان النامية. وغالبًا ما تهدّد المعارضة السياسية بمقاطعة الانتخابات، مستفيدةً من هذه الممارسات؛ لجذب اهتمام الجمهور على الصعيد الدولي.[3] وبتهديدهم هذا، لا يقوّض زعماءُ المعارضة مزاعم الحكّام أمام أنصارهم بأن الانتخابات حرّة فحسب (ومن ثم، أن البلد ديمقراطي)، بل إنهم يقوّضون أيضًا شرعية النخب بالنسبة إلى المجتمع الدولي.

ومع ذلك، يبقى سؤال الفعالية قائمًا: هل مقاطعة الانتخابات فعّالة؟ سواء أكان هدف الجماعات المعارضة من ذلك فرض إصلاحات في نظام سياسي[4] غير عادل وغير حرّ[5]؟ أم هدفها حفظ ماء الوجه لكون قادتها[6] يعلمون أنه من غير المرجّح فوزهم في الانتخابات[7]؟

ولأجل تحديد فاعلية مقاطعة الانتخابات، يجب أن تؤخذ في الحسبان بعض الاعتبارات؛ فعلى سبيل المثال، من غير المرجّح أن تؤدّي مقاطعة بسيطة، تمثّل حزبًا واحدًا أو مجموعات قليلة تنتمي إلى فئة عرقية أو إثنية أو قَبَلية أو أيديولوجية معيّنة، إلى تحقيق النتيجة المرجوّة على الصعيديْن الوطني والدولي، مثلما حدث في الانتخابات الباكستانية عام 1993، التي قاطعتها الحركة القومية المهاجرة[8]، أو قرار الطائفة السنّية بعدم المشاركة في الانتخابات العراقية في كانون الثاني/ يناير 2005، الذي يُعدّ كارثة استراتيجية تاريخية في حقبة ما بعد صدام حسين. فهذه الأحزاب تمثّل (أو تدّعي تمثيل) التوجّهات الإثنية أو القَبَلية أو الأيديولوجية، من التي لا تمثّل أغلبية سكّان البلاد، في حين أن حركات المقاطعة، التي تمثّل الأغلبية، تكون أكثر فاعلية، حتى وإن أطلقها حزب رئيس واحد أو عدّة أحزاب معارضة (كما جرى في الانتخابات الغانية عام 1992).

ومن ثم، تؤدّي قوّة المعارضة وحجمها، والدعم الذي تلقاه قياسًا على الدعم الذي يلقاه المسؤولون، دورًا حيويًا في تحديد فعالية عملية المقاطعة[9].

ومن جهة أخرى، تتجاوز عمليةُ مقاطعة الانتخابات قوّةَ المعارضة لتزداد فاعلية، في حال شاركت أغلبية أحزاب المعارضة في العمل السياسي، بغض النظر عن مستوى قوة المعارضة، مقارنةً بنفوذ من يمسك بزمام السلطة. فعلى سبيل المثال، إذا توحّدت 90 في المئة من المعارضة في عمل سياسي محدّد (وليكن مقاطعة الانتخابات)، فمن المرجّح أن يكون هذا العمل السياسي ناجحًا.

وتُعَدّ مقاطعة الانتخابات، في جوهرها، فعلَ مقاومة سياسية، غالبًا ما تكون مقرونة بمطالب تنادي بتغيير السياسات وبدعوة لإجراء انتخابات أكثر نزاهة، ولتحقيق المساءلة. ومن ثم، هناك اعتبار آخر يجب مراعاته في تقويم فاعلية مقاطعة الانتخابات؛ وهو مدى توافر أجندة سياسية ذات مطالب محدّدة وخطوات لتحقيق هذه المطالب. وتشكّل الانتخابات المصرية، التي جرت عام 1990، مثالًا ناجحًا لاستراتيجية مقاطعة مماثلة؛ إذ قاطع حينها حزب الوفد الجديد وحزب العمل الاشتراكي والإخوان المسلمون الانتخابات.

