العنوان هنا
مراجعات 07 فبراير ، 2012

الجدار العازل: أبارتايد إسرائيل المكتمل

الكلمات المفتاحية

مالك ونوس

مترجم وكاتب صحفي مستقل من سورية. حاصل على درجة ليسانس في الأدب الإنجليزي ويكتب في الصحافة منذ العام 2007. صدرت له مئات المقالات في عدد من الصحف السورية والعربية ومراكز الأبحاث. تصدر له قريباً ترجمة لكتاب "غزة، حافظوا على إنسانيتكم" للصحفي الإيطالي الراحل فيتوريو أريغوني الذي يتحدث فيه عن يوميات الحرب الإسرائيلية على غزة (2008-2009). يعكف الآن على ترجمة كتاب بعنوان "صعود فيتنام". يعمل لدى إحدى الشركات في سورية. تابع دورات في الإدارة من تنظيم مؤسسة سايمونز أند وايت أسوسييشن.

 


العنوان: الجدار العازل في الضفة الغربية

إعداد: حسن أبحيص وخالد عايد

تحرير: محسن صالح

الناشر: مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات -بيروت

السنة: 2010

عدد الصفحات: 120


نشأت فكرة إقامة الجدار العازل في الضفّة الغربيّة أو ما تسمّيه إسرائيل بـ "الجدار الواقي" سنة 1992، وبُوشر العمل في إنشائه في 16 نيسان / أبريل 2002. وقد صدرت العديدُ من الدّراسات الّتي تتحدّث عن هذا المشروع، ليأتي كتاب "الجدار العازل في الضّفّة الغربيّة" الصّادر ضمن سلسلة "أولستُ إنسانًا؟" عن مركز الزيتونة للدّراسات والاستشارات في بيروت في طبعةٍ أولى عام 2010، وهو من إعداد حسن أبحيص وخالد عايد، وتحرير د. محسن صالح، مدير المركز والأستاذ الجامعيّ المتخصّص في الدّراسات الفلسطينيّة، ليكون وثيقةً مُحكمةً ومهمّةً، نظرًا لشموليّته وإحاطته بالموضوع من أوجهه المتعدّدة، سواء من حيث الوضع على أرض الواقع، أو من حيث المسار التاريخيّ لظهور فكرة المشروع والبدء في تشييده، والمناطق التي يمرّ بها، والتّطورات الّتي عرفها المشروع حتّى تاريخ طباعة الكتاب، إضافةً إلى وجهة نظر القانون والأعراف الدّوليّة تجاهه، والاعتراضات على إقامته، والاحتجاجات الفلسطينيّة المتواصلة ضدّه.

يقع الكتاب في 120 صفحةً من القطع المتوسّط، وينقسم إلى ستّة فصول إضافةً إلى المقدّمة والخاتمة والهوامش. وقد دُعِّمَ الكتابُ بالخرائط والصّور التي تُظهر شكل الجدار ومكوّناته ومساره في المناطق الّتي يخترقها.

ومن خلال استعراض فصول هذا الكتاب، نصل في نهاية الأمر إلى حقيقة الهدف من بناء الجدار وتفنيد ادِّعاء "إسرائيل" الضّروراتِ الأمنيّةَ لإقامته. ويُشير معدُّو الكتاب في "التّقديم" إلى التزام الكتاب بالنّهج المتّبع في: "نقل المعاناة بأسلوبٍ يخاطب العقل والقلب في إطارٍ علميّ منهجيّ موثّق" (ص 5). وتؤكّد "المقدّمة" على أنّ الكتاب يسعى إلى الإجابة عن كلّ الأسئلة عن الجدار ووصفه وفكرته وأهدافه وتاريخ تشييده وقانونيّته وانعكاسات إقامته على الفرد والمجتمع الفلسطينيّ وسبل مقاومته. ومن خلال النّماذج والشّهادات الّتي يُوردها الكتاب، يقدّم فكرةً عن أوجه معاناة الشّعب الفلسطينيّ كافّةً، جرَّاءَ إقامة هذا الجدار، من النّواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والصّحيّة والتّعليميّة، إضافةً إلى التّهديد الّذي يُشكّله لمسار القضيّة الفلسطينيّة ومستقبلها، وتقويضه أسس قيام الدّولة الفلسطينيّة؛ وهنا تكمُن الخطورة.

يتميّز أسلوبُ الكتاب بالسّلاسة الّتي لم تحد عن الدقّة والمنهجيّة العلميّة المُتّبعة في إعداده، واحتوائه على قدرٍ كبيرٍ من الأرقام والإحصائيّات والنّماذج والشّهادات. وتأتي أهميّة الكتاب من تفنيده للدّوافع المزعومة من وراء إقامة هذا الجدار، حيث ورد في التّقديم أنّ الكتاب: "يفنّد ادّعاء إسرائيل بأنّ الدّافع لبناء الجدار دافعٌ 'أمنيٌّ‘، موضّحًا ارتباط مسار الجدار بحسابات السّياسة والاستيطان والاستئثار بالأراضي الزراعيّة ومصادر المياه" (ص 5). كما تكمن أهميّته في إبرازه الخطر الجِدّيّ الّذي يُشكِّله الجدار على مستقبل قضيّة الشّعب الفلسطينيّ وعلى وجوده ككلّ.


