العنوان هنا
مراجعات 07 أكتوبر ، 2013

شلومو زاند ودحض أوهام الهستريوغرافيا الصهيونية: "متى توقّفت أن أكون يهوديًّا؟ وكيف؟"

الكلمات المفتاحية

محمود محارب

باحث مشارك في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، أستاذ جامعي فلسطيني له العديد من الكتب والأبحاث المتعلّقة بالصهيونية وإسرائيل، والقضية الفلسطينية، والصراع العربي الإسرائيلي. حصل على شهادة البكالوريوس في العلوم السياسية من "الجامعة العبرية" في القدس. وفي عام 1986 حصل على الدكتوراه في العلوم السياسية من قسم العلوم السياسية في جامعة ريدينغ في إنكلترا. ومنذ عام 1987 حتى عام 1990، عمل مديرًا لمركز الأبحاث التابع لجمعية الدراسات العربية في القدس المحتلة. 

 

العنوان: متى توقّفت أن أكون يهوديًّا؟ وكيف؟

المؤلف: شلومو زاند

الناشر: كنيرت وزموراه بيتان -تل أبيب

السنة: 2013

عدد الصفحات: 180

 

مقدمة

"متى توقّفت أن أكون يهوديًّا؟ وكيف؟" كتابٌ في 180 صفحة. وهو ثالث كتب المؤرّخ شلومو زاند، أستاذ التاريخ في جامعة تل أبيب التي يتصدّى فيها لتزييف الحركة الصهيونية المنهجي والمستمرّ لتاريخ اليهود وتاريخ فلسطين؛ فقد صدر لشلومو زاند في عام 2008 كتاب "متى اختُرع الشعب اليهودي؟ وكيف؟"، وصدر له في عام 2012 كتاب "متى اختُرعت أرض إسرائيل؟ وكيف؟". وحظيت كتب شلومو زاند هذه باهتمامٍ واسع، وأثارت ضجّةً ونقاشًا في إسرائيل، وفي أوروبا، وأميركا، وفي بلدانٍ أخرى. وقد كتب شلومو زاند كتبه هذه بالعبرية، وما لبثت أن تُرجمت إلى لغاتٍ أخرى؛ إذ ترجم كتابه "متى اختُرع الشعب اليهودي؟ وكيف؟" إلى أكثر من عشرين لغة.

بطريقة علمية ومنهجية، ينتقد شلومو زاند الهستريوغرافيا الصهيونية لتاريخ اليهود واليهودية وفلسطين. ويفكّك الرواية التاريخية الصهيونية المستندة إلى أساطير وخرافات دينية ويدحضها. ويكشف التزييف المتواصل الذي قام به قادة الصهيونية ومنظّروها، في سياق عملية البناء الهستريوغرافي الصهيوني؛ من أجل شرعنة إقامة دولةٍ يهودية في فلسطين وتبريرها.

انتشار ديانة وليس شتات عرق

يؤكّد شلومو زاند في كتبه المذكورة أنّ اليهودية ديانة وليست قوميّةً أو عرقًا، وأنّها ديانة تبشيرية كغيرها من الديانات التوحيدية، انتشرت في مناطقَ واسعة من العالم القديم، من خلال تهوّد أعراقٍ وقبائلَ كثيرة وشعوب مختلفة، وليس من خلال انتشار عرق كما تدّعي الصهيونية. ولم يُرجع زاند انحسار انتشار الديانة اليهودية لطابعها أو لعواملَ داخلية فيها تأبى نشرها والتبشير بها، وإنّما لانتصار الديانة المسيحية في القرن الرابع الميلادي، عندما تبنّتها الإمبراطورية الرومانية التي فرضت بدورها قيودًا على نشر الديانة اليهودية في أراضيها. يضاف إلى ذلك ظهور الديانة الإسلامية منذ القرن السابع الميلادي وانتصارها، وانتشارها. فالديانة اليهودية انتشرت قبل ظهور الديانتين المسيحية والإسلامية المنافستين لها، وانتصارهما في أرجاء العالم القديم في مختلف مناطق الشرق الأوسط، وفي حوض البحر المتوسط؛ إذ انتشرت اليهودية في فلسطين وبلاد الشام، وفي صفوف الكثير من القبائل العربية في أرجاء الجزيرة العربية، وفي أوساط أعراقٍ عديدة في شمال أفريقيا. واعتنقت العديد من الدول الديانة اليهودية؛ إذ تهوّدت إمارة حدياب في شمال العراق في القرن الأوّل الميلادي، وتهوّدت مملكة حمير في اليمن، في القرنين الخامس والسادس الميلادي.