إن الامتناع عن التصويت، بسبب عدم المبالاة أو نتيجة عدم الإيمان بأن النظام السياسي قد يتغيّر، لا يزال يُعَدّ عملًا سياسيًا. ومع أنه قد يؤدي إلى انخفاض في معدّل المشاركة في الانتخابات، فإنه لا يتزامن، في أغلبية الأحيان، مع وجود أجندة سياسية، في حين أن بيانًا سياسيًا واحدًا قد يقوّض شرعية العملية الانتخابية وشرعية الحكومة. ومع ذلك، تبقى هذه الخطوة محدودة، ولا تترك تأثيرًا سياسيًا بيّنًا، إذا لم تقدّم بدائل.

فيما يخص الانتخابات العراقية، قوّضت الهويّاتُ المتصدّعة، ولسنوات عديدة، التقدّمَ الاقتصادي وشرعيةَ جهاز الدولة، إضافة إلى إقامة الدويلات ضمن الدولة، والتدخّل الإقليمي والدولي في الشؤون الداخلية، وكل ذلك في إطار اقتصاد غير متنوّع والاعتماد على عائدات النفط فقط. لقد تسبّب هذا التدهور الاقتصادي والسياسي في النزاعات وعدم الاستقرار، وساهم في اندلاع واحدة من كبرى الانتفاضات الاجتماعية والسياسية في البلاد عام 2019. وتحوّلت انتفاضة 1 تشرين الأول/ أكتوبر التي عمّت جميع أنحاء البلاد، إلى حركة لامركزية مناهضة للنخب السياسية الموالية لإيران، إضافة إلى طرحها قضايا أخرى مثل البطالة ورداءة الخدمات العامة والفساد المستشري. فأدّت الاحتجاجات غير المسبوقة إلى استقالة رئيس الوزراء آنذاك، عادل عبد المهدي، في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر، وتعيين رئيس الوزراء الحالي، مصطفى الكاظمي، الذي تعهّد بأن تشمل خططُ حكومته الانتقالية مطالبَ المحتجّين. واستجابةً منه لمطالب المحتجين وتعهّده بتنظيم انتخابات برلمانية مبكرة وسنّ قانون انتخابي جديد، حدّد الكاظمي 6 حزيران/ يونيو 2021 موعدًا للانتخابات التشريعية المبكرة، وجرى تأجيلها لاحقًا إلى 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2021.

إلا انه لم يتغيّر الكثير على أرض الواقع، في ما يتعلّق بالأوضاع الاقتصادية والسياسية للبلاد. ولم تتحسّن مستويات البطالة والفقر إلا بنسب طفيفة؛ بسبب ارتفاع أسعار النفط في مرحلة ما بعد تفشّي جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، لا بسبب سياسة اقتصادية فعلية أو أي تغيير طرأ. ولا تحظى استراتيجية الإصلاح الاقتصادي الجديدة التي قدّمتها حكومة الكاظمي، بمباركة البنك الدولي، وعُرفت بـ "الورقة البيضاء"، إلا بفرصة محدودة لإحداث أثر دائم في الاقتصاد العراقي؛ نظرًا إلى المسائل البنيوية الأساسية التي تشلّ البلاد. أما على المستوى السياسي، فقد فشلت حكومة الكاظمي في تقديم المسؤولين عن مقتل ما يقارب 600 متظاهر للعدالة، ولم تكن قادرة على السيطرة على الجماعات شبه العسكرية.Paramilitary Groups وفشلت أيضًا في وضع حدّ للانتهاكات المستمرّة لحقوق الإنسان، بما تشمله من قمع الناشطين والمثقفين والصحافيين العراقيين واغتيالهم. وفي أعقاب اغتيال الناشط السياسي، إيهاب الوزني، في كربلاء في مطلع أيار/ مايو 2021، أعلنتْ مجموعة من الأطراف السياسية الفاعلة المرتبطة بانتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر أنها ستقاطع الانتخابات النيابية المبكرة.

