العنوان هنا
تقييم حالة 02 مايو ، 2011

ثورة اليمن: استبدال علي عبد الله صالح أم استبدال مؤسسات مفوّتة؟

الكلمات المفتاحية

هشام القروي

​حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون. تخصّص الدكتور القروي في علم اجتماع النخب والعلاقات الدولية. وشملت أبحاثه دراسة شبكات السياسيين ورجال الأعمال والعسكريين على المستويين المحلي والدولي. تتركز اهتماماته البحثية خصوصًا على: علاقات الولايات المتحدة بمجتمعات المنطقة العربية- الإسلامية (الشرق الأوسط/شمال أفريقيا)؛ وإعادة إنتاج النخب وارتباطاتها؛ ودراسة الشبكات المحلية والدولية للساسة ورجال الأعمال والعسكريين؛ والأيديولوجيات والإطارات المرجعية والمفاهيم والقيم المقارنة؛ وتفاعل الأقليات العربية والإسلامية في الغرب مع محيطها وأصولها.
 وقد كان مؤسس مجلة "دراسات الشرق الأوسط" الفكرية المحكمة (الناطقة بثلاث لغات)، ورئيس تحريرها. وهو يتابع السياسة العربية والدولية بالتحليل والتعليق منذ ربع قرن تقريبًا في الصحف والمجلات. نشر مئات المقالات والعديد من الأبحاث بالعربية والفرنسية والإنجليزية في الدوريات المتخصصة في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي. صدرت له منذ الثمانينيات عدّة مؤلفات عن العلاقات الدولية، والأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط. من مؤلّفاته المنشورة: التّوازن الدولي من الحرب الباردة إلى الانفراج (تونس 1985)؛ النسر والحدود: مقدمات في نقد الواقع السياسي العربي (تونس1989 )؛ ما بعد صدام في العراق (باريس 2005)؛ المملكة السعودية إلى أين؟ (باريس 2006)؛ المسلمون: أكابوس أم قوّة في أوروبا؟ (باريس 2011).

عندما اندلعت أحداث اليمن، ظهر أنها تتبع النموذج الاحتجاجي نفسه الذي بدأ في تونس على شكل مطالب اجتماعية قبل أن يتحول إلى مسار سياسي جراء انضمام أحزاب المعارضة إلى التمرد العفوي للشباب، وظهور برنامج تغيير ديمقراطي. لكن الوضع في اليمن مختلف قليلاً. فعلي عبد الله صالح، على الرغم من أن قلة شكّكت في الأغلبية الانتخابية التي نالها في سنة 2006، قرر أن يتبع نهج جميع الديكتاتوريين، ويُدخل على قوانين البلاد، وربما على دستورها، تنقيحات تمكّنه من السّيطرة على السلطة مع أنها تخلّ بالتوازنات، ثم توريثها ابنه. وهذا ما جعل أحزاب المعارضة تقف في وجهه وتتحالف مع الشباب اليمني مشكِّلة حركة تطالب الرئيس بالرّحيل منذ اليوم الأوّل للثورة. والمسألة التي تعالجها هذه الورقة تتعلق بأبعاد الأزمة التي أدّت إلى الثورة وتصور البدائل الممكنة: هل سيكون البديل ديمقراطياً، أم عسكرياً، أم قبلياً أم ذلك كله معاً، أم شيئاً مختلفاً؟ [1] وبعبارة أخرى: هل يبحث اليمن عن استبدال أشخاص أم استبدال مؤسسات؟ 


مقدمة

يمثّل اليمن حالة فريدة في مشهد الثورة العربية في هذه الأيام. فنحن أمام مطالب تدعو إلى سقوط نظام يرفعها بعض الذين كانوا إلى وقت قريب سنده الأساس. وليست هذه إلا ثاني المفارقات. فالمفارقة الأولى أننا نتحدث عن "ديمقراطية قبلية"، وهو شكل من الحكم غريب عن الديمقراطية الحديثة وعن القبلية التقليدية معاً. فالرئيس اليمني منتخب ويمثل أغلبية منذ سنة 2006 بشكل لم يتوافر للرئيسيْن السابقين زين العابدين بن علي وحسني مبارك المتهميْن بالتزوير على نطاق واسع. وإذا كانت إزاحة علي عبد الله صالح عن الحكم تنهي موضوع النّزاع، وتضع اليمن على الدرب الديمقراطي، فهذا يعني أن حلّ المشكلة سهل. ولكن الديمقراطية لا تعني القدرة على استبدال الحاكم فحسب، وإنما هي، قبل أيّ شيء، نظام يقوم على احترام بعض القواعد الأساسية ومنها أن لا أحد فوق القانون. والنظام اليمني الذي قاده علي عبد الله صالح منذ سنة 1990 قام على اتفاق لتقاسم السلطة بين الرئيس والقبائل المتحالفة معه والجيش. وهذا ليس هو الفهم العقلاني للديمقراطية الحديثة. وإذا كانت أهداف الثورة الحالية مجرد إسقاط شخص وإحلال آخر في مكانه مع الاستمرار في الحكم على الأسس نفسها، فلن يختلف الأمر كثيراً بعد رحيل علي عبد الله صالح.