يشير شلومو زاند إلى أنّ انتشار الديانة اليهودية في مملكة الخزر كان له الأثر الأهمّ في تاريخ اليهود، وفي انتشار الديانة اليهودية، وزيادة عدد أتباعها بنسبةٍ مرتفعة للغاية؛ فقد كانت مملكة الخزر التي تأسّست على سواحل بحر قزوين الذي أطلق عليه العرب اسم بحر الخزر، تدين بالوثنية حتى منتصف القرن الثامن. وفي أواسط القرن الثامن، تهوّد ملك الخزر مع قسمٍ من رعيّته، ثمّ ما لبثت الديانة اليهودية أن انتشرت شيئًا فشيئًا بين قبائل دولة الخزر وأعراقها، والتي شملت قبائل التتار والترك والتركمان. يشير زاند إلى أنّ ضعف دولة الخزر وانحلالها في ما بين القرنين العاشر والثاني عشر، أدّيا إلى هجرة اليهود الخزر منها إلى روسيا وأكرانيا وليطا وبولندا وبيلوروس وغليسيا وهنغاريا، وإلى وسط أوروبا أيضًا. ونتيجة لهذا الانتشار، بات اليهود في أوروبا الشرقية من الأصول الخزرية يمثّلون في القرن التاسع عشر ما يزيد عن ثمانين في المئة من مجموع أتباع الديانة اليهودية في العالم. وبعد ظهور الثورة الصناعية، هاجر أكثر من ثلاثة ملايين من هؤلاء اليهود إلى وسط أوروبا وغربها، وإلى أميركا.

لقد سبق أن أرّخ لدولة الخزر، وظروف تهوّدها وانهيارها، وهجرة يهودها إلى أوروبا الشرقية، الكثير من المؤرّخين من غير اليهود، ومن اليهود الصهاينة وغير الصهاينة. ويأتي في مقدمتهم هركابي ألبرت(1835-1919)، وأبراهام بولاك(1910-1970)، وآرثر كوستلر (1905-1983)، وشمعون دوفنوف (1860-1941). بيد أنّ ما يميّز شلومو زاند هو أنّه يكاد أن يكون المؤرّخ الإسرائيلي الوحيد الذي يؤرّخ لتهوّد دولة الخزر في نصف القرن الأخير. فمنذ الخمسينيات توقّف صانعو الذاكرة في إسرائيل عن التطرّق إلى الماضي الخزري، كما يؤكّد زاند؛ فشبح الماضي اليهودي الخزري بات في نظر قادة إسرائيل ومفكّريها يمسّ بشرعية المشروع الصهيوني في حال معرفة أنّ المستوطنين اليهود الصهاينة في فلسطين ليسوا ورثة "بني إسرائيل"، وليسوا من سلالة إبراهيم، وإنّما من أحفاد قبائل دولة الخزر.

 يرى زاند أنّ ازدياد انتشار يهود دولة الخزر في مدن وسط أوروبا وغربها، أدّى إلى ظهور حركتين مهمّتين كان لهما التأثير الأكبر في تاريخ اليهود الحديث؛ وهما اللاسامية والصهيونية. ووضح زاند أنّ اللاسامية والتيار البروتستانتي الأصولي طرحا قبل ظهور الصهيونية فكرة أنّ اليهود يشكّلون أمّةً وعرقًا، وأنّ فلسطين وطنهم القومي؛ وذلك في سياق عدائهم لهم وسعيهم للتخلّص منهم وتهجيرهم إلى خارج أوروبا. ويستطرد زاند مؤكّدًا أنّ آباء الصهيونية تلقّفوا أفكار اللاسامية المركزية وتبنَّوها، لا سيّما تلك التي ادّعت أنّ اليهود يشكّلون قوميّةً وعرقًا، وسعَوا بجدٍّ ونشاط إلى تحويل الديانة اليهودية إلى قومية عرقية، وإلى إعادة كتابة تاريخ اليهود واليهودية من هذا المنطلق وعلى أساسه. وفي هذا السياق قاموا بعملية اختراع للشعب اليهودي. وأخذوا ينسبون للمصطلحات الدينية معانيَ ومضامينَ "قومية" جديدة لم تكن فيها أصلًا. وقاموا كذلك باختراع فكرة "أرض إسرائيل" كأرض جغرافية ذات أبعاد سياسية. وادّعوْا خلافًا للوقائع التاريخية، أنّه جرت عملية إجلاءٍ ونفيٍ لليهود من "أرض إسرائيل".