صحيح أن الانتخابات هي آلية ديمقراطية لا غنى عنها، كما يرى العديد من زعماء المعارضة، إلا أن الانتخابات الحالية ليست حرّة ولا نزيهة. ذلك أن الحكومة لن تستطيع تنظيم عملية إجراء انتخابات نزيهة وحرّة أو ضمان إجرائها، وهي التي فشلت مرارًا في تقديم قتلة المتظاهرين والناشطين للمحاكمة، ولا تستطيع ضبط النفوذ بعيد المدى لمختلف المجموعات شبه العسكرية العاملة خارج إطار جهاز الدولة. في الواقع، فإن هذه الانتخابات التي تُعدّ خطوة تسعى لتلبية مطالب المحتجين، لن تُكسِب النُخب الحاكمة، وحكومة الكاظمي بخاصّة، إلا شرعية إضافية. وفي المثال الكلاسيكي للدولة الهجينة، تستخدم النخب الانتخابات بوصفها آلية ديمقراطية أساسية لإضفاء الشرعية على حكمها وعلى مكانتها تجاه المجتمع الدولي، في حين أنه، في الوقت نفسه، تبدو الانتخابات الموثوقة والآمنة والتنافسية والنزيهة محدودة أو غير ممكنة؛ بسبب السمات غير الديمقراطية الأخرى التي تنعم بها الدولة الهجينة، مثل وجود هيئات وصاية. وفي الوقت الذي تجري فيه مناقشة جدوى مقاطعة الانتخابات في البلدان التي تتمتع بأهمية جيوسياسية رئيسة، مثل العراق، قد تبدو مقاطعة الانتخابات أو التهديد بمقاطعتها فعّالة للغاية لأنها قد تثير اهتمامًا دوليًا. ومن الأمثلة على ذلك انتخابات 1994 التاريخية في جنوب إفريقيا، الأولى في حقبة ما بعد نظام الفصل العنصري، والانتخابات الأولى التي جرت بعد اتفاق دايتون للسلام في البوسنة (1995).

وبهذا المعنى، فإن مقاطعة الانتخابات لا تكتفي بتسليط الضوء على افتقار النظام إلى الشرعية تجاه المجتمع الدولي فحسب، بل توعز أيضًا إلى النخب السياسية بأن شرعيتها التي تحظى بها بواسطة السكّان باتت مهدّدة. ومع ذلك، لن تخشى النخب السياسية انهيار النظام، إلا إذا كان التهديد بشرعيتها بلغ مستوى خطيرًا، ليس من ناحية حجم الجماهير المقاطعة وقوتها فحسب، وإنما أيضًا من ناحية وجود مشروع سياسي اجتماعي واقتصادي بديل. ومن دون هكذا تهديد، حتى لو خسر الزعيم السياسي الفرد السلطةَ في تلك اللحظة بالذات، فمن غير المرجّح أن تواجه النخب السياسية العديد من العواقب، وقد تسعى لاسترجاع موقعها في السلطة. ورئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، مثال على تلك الحالة، وهو أحد أكثر رؤساء الوزراء إثارة للجدل في عراق ما بعد عام 2003؛ فهو يسعى لاستعادة السلطة خلال الانتخابات الحالية. علاوة على ذلك، فإن المشاركة المتدنّية في الانتخابات لن تؤدي إلا إلى تفاقم ضعف الدولة العراقية، ومن شأنها أن تقوّض شرعيتها. ولكن هل تستطيع زعزعة شرعية الجهات الفاعلة خارج إطار الدولة؟ ومن ثمّ، كي تكون مقاطعة الانتخابات فعّالة، يجب تشكيل جبهة معارضة موحّدة تحمل مشروعًا سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا واضحًا.

وعلى الرغم من أهمية انتفاضة تشرين، المماثلة بأهميتها لحركات المعارضة السابقة في البلاد في مرحلة ما بعد عام 2003، لم ينشأ بعد حزب سياسي موحّد يتبنّى أجندة سياسية واضحة. ففي الواقع، غالبًا ما تتشكّل المعارضة السياسية في العراق من خلال "مطالب الخدمات" بدلًا من "المطالب الأيديولوجية". وهذا يعني أنه عندما تنزل أغلبية الناس إلى الشوارع، فإنها غالبًا ما تكون مدفوعة بقضايا مرتبطة بالخدمات، مثل انقطاع الكهرباء أو ارتفاع مستويات البطالة والفقر، بدلًا من أن يكون دافعُ احتجاجها رفضَها للطبيعة الأساسية للنظام الاقتصادي والسياسي. حتى عندما تتشكّل مجموعات معارضة مختلفة، نادرًا ما يكون لديها أجندة سياسية واقتصادية واضحة، تشكّل بديلًا للنظام الحالي القائم؛ كما أنها لا تتحدّى بصدق التشكيلات الراسخة للهويات والولاءات المرتبطة بمختلف الجماعات القبلية والدينية والعرقية. وفي الحصيلة، تقتصر المعارضة السياسية في العراق على المطالبة بتغيير القادة السياسيين – وهم الوجه المرئي للنظام – بدلًا من المطالبة بمشروع سياسي واقتصادي بديل أو طرحه. صحيح أن الجماعات المعارضة هتفَت ضد النخب السياسية المدعومة من إيران، وطالبتْ بتمثيل سياسي علماني، إلا أنه لا يزال من غير الواضح كيف ومتى سيحدث هذا التحوّل السياسي والاجتماعي.