ولنبدأ في تحديد بعض القضايا التي يفترض أن تحظى باهتمام القوى السياسية خـلال الثورة وبعد نهاية حكم علي عبد الله صالح. هناك في رأينا نوعان من المشكلات: سياسية- سوسيولوجية، واجتماعية- اقتصادية. ويبدو الثاني أكثر استعجالاً وإثارة للاهتمام، فهو يتعلق بما يلي: نموّ البطالة والنمو الديمغرافي الانفجاري مع وجود 42 في المئة من السكان يعيشون بأقلّ من دولارين يومياً، وعدم العدالة في توزيع الموارد المائية، ومعاناة اجتماعية خاصة للنّساء والأطفال المفتقرين إلى الموارد،[2] وهذه جميعا أسباب دافعة إلى الغضب والانفجار.

أمّا النوع الأوّل من المشكلات، فله تعقيدات تمتدّ إلى التشكيلة الاجتماعية في اليمن. وهذا الأمر له علاقة بالمسائل التالية: الولاءات؛ هل هي للقبيلة والعشيرة أم للجمهورية؟ الافتقار إلى الشفافية في التعيينات والمناصب الأمر الذي يؤدّي إلى تهميش بعض الفئات الاجتماعية؛ الافتقار إلى الشّفافية في المؤسّسات وعدم محاسبة المسؤولين ما يؤدّي إلى الفساد؛ وبشكل عام وأخطر، فإنّ الافتقار إلى المعايير التحديثية في بناء الدولة الديمقراطية العصرية، يتبعه ازدياد نفوذ الجيش والقبائل.

وسنركّز في هذه الورقة على المسألة الأولى، أي السوسيولوجيا السياسية لليمن، وهي ذات علاقة بقضية التحديث في الشّرق الأوسط التي عالجها بعض الكتّاب. ويندرج مجهودنا الخاصّ في السياق النظري نفسه الذي عالجه برهان غليون[3] وعزمي بشارة[4] وحليم بركات[5] وخلدون حسن النقيب[6] وهشام شرابي وسعد الدين إبراهيم، وجميع الذين تصدّوا لمسألة الحداثة والتحديث والنظام الاجتماعي في العالم العربي، وكذلك ديفيد أبتر،[7] وفريمان،[8] وديل ايكلمان،[9] وكارل براون،[10] والمدرسة الوظيفية في علم الاجتماع.[11] ونحن بدورنا ننطلق من فكرة أن الفهم القاصر لدور القبيلة في المجتمعات العربية أدّى إلى استنتاجات غير معقولة وغير مقبولة، منها مثلاً القول:"لما كانت كل قبيلة (وهي نفسها تنقسم إلى أفخاذ ومنازل) تمثل وحدة مستقلة، لا بد من تصور الجزيرة العربية قبلياً على أنها اعتيادياً في حال فوضى".[12] وفي فترة أحدث، نرى بعض الأنثروبولوجيين والمؤرخين يناقشون قضية القبائل إما بصفة كونها "مؤسسة دول" أو "قوى مناهضة لمركزية الدولة"، أو هي "كتل تساهم في بناء الانسجام الاجتماعي والسياسي على المستوى المحلي".[13] ومحصلة ذلك، كما يشير خلدون النقيب، هي "ظهور التنظيمات القبلية على أنها الحقيقة الراسخة الساطعة، ومن ثم ظهور كل ما عداها في ضوء باهت يغلف البنى الاجتماعية والاقتصادية التي تفتقر إلى الجذور التاريخية الواضحة".[14]