اقتل تركيًّا واسترح

يعالج شلومو زاند في كتابه "لماذا توقّفت أن أكون يهوديًّا؟ وكيف؟" ماهيّة يهودية إسرائيل وماهية اليهود الصهاينة في إسرائيل والعالم، لا سيّما أولئك الذين يعرّفون أنفسهم "يهودًا علمانيين". ويقف على تعاظم سطوة القيم العنصرية في إسرائيل وانحطاط القيم الإنسانية فيها، وفي أوساط قطاعاتٍ من "اليهود العلمانيين" في العالم الذين باتت وظيفتهم الأساسية الدوران في فلك تبرير جرائم إسرائيل بحقّ الفلسطينيين. وفي سياق نقده وتعريته انحطاط قيم اليهود الصهاينة في إسرائيل والعالم، يروي زاند نكتةً يهودية قديمة حافلة بالسخرية الذاتية، ليستدلّ بها على الطابع الجمعي لأخلاق اليهودي الصهيوني في العصر الحديث، فيقول: تعطي أمّ يهودية روسية ابنها الذي جُنِّد في الجيش الروسي في حرب القرم في القرن التاسع عشر، زاده وتوصيه قائلةً: "اقتل تركيًّا، ولا تنسَ أن تجلس فورًا بعد ذلك لتأكل". فيجيبها ابنها: "حاضر يا أمّي". ثمّ تلفّ الأمّ منديلًا حول رقبة ابنها، وتضيف قائلةً: "وعندما تطلق النار على التركيّ لا تكشف نفسك للريح". ويجيبها ابنها: "حاضر يا أمّي". وتضيف الأمّ موصيةً ابنها: "من المهمّ أن ترتاح قليلًا كلّ مرة بعد أن تهجم وتقتل أتراكًا". "طبعًا طبعًا" يجيب الابن. وبعد تردّدٍ، يسأل الابن أمّه: "وماذا إذا قتلني التركي؟". تدهش الأمّ من سؤال ابنها، وتفتح عينيها الواسعتين، وتسأله باستغراب: "لماذا يقتلك؟ ماذا فعلت له حتّى يقتلك؟".

يشير زاند إلى أنّ اليهود في العالم وفي إسرائيل، درسوا التلمود، وتأثّروا به في القرون الماضية أكثر من تأثّرهم بالتوراة. ويرى زاند أنّ استمرار تأثّر اليهود المتديّنين والعلمانيين بالتلمود يعدّ مشكلةً أخلاقية تستدعي المعالجة؛ فالتلمود كما يؤكّد زاند وغيره، ينضح بالعنصرية وتتنافس قصصه ورواياته الوعظية في احتقار غير اليهود وكراهيتهم، وفي تجريدهم من إنسانيتهم. وليس صدفة، كما يقول زاند، أن يكتب الحاخام أفراهام يتسحاق هكوهين كوك، الحاخام الرئيس للمستوطنين اليهود في فلسطين: "إنّ الفرق بين الروح اليهودية، في جوهرها ورغباتها وصفاتها ومواقفها؛ وروح كلّ الأغيار بمختلف أنواعهم، هو أكبر وأعمق من الفرق بين روح الإنسان وروح الحيوان".

