ملخص
تتناول هذه الدراسة موضوع البعد المنهجي لظاهرة الفجوة بين الأبحاث الاجتماعية وصنع السياسات العامة في الوطن العربي. وتكشفت عن وجود عدة عوامل متشابكة ساهمت في هذا الوضع، أهمها: غياب الثقة بين الباحثين وصناع القرار، والتبعية المنهجية، وغياب ثقافة تقييم الأبحاث العلمية، وضعف الشجاعة الفكرية والأخلاقية لدى الباحثين، وضعف الإقبال على استعمال التعدد والتكامل في المقاربات، وغياب ثقافة تحرير النواتج الإعلامية المحددة الهدف. تخلص الدراسة إلى أن نجاح تعزيز التنسيق والتقارب بين مخرجات البحوث الاجتماعية وصنع السياسات العامة في الوطن العربي رهين بمدى احترام الحريات الأكاديمية فيه، فهي تشكل أحد أهم مقومات العلمية البحثية وعوامل جذب الكفاءات، إضافة إلى إعطائها دورها الكامل في تطوير البحث العلمي الجاد والنافع.
مقدّمة
يتفق معظم الخبراء والباحثين على دور العلوم الاجتماعية في الرقي بالأمم وتعزيز قدراتها المعرفية والإنتاجية. ويكون هذا الدور فعّالًا، من خلال مدّ جسور التواصل والتعاون المثمرَين بين الباحثين الأكاديميين وصنّاع السياسات العامة. وعلى الرغم من الجهود المبذولة، فإنّ هذه الجسور تبقى هشة، بل منعدمة في بعض الأحيان. ففي حين تقلصت الهوة بين الأبحاث العلمية وصنع السياسات العامة وتنفيذها في ميدان العلوم الطبيعية، فإنّ عملية تفعيل العلوم الاجتماعية ما زالت متعثرة، خاصة في البلدان النامية. وقد نجم عن ذلك جدل واسع في الأوساط البحثية والسياسية، يركز أساسًا على مكامن الخلل، وجوانب تقصير مختلف الفاعلين المعنيين بالأمر. ويكتسي هذا الجدل أهمية خاصة في الوطن العربي، في ظل الأزمة البنيوية التي تتخبط فيها العلوم الاجتماعية، والتعارض المتزايد بين طموح الباحثين الأكاديميين وواقع ممارسة السياسات العامة.
أضفت هذه الوضعية غير السليمة جوًا من انعدام الثقة، وتبادل الاتهامات بشأن الجهة المسؤولة عن فشل عملية نسج الروابط بين الأبحاث الاجتماعية وحقل السياسات العامة في الوطن العربي. وفي هذا الإطار، يلاحَظ أنّ كل طرف يحاول اتهام الطرف الآخر؛ فصُنّاع القرار يتهمون الباحثين بكونهم يعيشون في أبراج عاجية منفصلة عن الواقع، وهم يعتقدون أنّ أساس المشكلة يكمن في الطابع المعقّد للغة الأبحاث الاجتماعية ومخرجاتها، ومن ثمّ صعوبة تفعيلها. أما الباحثون الاجتماعيون، فيرون أنّ المشكلة تكمن أساسًا في سلوك صنّاع القرار، وراسمي السياسات العامة الذين تنقصهم الإرادة والقدرات الضرورية لترجمة نتائج الأبحاث إلى قرارات وتطبيقات ميدانية تخدم الاقتصاد والمجتمع، كما أنهم لا يُوفُون تلك الأبحاث حقّها، على الرغم من كونها تهتم بدراسة ظواهر بالغة الأهمية، كمًا ونوعًا.
تعدّ دراسة هذه الإشكالية من مختلف الجوانب تمرينًا صعبًا؛ نظرًا إلى طابعها الثنائي (العرض والطلب)، وتشعّب المحددات المؤثرة فيها. وبدلًا من القيام بدراسة شاملة تؤدي إلى نتائج غير دقيقة، ارتأت هذه الدراسة التركيز على محدد واحد، ألا وهو المحدد المنهجي، ومحاولة فهم مدى تأثيره في ضعف التلاحم بين الأبحاث في العلوم الاجتماعية وصنع السياسات العامة في الوطن العربي.
* هذه الدراسة منشورة في العدد 32 (كانون الثاني/ يناير 2020) من دورية "سياسات عربية" (الصفحات 46-67)وهي مجلة محكّمة للعلوم السياسية والعلاقات الدولية والسياسات العامة، يصدرها المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات كل شهرين.
** تجدون في موقع دورية "سياسات عربية" جميع محتويات الأعداد مفتوحة ومتاحة للتنزيل.