ولا يغيب عن أحد أنّ "الأنظمة لا تعتمد على الظواهر الاجتماعية التجريدية عندما تواجه مواضيع دقيقة مثل إخضاع العسكريين،"[15] فكل منها يطوّر طريقته الخاصة في السيطرة، والتي بفضلها يحاول أن يحمي نفسه من الضبّاط ذوي الطموحات السياسية. و"تختلف هذه الطرق طبقا لمستوى التطور السياسي الذي بلغه أي نظام، فنرى بعضها يشمل الاعتماد على القبائل، أو الطوائف، أو حتى المرتزقة، ويعتمد بعضها على استراتيجيات التلاعب ذات الجذور الممتدة إلى الوصائية الأبوية، فيما تلجأ أنظمة أخرى إلى المؤسسات. ونجد بعض الحكومات تستعمل أكثر من طريقة واحدة..." [16] بحسب حاجتها. ولا شك في أنّ إنجاح مشروع الديمقراطية في بلد كاليمن يتطلب جهداً خاصاً من النّخب لتجاوز العقبة القبلية والنعرات العصبية القديمة، والمناورة بذكاء للحصول على الدعم الشعبي على أسس لا تغلق الباب أمام أحد، في حين تبقى النخب التي تقود التغيير منتبهة إلى ما هو فاعل حقاً في السياسة والمجتمع وما هو مفتعل.


[1] أنا مدين للدكتور عزمي بشارة بدين أدبي. لقد قرأ ورقتي ووجّه إلي مجموعة من الملاحظات النقدية والتساؤلات التي دفعتني إلى إعادة النظر في مقاربتي. والحقيقة أن تلك الملاحظات جاءت في وقتها تماما، لأن الورقة لو نشرت بالطريقة التي كتبت بها في المرة الأولى، لفاتها شيء مهم هو حدوث تطورات في موقف شباب ساحة التغيير، وبالتالي تطور مطالب المعارضة من مواقف غامضة بعض الشيء كأنها متجهة نحو التفاوض من أجل نقل السلطة فحسب، إلى مواقف أكثر عمقا تنادي بالتغيير الديمقراطي والدولة الحديثة.

[2] تضمنت المطالب الأولى للمعارضة في شباط/فبراير2011 بعض هذه القضايا الاجتماعية والاقتصادية التي تحتاج فعلا إلى أن تعالجها سلطة البلاد، فيما ركزت مطالب المعارضة في آذار/مارس وبداية نيسان/أبريل على الجوانب السياسية للإصلاحات الثورية. انظر عن المسألة الاجتماعية والاقتصادية تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية في اليمن لسنة 2010.
«Yemen Report, 2010 », Millenium Development Goals, UNDP : http://www.undp.org.ye.

[3] من بين مؤلفات برهان غليون، انظر مثلا : "المحنة العربية: الدولة ضدّ الأمة" بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1993،" الحداثة المغدورة" (بالفرنسية)، باريس لا ديكوفرت، 1993، "الوعي الذاتي" بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1992.

[4] انظر مثلا: عزمي بشارة، "طروحات عن النهضة المعاقة"، بيروت: رياض الريس للكتب والنشر، 2003.

[5] انظر مثلا: حليم بركات، "المجتمع العربي المعاصر"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 2008.

[6] انظر: خلدون حسن النقيب، "المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية"، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1989.

[7] David E. Apter, The Politics of Modernization (University of Chicago Press, 1967).

[8] L.C. Freeman, Patterns of Local Community Leadership (Indianapolis: Bobbs-Merrill, 1968).

[9] Eickelman Dale F., The Middle East, an Anthropological Approach (prentice-Hall, Inc. 1981).

[10] Brown L.Carl, International Politics and the Middle East (Princeton University Press, 1984).

[11] خاصة تالكوت بارسنذز وادوارد شيلز وجيس بتس... انظر مثلا:
Parsons T., Shills E., Naegele K.D., Pitts J.R., Theories of Society (The Free Press, 1961); Parsons T., The Structure of Social System, (Routledge & Kegan Paul, 1951).

[12] R.B. Serjeant, « The Interplay Netween Tribal Affinities and Religious (Zaydi) Authority in the Yemen,
" Al-Abhath: Journal of the Center for Arab and Middle East Studies, Faculty of Arts and Sciences, American University of Beirut, 1982.

[13] Nelida Fuccaro, Histories of City and State in the Persian Gulf: Manama since 1800 (Cambridge
 University Press, 2009: 2.

[14] خلدون النقيب،مصدر سبق ذكره، ص 22.

[15] James A. Bill and Robert Springborg, Middle East Politics, (Harper Collins Publishers, 1990): 260-261.

[16] المصدر السابق نفسه.