يصبّ شلومو زاند جام نقده اللاذع على اليهود الصهاينة العلمانيين في العالم الذين ما انفكّوا في عصرنا الحاضر يردّدون قيمًا عنصرية، ويتبنّونها. وفي هذا السياق، يقول زاند إنّ في "حكاية عيد الفصح" التي يكرّرها اليهود في كلّ عيد فصح، دعواتٍ بإلحاق الأذى بمن هم من غير اليهود، وهناك دعوة صريحة إلى إبادة الشعوب التي لا تؤمن بإله اليهود "يهوه". ويضيف زاند أنّ هذه الدعوات لا يزال يكرّرها "يهود علمانيون" في نيويورك ولندن وباريس، وهؤلاء هم أنفسهم الذين يدّعون أنّهم يتميزون عن غيرهم بالتزامهم بالقيم الإنسانية والأخلاق المثالية العليا. ويلحظ زاند الفرق الكبير بين النخب اليهودية في فترة انتشار اللاسامية في القرنين الماضيين، والنخب اليهودية في زمن أفول اللاسامية في العقود الأخيرة؛ ففي فترة انتشار اللاسامية تبنّى الكثير من المثقفين اليهود في العالم قيمًا وأفكارًا إنسانية كونية، ودافعوا عن الملاحَقين والمظلومين. ولكن مع أفول اللاسامية، بات الكثير من المثقفين اليهود العلمانيين محافظين يبرّرون السياسات الإسرائيلية العدوانية، والعنصرية ضدّ الفلسطينيين والعرب. ويرى زاند أنّ أفول اللاسامية في أوروبا وأميركا يمثِّل مشكلة لإسرائيل والصهيونية، إذ يعزّز ذلك اندماج اليهود في مجتمعاتهم الأوروبية والأميركية، ويزيد نسبة الزواج المختلط مع غير اليهود، والتي تصل في الوقت الحاضر إلى خمسين في المئة في الأجيال الشابّة.

ويرى زاند أنّه في ضوء عدم وجود ثقافة يهودية علمانية وأفول اللاسامية، يبقى العاملان الأساسيان اللذان يحافظان على الهويّة اليهودية العلمانية في أوروبا وأميركا، هما العلاقة مع إسرائيل وإحياء ذكرى الكارثة. ويؤكّد زاند أنّ دور الكثير من هؤلاء "اليهود العلمانيّين" في أوروبا وأميركا، بات يقف مع العدوانية والظلم في العالم، ولا سيّما في الدفاع عن سياسات إسرائيل العدوانية.

من هو اليهودي في إسرائيل؟

يشير شلومو زاند إلى أنّ إسرائيل تعرّف نفسها بأنّها دولة يهودية، وأنّها دولة "الشعب اليهودي في العالم بأسره". إلا أنّها لا تستطيع تعريف من هو اليهودي في خارج المضمون الديني اليهودي؛ فجميع المحاولات الإسرائيلية والصهيونية في إسرائيل وفي خارجها، والتي جرت لتعريف من هو اليهودي من خلال الانتماء العرقي بواسطة بصمات الأصابع أو الـحمض النووي DNA، قد باءت بالفشل. ويستطرد زاند، وبما أنّه ليس لليهود في العالم لغة واحدة مشتركة، ولا ثقافة علمانية مشتركة، أصبح المعيار الديني هو الوحيد المتبقّي لتعريف من هو اليهودي. وقد نجم عن ذلك أن شدّدت إسرائيل ومؤسساتها المختلفة على يهودية الدولة، وحرصت دومًا على تعزيز المضمون الديني اليهودي في المؤسسات التربوية والثقافية، وفي مختلف مؤسسات الدولة على حساب القيم الإنسانية. ولكن من ناحيةٍ أخرى، ما انفكّت النخب الفكرية العلمانية وقسمٌ واسع من الطبقة الوسطى العلمانية يشتكي من الإكراه الديني في إسرائيل. وهذا الانفصام في الشخصية لا يزال يؤرق النخب واليهود العلمانيين في إسرائيل، لأنّهم يريدون أن يبقوا يهودًا من دون اليهودية، ولم يستوعبوا أنّ ذلك غير ممكن.