وفي الواقع، لا يشكّل النظام الاقتصادي والسياسي الفاسد في البلاد انعكاسًا فقط للقادة السياسيين الفاسدين، الذين استخدموا دائمًا هذه الهويات المتصدّعة بوصفها سلاحًا يشهرونه دفاعًا عن مكاسبهم، بل إن هذا النظام يتشكّل في جوهره من التبعية الريعية، التي توفّر له الشروط المثالية للحفاظ على نفسه. إنه ينتج عقدًا اجتماعيًا بين مختلف الجماعات السياسية والمواطنين؛ ما يتيح لهذه الجماعات إنشاء شرعية خاصة بها ويسمح لها بالحفاظ عليها، ما دام سعر برميل النفط مرتفعًا بالقدر الكافي. وفضلًا عما سبق، يحدّ هذا العقد الاجتماعي من الحوافز لدى أي جماعة سياسية، التي تحثها على طرح سياسة اقتصادية بديلة، على الرغم من فشل عملية الاعتماد على النفط في تلبية الاحتياجات المجتمعية؛ إذ ارتفعت مستويات الفقر منذ عام 2003، من 11.6 في المئة عام 2011 إلى 35 في المئة عام 2017. وغالبًا ما تستفيد النخب السياسية من الموارد النفطية لتمويل عملياتها ولشراء الأصوات وكسب الشرعية. ونتيجة لذلك، فإن غياب نظام فعّال للضرائب والجبايات، والذي قد ينشئ نظامًا للمساومة والمساءلة، ليس مسألة موروثة فحسب، بل مسألة يجري الحفاظ عليها، عن سبق إصرار وتصميم. وسيكون من الصعب كسر دائرة لعنة الموارد والخلل السياسي من دون استراتيجية اقتصادية بديلة تطرحها المعارضة السياسية. وفي الوقت الذي ترتفع أسعار النفط مجدّدًا، من المرجّح أن تستفيد النخب السياسية الحالية من هذا الطفرة في الإيرادات لإعادة تأسيس شرعيتها وتثبيت سلطتها، بعد أن تعرّضت للتهديد خلال الأزمة الناجمة عن تفشّي جائحة فيروس كورونا. ومن غير المرجّح أن تغتنم هذه النخبة فرصة الطفرة التي تشهدها أسعار النفط والغاز، لطرح أي سياسات اقتصادية بديلة. ومن ثمّ، قد يكون وجود قادة معارضة يتبنّون استراتيجية اقتصادية بديلة واضحة، ويتبوّؤون موقعًا تمثيليًا وفي السلطة، أمرًا حاسمًا.

وفي ظل غياب مشروع بديل واضح، يمكن أن يشكّل المشاركون في حركة المقاطعة ما يُعرف بـ "المقاطعة البسيطة (أو الثانوية)"Minor Boycott ، التي يمكن أن تحدّ من فاعلية الفعل السياسي.

