العنوان هنا
مقالات 12 مايو ، 2011

دعوة لتحويل روايات النكبة إلى قصص تاريخية

الكلمات المفتاحية

شحادة يوسف موسى

من مواليد سحماتا - فلسطين،1937. لجأ مع جموع اللاّجئين الفلسطينيّين إلى لبنان في عام النّكبة،1948.تلقّى تعليمه في المدارس والجامعات الخاصّة في لبنان. عمل في مركز الأبحاث التّابع لمنظّمة التّحرير الفلسطينيّة في بيروت. له عدّة مؤلّفات، آخرها، كتاب "ثورة 1936-1939في فلسطين: دراسة سوسيولوجيّة له العديد من المقالات ومراجعات الكتب، عن قضايا فلسطينيّة، منشورة في الصّحف والمجلاّت والمواقع الإلكترونيّة.

القضية الفلسطينية هي قضيّة النكبة التي حلّت بفلسطين وشعبها في العام 1948 على يد الغزاة الصهاينة. ويلحق بالنكبة العار الذي لحق بالأمّة العربية كلها نتيجة انتصار القوّات الصهيونية على الجيوش العربية التي دخلت الحرب في ذلك العام لنجدة الفلسطينيّين والحفاظ على عروبة فلسطين. هكذا تسجّلت القضية في التاريخ، وهكذا ترسّخت في وعي ووجدان جماهير الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وغيرها من الشعوب والجماعات المتعاطفة مع الفلسطينيين.

كانت قضية النكبة طيلة سنوات بعد وقوعها، تُدرج في المناهج الدراسية في البلدان العربية، وتشكّل بنداً رئيساً في مبادئ العديد من الحركات والأحزاب في هذه البلدان و أهدافها. وعلى المستوى الفلسطيني، شكّلت القضية برنامجا للعمل السياسي والتثقيفي لقيادات المنظمات والهيئات وكوادرها على اختلاف توجّهاتها .ومثّلت، ولا تزال، محور النّضال الوطني السياسي والعسكري لمنظّمات المقاومة،  على الرغم من تراجع بعضها و إلقاء سلاحها وتخليها عن المقاومة ونهجها.

وفي ذلك المناخ القومي،توافرت لدى أجيال من الشباب الفلسطيني والعربي،معرفة عامّة بالنكبة وقضيّة فلسطين، وبأخطار المشروع الصهيوني. وكان له أثر واضح في إذكاء الشّعور الوطني، وفي التحرك العملي من أجل القضية،من خلال التنظيمات والتحرّكات الشعبية، والمقاومة المسلّحة.

ومع بروز فلسفة الانهزام على الساحة العربية، وابتداع أطروحة السلام مع الغزاة الصهاينة، أخذت قضيّة النكبة تتراجع من المواقع التي كانت تحظى بها ،بل وجرى تهميشها والعبث بها من قبل منظّمات فلسطينية رئيسة، وكأن القضية لم تكن قضية مبدأ وعقيدة، بل هي وسيلة أو شعار وتكتيك من أجل هدف آخر يتمثل اليوم في السلطة والدولة. وفي ظلّ هذه التوجّهات، أصبحنا نرى أعداداً متزايدة من الشّباب الذين لا يكادون يعرفون شيئاً عن القضيّة، ولم تعد تداعياتها أو الاعتداءات الإسرائيلية تثير فيهم الشّعور الحماسي والتعاطف القوي، مثلما كانت الحال عند الأجيال السابقة.

إنّ من أخطر ما يتهدّد القضية، وأيّ قضية، هو غيابها عن وعي أصحابها ووجدانهم .ومن أهمّ ما يخدم القضية ويحفظها هو بقاؤها حيّة في الأذهان والقلوب، وإبقاؤها على الأمل والإيمان في النفوس بانتصار الحقّ واستعادة الحقوق.