يعزو شلومو زاند ازدياد العنصرية والتشديد على يهودية الدولة في إسرائيل في العقود الأخيرة، إلى أسبابٍ عديدة أبرزها: أوّلًا، وجود عددٍ كبير من الشعب الفلسطيني تحت الحكم الإسرائيلي المباشر، سواء كانوا عربًا فلسطينيين يعيشون في داخل الخطّ الأخضر، أو عربًا فلسطينيين يعيشون في "مناطق الأبارتهايد في الأراضي الفلسطينية المحتلّة". ثانيًا، ضاعف انتصار اليمين الصهيوني المدعوم من اليهود الشرقيين الذين يطلق عليهم زاند "أحفاد العرب - اليهود"، وقيادته لإسرائيل في العقود الأخيرة، النزعة العنصرية؛ إذ إنّ هؤلاء شدّدوا لأسباب عديدة ومختلفة، على هويّتهم اليهودية على حساب إسرائيليتهم. وأمعن قسمٌ واسع منهم في عدائه للعرب لإثبات يهوديته وانتمائه للدولة اليهودية. ثالثًا، في عقد التسعينيات، جرى "استيراد اليهود الروس" الذين لم يكن لهم ثقافة ولا تقاليد يهودية، ما دفع إسرائيل ومؤسسات الدولة المختلفة إلى التشديد على يهوديتهم. ولم يكن ذلك سهلًا إطلاقًا، لا سيّما أنّ قسمًا ليس بقليل من هؤلاء لم يكن أصلًا يدين باليهودية؛ فبات "اليهود الروس" يكتشفون يهوديتهم بواسطة العنصرية الفظّة ضدّ العرب تحت إشراف نخبهم العنصرية والجوّ العنصري العامّ السائد في إسرائيل ضدّ العرب.

 وفي أجواء الاحتلال المصحوب بهوس يهودية الدولة، والبطش بالفلسطينيين وتجريدهم من إنسانيتهم وازدياد الكراهية ضدّ العرب الفلسطينيين، أخذت النخب السياسية الإسرائيلية في العقدين الأخيرين، تشرّع القوانين العنصرية التي تشدّد على يهودية الدولة وتميّز ضدّ العرب الفلسطينيين؛ للمضيّ قدمًا في الانتقاص من حقوقهم الأساسية. ويؤكّد زاند أنّ القصد الدائم من طرح يهودية الدولة، وسنّ هذه القوانين العنصرية هو تجريد العرب الفلسطينيين في داخل الخطّ الأخضر من حقوق المواطنة. ولكي يوضح درجة الحالة العنصرية التي وصلت إليها إسرائيل، والمستوى الذي وصل إليه الهوس العنصري بشأن يهودية الدولة، يُجري زاند عدّة مقاربات. فيقول إنّ الوضع القائم حاليًّا في إسرائيل يشبه ما لو قامت الولايات المتحدة باتّخاذ قرار بأنّها ليست دولة جميع مواطنيها الأميركيين، وإنّما هي دولة الأنجلوساكسونيين البروتستانت المنتشرين في العالم، فتميز ضدّ كلّ من لا ينتمي للأنجلوساكسونيين البروتستانت. ويشبه الواقع العنصري في إسرائيل تلك الحالة التي تنشأ إذا ما قرّرت فرنسا مثلًا، أنّها ليست دولة لجميع مواطنيها، وإنّما هي دولة الغال الكاثوليك، فتميّز ضدّ كلّ من لا ينتمي للغال الكاثوليك. وهو يشبه أيضًا تلك الحالة التي تنشأ إذا ما أعلنت بريطانيا أنّها ليست دولة جميع مواطنيها، وإنّما هي دولة حصرية للإنجليز الأنجليكان، فتقوم بالتمييز ضدّ الاسكتلنديين والويلزيين والإيرلنديين وأبناء المهاجرين.