في وقت سابق، أعلن التيار الصدري، بزعامة رجل الدين الشيعي، مقتدى الصدر، والذي يرأس الكتلة الكبرى في مجلس النواب العراقي، مقاطعتَه للانتخابات. ولو كانت تلك الخطوة عملًا مقاومًا جدّيًا ضد البنية السياسية والاقتصادية الحالية، لكانت شكّلت مجابهة مهمّة للوضع السياسي. ولكن، كما توقّع العديد من المراقبين، تراجع مقتدى الصدر عن قراره؛ لأنه وجماعته من أكبر المستفيدين من جهاز الدولة الضعيف. ومن دون ضغوط دولية هائلة أو منظمة سياسية رئيسة معارضة، تستطيع نزع الشرعية عن العملية الانتخابية تمامًا، تشير الدلائل التاريخية إلى أن مقاطعة الانتخابات لا تؤدي إلا إلى تهميش الجماعات المقاطِعة؛ لأنها تنسحب عمدًا من عملية المنافسة على السلطة السياسية. ومن دون سلطة سياسية، تضطر الجماعات المعارضة إلى الاعتماد على السخط الشعبي ضد النظام الحاكم. ومع ذلك، فإن العديد من المواطنين العاديين الذين قرّروا العزوف عن المشاركة في الانتخابات الحالية، يفعلون ذلك دليلًا على عدم اكتراثهم. صحيح أن هذا لا يعني أن عدم المبالاة ليس مثالًا للعمل السياسي، إلا أنه ليس استراتيجية سياسية منظّمة واعدة تستطيع أن تقوّض قدرة النخب الحاكمة على الحصول على الأغلبية العظمى والوصول إلى عملية صنع القرار من دون قيود أو عوائق.

ومع مرور الزمن، واقتراب البشرية نحو كارثة إنسانية واقتصادية وسياسية مقبلة، بسبب تغيّر المناخ الذي من المتوقع أن يقضي على مسألة اعتماد العالم على النفط والغاز، تبدو عملية تشكيل معارضة سياسية واضحة، موحّدة مؤسسية وتحمل مشروعًا اجتماعيًا وسياسيًا واقتصاديًا بديلًا مضادًّا للهيمنة، هي الأمل الأفضل للبلاد. وعلى الرغم من أن المقاطعة الحالية قد لا تكون الأكثر فاعلية، فإن احتجاجات 2019، واستخدام العمل السياسي السلمي والمتنوّع، وعملية نزع شرعية النخب السياسية الحالية، تحرز تقدّمًا بطيئًا، ولكنه أكيد. وتشكّل كل تلك التراكمات أدلّة تشير إلى أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح. وستتحقّق مطالب المجتمع العراقي على المدى الطويل.


[1] Matthew Frankel, “Threaten but Participate: Why Election Boycotts Are a Bad Idea,” Foreign Policy at Brookings, Policy Paper, no. 19 (March 2010), accessed on 11/10/2021, at: https://brook.gs/3AapyQ4

[2] Susan Dayton Hyde, “Foreign Democracy Promotion, Norm Development, and Democratization: Explaining the Causes and Consequences of Internationally Monitored Elections,” PhD. Dissertation, University Of California, San Diego, 2006, at: https://bit.ly/3BvBdur

[3] Susan Dayton Hyde & Emily Beaulieu, “Election Boycotts, Election Observers, and Competition: Do International Election Observers Give Parties an Incentive To Boycott Elections?” Paper Presented at the American Political Science Association, Annual Meeting in Chicago, 2-5/9/2004.

[4] Michael Bratton, “Second Elections in Africa,” Journal of Democracy, vol. 9, no. 3 (1998), pp. 51-66.

[5] Staffan Lindberg, “When do Opposition Parties Boycott Elections?” Paper Prepared for the International Conference “Democratization by Elections? The Dynamics of Electoral Authoritarianism”, CIDE, Mexico 2-3/4/2004, accessed on 11/10/2021, at: https://bit.ly/3uNtg19

[6] Robert Pastor, “The Role of Electoral Administration in Democratic Transitions: Implications for Policy and Research,” Democratization, vol. 6, no.4 (1999), pp. 1-27.

[7] Bratton.

[8] حزب سياسي باكستاني Muhajir Qaumi Mahaz أسّسه السياسي الباكستاني والبريطاني ألطاف حسين والسياسي الباكستاني آفاق أحمد لتمثيل مصالح مجتمع المهاجرين في باكستان عام 1984.

[9] Gary W. Cox, Making Votes Count: Strategic Coordination in the World's Electoral Systems (Cambridge: Cambridge University Press, 1997).