لقد شهدت السّنواتُ الأخيرة تطوّراتٍ بالغة الخطورة، تصيب الأمّة العربية كلّها في صميم تاريخها وهويّتها ومستقبلها، إذ تستهدف طمس القضية وإعلان الانهزام النهائي أمام المشروع الصّهيوني. وتجلّى ذلك في مظهريْن غير خافيين، صهيوني وعربي، يبدو أنّهما ، ولأول مرة، متوافقان ممّا يضاعف من خطريهما معاً.

يتمثل المظهر الأوّل في محاولات جديّة من جانب إسرائيل والدول الغربية لتثبيت صورة إسرائيل كدولة أصيلة صاحبة حقّ في فلسطين.فبحسب مزاعمهم، فلسطين، من دون بقاع الدنيا، هي الأرض التي خصّصها الله لليهود بالذات،من بين كافّة الشعوب والجماعات. أي أنّ فلسطين وطنٌ لليهود بأمر إلاهي، وليست مشروعاً استعمارياً عنصرياً يقوم على العدوان والاغتصاب والقتل.

ويتمثّل المظهر الثاني في اعتراف مسؤولين وفئات شعبيّة، من العرب والفلسطينيّين بهذه المزاعم.وذلك نتيجة طبيعية لاعترافهم بإسرائيل، دولة على الأرض التي اغتصبها الصّهاينة في العام 1948. بل إنّ الفلسطينيين ذهبوا في تماشيهم مع إسرائيل ومزاعمها، إلى التجرّؤ على التاريخ بوصفه سجلاً لصيرورة الشّعب الفلسطيني عبر الزّمن، والتسليم بما يجري من استهتار بحقائق هذا التاريخ، وتزوير كلّ ما يتعلّق بفلسطين الكيان والهويّة والإنسان، وحتّى الاسم بما يحمل من رمزيّة ودلالات.

إنّ وصول المشروع الصّهيوني إلى هذا المستوى،يجعل من الضّروري المبادرة لإنتاج رواية مضادّة لهذين المظهرين وصياغتها ،من خلال رواية حقيقة ما جرى. تتميّز هذه الرواية بأسلوب خاص، يعتمد الحقائق الموضوعية الموثّقة، ويخاطب العقل والوجدان وهو يقدّم الصورة الشّمولية للحركة الصهيونية ووليدها غير الطبيعي "إسرائيل". وتكشف الرواية الذّرائع والأضاليل التي روّجتها الحركة من أجل ابتداع كيان خاصّ باليهود واصطناع تاريخ له وهويّة، وكيف تمّ اختيار فلسطين بالذات مكاناً لهذا الكيان. وتغطّي الرواية المجالات التالية:

  • تثبيت صورة اليهود الصهاينة غزاة برابرة جاؤوا من أنحاء أوروبا بمساعدة الغرب الاستعماري بهدف الاستيلاء على فلسطين وطرد شعبها العربي منها. وكشف الأكاذيب والأساليب غير الأخلاقية التي اتّبعتها الحركة الصهيونية من أجل تحقيق هذا الهدف.
  • تسليط الضّوء على عمليات التّعبئة العنصرية والعدوانية التي مارستها الحركة لإعداد هؤلاء الصّهاينة نفسياً وعسكرياً وتنفيذ مخطّط الاستيلاء على البلاد.
  • كشف الممارسات الفعليّة التي قامت بها القوّات الصّهيونية في العام 1948 ضدّ أهل البلاد، وعمليّات التطهير العرقي والمجازر التي ارتكبتها في المدن والقرى. وإبراز عمليّات الاستيلاء على البيوت والممتلكات، وقتل الأهالي وطردهم بطريقة وحشيّة تنمّ عن كوامن الحقد والكراهية.
  • تصوير الفاجعة الإنسانيّة التي حلّت بالسّكان الآمنين من جرّاء عمليّات الترويع والإرهاب، ومشاهدة أحبّائهم وهم يتعرّضون للقتل والاغتصاب أمام أعينهم، ومقتنياتهم تُنهب من بيوتهم.
  • عرض النّتائج المباشرة للغزو(النّكبة) عبر تشتّت الفلسطينيّين وانقلاب أوضاعهم إلى لاجئين، وتصوير شعورهم بالظّلم والقهر، وتصميمهم على استعادة وطنهم وحقوقهم.
  • فضْح المحاولات الإسرائيلية لتطهير التاريخ والذّاكرة(إفراغه من مضمونه الحقيقي وتزييفه)بالعمل على محْو كلّ ما هو فلسطيني، واصطناع أسماء وتواريخ وحكايات. ودحْض الأساطير التي تقوم عليها الصّهيونية وإسرائيل.