وعلى الرغم من كلّ هذا الهوس في إسرائيل بيهودية الدولة، يرى شلومو زاند أنّ إسرائيل لا تسير وفقًا للديانة اليهودية، ولا وفقًا للتقاليد اليهودية، وذلك باستثناء قطاعٍ من اليهود المتدينين الذين لا تزيد نسبتهم عن سدس مجموع السكّان اليهود في إسرائيل. فيطرح زاند السؤال المهمّ: ما معنى إذن أن تكون يهوديًّا في إسرائيل؟ ويجيب عنه بتأكيده أنّ الأمر الأهمّ والحاسم في كونك يهوديًّا في إسرائيل هو أن تكون مفضّلًا على غير اليهود، وأن تتمتع بامتيازات وبحقوق أفضلية لا يتمتّع بها غير اليهود. أن تكون يهوديًّا يعني أن لا تكون عربيًّا. اليهودية بهذا المفهوم وفقًا لزاند هي النافية للعربي الفلسطيني والنافية لحقوقه الفردية والجماعية. أن تكون يهوديًّا في إسرائيل، يعني أنّك تستطيع أن تستوطن عنوةً في أرضٍ ليست لك، في أرضٍ يملكها العربي الفلسطيني، ويعني أنّك تستطيع أن تسافر في طرقٍ في الضفّة الغربية المحتلّة المخصّصة لليهود فقط، ولا تتوقّف في الحواجز العسكرية المنتشرة في الضفّة الغربية المحتلّة، ولا تُعتقل، ولا تتعرّض للتعذيب، ولا يطلق عليك النار فتردى قتيلًا من دون ذنبٍ ترتكبه، ولا يُهدم بيتك. هذه الأعمال، وهي غيض من فيض، جرائم يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي في المناطق الفلسطينية المحتلّة، موجّهة ضدّ العرب الفلسطينيين فقط.

يرى شلومو زاند أنّ وضع المواطن اليهودي في إسرائيل في بداية القرن الحادي والعشرين، يماثل وضع الرجل الأبيض في جنوب الولايات المتحدة في العقود التي سبقت ستينيّات القرن الماضي، ويماثل وضع المستوطن الفرنسي في الجزائر في العقود التي سبقت استقلالها في عام 1962، ويشبه وضع المستوطن الأبيض في دولة جنوب أفريقيا إبّان نظام الأبارتهايد قبل عام 1994، ويشبه وضع الألماني الآري في ألمانيا في عقد الثلاثينيات من القرن الماضي. ثمّ يتساءل شلومو زاند كيف يمكن لإنسانٍ نزيه غير متديّن، إنسان ديمقراطي وليبرالي، ولديه الحدّ الأدنى من القيم الإنسانية، أن يستمرّ في عَدّ نفسه يهوديًّا. ألا يجعلك تعريف نفسك بأنّك يهودي تتّخذ ضمنيًّا قرار الانتماء إلى فئة مفضّلة تتمتّع بامتيازاتٍ في إسرائيل التي تنتج حولها ظلمًا لا يمكن تحمّله؟ ويؤكّد زاند أنّه يعيش في أحد المجتمعات الأكثر عنصريةً في العالم الغربي. ويضيف، صحيح أنّ العنصرية موجودة بشكلٍ أو بآخر في كلّ المجتمعات، ولكن العنصرية في إسرائيل متفشّية في كلّ مكان، وفي كلّ حيّزٍ عامّ، وتقوم الدولة بمؤسساتها المختلفة برعايتها. ويجري تدريسها في مختلف المؤسسات التربوية والتعليمية في إسرائيل. وهي مغروسة في روح القوانين التي ما انفكّ الكنيست يشرّعها. لقد بلغت العنصرية من الهيمنة والسطوة في إسرائيل درجةً لم يعد يدرك العنصريون فيها أنّهم عنصريون، ولا يشعرون إطلاقًا أنّ عليهم الاعتذار عن عنصريتهم. لذلك باتت إسرائيل منذ سنواتٍ طويلة، وفقًا لما يراه زاند، نموذجًا يجلّه العنصريون وتبجّله حركات اليمين المتطرّف في أنحاء العالم، تلك الحركات التي كانت في السابق تعرف بأنّها معادية للساميّة.


*هذه المراجعة منشورة في العدد الرابع من دورية "سياسات عربيّة" (أيلول / سبتمبر 2013)، الصفحات: 161-164. وهي دورية محكّمة تعنى بالعلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة والسياسات العامّة، يصدرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كلّ شهرين.

** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.