والرواية المطلوبة لا تبدأ من فراغ. فالمادّة موجودة في العديد من الكتب والوثائق التي تؤرّخ لما جرى وتحلّله، وفي الروايات والقصص التي تتحدّث عن الجوانب الإنسانية للنّكبة وآثارها. غير أنّ هذه الكتب يمكن أن تشكّل مراجعَ قيّمة للدّارسين والباحثين ولمستويات معيّنة من القُرّاء، كما أنّ الرّوايات والقصص تجد صداها لدى طلاّب الأدب ونُقّاده وعشّاقه. ولكن ذلك لا يغني عن الرّواية المطلوبة.

فالدّعوة التي نحن بصددها، ترمي إلى الجمْع بين كتابة علميّة تقدّم المعلومة بشكل مبسّط، وكتابة روائية مجردة من الرمز والخيال اللذيْن  تتميّز بهما الرواية الأدبية. والقصد أنْ يتمّ تقديم الحقيقة بأسلوب قصصي يلامس الوجدان، ويجذب القارئ ، ويرسِّخ  في الذهن صورة الصّهاينة غزاة عدوانيّين، مثلهم مثل المغول والصليبيّين الذين كانوا متعطّشين إلى الدّماء، ومآلهم إلى زوال.

وكمثال على النّهج المقصود، نشير إلى مصدريْن في مجاليْ التاريخ والرواية صدَرا منذ سنوات،وهما مكرّسان لما جرى في العام 1948 في فلسطين. الأوّل هو كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" للكاتب اليهودي الإسرائيلي ايلان بابيه، والثاني هو رواية "باب الشمس" للكاتب اللبناني إلياس خوري. بابيه، يوثٌّق ،بأسلوب علمي، السّياسة الصهيونية الرسمية للتطهير العرقي، وعمليات التنفيذ التي تولّتْها القوّات الصهيونية من خلال ارتكاب المجازر والقتْل والاغتصاب والتّرويع والطّرد القسري. ويوثّق إلياس خوري الجانب الإنساني عند الفلسطينيّين من خلال تصوير مشاعر أهالي القرى وأحاسيسهم وهم يتعرّضون للقتل والترويع، والطرد من البيوت التي بنوْها، والأرض التي حرثوها وزرعوها، والأشجار التي غرسوها ورووها بأيديهم وعرقهم؛ كما يصوّر الأوضاع التي آلوا إليها في عالم اللّجوء والمخيّمات.

الكتابان متقاربان في الموضوع والمضمون، ويمكن التأليف بينهما،مع مراعاة تحريك النصّ التاريخي، واتّسام النصّ الأدبي بالدقّة والواقعية في تحديد المواقع، والتعريف بالأسماء والشخصيات، وسرد الأحداث والسِّيَر.

تتوخّى هذه الدّعوة، في حال تحقّقها، أن تتمثّل في صدور سلسلة من الكتب المبسّطة، والميسّرة الثّمن، وتكون في متناول الجميع، يستمتع بقراءتها الصغير والكبير، وتشكّل ما يماثل موسوعة قصصية تاريخية لنكبة 1948،وتغطّي بطبيعة الحال مقدّماتها ونتائجها المباشرة. ومن المأمول أن تشكّل مثل هذه الموسوعة صخرة فكرية وإعلامية، تتكسّر عليها المزاعم الصّهيونية والترّهات العربيّة عن الواقعية والسّلام المزعوم،كما توفّر مصْدراً معرفياً و مادّة تثقيفية للأجيال الفلسطينية والعربية. وبالطبع، فإنّ ذلك يتوقّف على توافر القناعة، وإلى مبادرة ورعاية وتنظيم وتمويل.