أوّلًا- ما هو الجدار؟

1. أكثر من فصل عنصريّ

في أوّل فصول الكتاب، نجد وصفًا للجدار من حيث ظهور فكرته عبر العديد من الخطط، الّتي كان أوّلها ما قدّمه حزب العمل الإسرائيلي عام 1988. وكان يتسحق رابين قد حظي بأصوات النّاخبين وانتُخب للرّئاسة الإسرائيليّة عام 1992 لأنّه طرح فكرة الفصل بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين، الّتي طالب في عام 1995 بوضع خطّة لتطبيقها. ثمّ تبلورت الفكرة في عام 2000 بموافقة رئيس الوزراء الإسرائيليّ إيهود باراك على إقامة حاجزٍ لمنع مرور المركبات. لكنّ العمل في الجدار على صورته الحاليّة لم يبدأ إلّا في حزيران / يونيو من عام 2002، أثناء فترة رئاسة إيرييل شارون لحكومة العدوّ. وترتكز جميع الخطط على عذر لعمليّة الفصل، كما أورده الكتاب على لسان أحد الصحفيّين الإسرائيليّين، وهو: "صعوبة أن يسكن ستّة ملايين إسرائيليّ وأربعة ملايين عربيّ معًا، لأنّ الاحتكاك بينهم يُنمّي إرهابًا خطِرًا وفظيعًا" (ص 13).

ولفكرة الجدار أبعادٌ متعدّدة، فهناك البُعد الأمنيّ لمنع وصول الفدائيّين إلى أراضي 48، والبُعد السّياسيّ الذي يكمُن في تصوّر إسرائيل للتّسوية، وجعل إقامة دولة فلسطينيّة على فتات الأرض المتبقّية أمرًا مستحيلًا، ممّا يُسهّل ضمّها. ويستهدف البُعد الاقتصاديّ منع الفلسطينيّين من الوصول إلى أراضيهم الزّراعيّة لتسهيل تهجيرهم. أضف إلى ذلك البُعد الاجتماعيّ؛ حيث يعزل الجدارُ القرى والمدن الفلسطينيّة عن بعضها البعض لمنع تواصلها.

تعيدنا هذه الممارسة -وهو ما لم يتوسّع فيه الكتاب- إلى الهدف من وضع الصّندوق القوميّ اليهوديّ الّذي أنشأته المنظّمة الصهيونيّة العالميّة في عام 1901، وهو الاستيلاء على المزيد من الأراضي لإنقاص المساحة المملوكة للعرب، من أجل حصرهم في مناطقَ معيّنة يتعذّر العيش فيها. أمّا الأداة لتنفيذ هذه السّياسة، فهي المستوطن اليهوديّ؛ وهذا من أوجه الشّبه بين الكيان الصّهيونيّ ونظام الأبارتايد في جنوب أفريقيا، الّذي فعل الشيء عينَه من قبل، حيث تسعى إسرائيل لخلق مجمّعات آمنة للمستوطنين، لا يمكن تحقيقُها سوى بعزل التّجمّعات العربيّة وتطويقها وفصلها عن بعضها البعض. ويتجلّى هنا أنّ عنصريّة إسرائيل ليست في الممارسات اليوميّة فحسب، بل هي جزءٌ من تكوينها السّياسي والاقتصاديّ والاجتماعيّ الّذي يستمدّ مقوّماته من فكرة الترانسفير، الّتي تطوّرت في الأيديولوجيّة الصّهيونيّة منذ ما قبل مؤتمر بال في عام 1897، ونضجت عبر أكذوبة أنّ فلسطين "أرضٌ بلا شعبٍ لشعبٍ بلا أرضٍ". ولئن كان الأبارتايد في جنوب أفريقيا يستند إلى قوانين الفصل، مثل: قانون مناطق الجماعات، وقانون الأرض، وقوانين المرور والمغادرة؛ الّتي ترجع جميعُها إلى إيمان الكنيسة الإصلاحيّة الهولنديّة "بأنّ عدم مساواة الأعراق مشيئة إلهيّة"[1]، فإنّ الصّهيونيّة بممارستها للتّمييز العنصريّ، لا تعتمد -فقط- على مزاعم العقيدة اليهوديّة بالتّفوّق اليهوديّ، بل تستند إلى خطط الصّهيونيّة المتحالفة مع روسيا القيصريّة لارتكاب مجازرَ في حقّ اليهود، ثمّ مع ألمانيا النّازية، لإقامة المحرقة من أجل تعزيز فكرة الانعزال لدى اليهوديّ، حتّى يتقبّل فكرة الفصل. هذه الفكرة الّتي ستساعد فيما بعد على زراعة المستوطنات، لتكون أجسامًا سرطانيّة في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، تأخذ في التّمدّد والتّكاثر، لتستوجب حمايتها وحماية الطّرق الطّويلة المؤدّية إليها في ما بعد، وحين يتعذّر ذلك؛ يكون السّبيل الوحيد هو اقتطاع أجزاء من الأراضي العربيّة وبناء جدار العزل الّذي يحقّق الأمان؛ وهي الأكذوبة التي يركّز الكتاب على تفنيدها.


2
مراحل بناء الجدار ومساره

يتعدّى الجدار العازل مسألة بناء حائط إسمنتيّ، وإقامة أسلاك شائكة، وطرق دوريّات، وسياج إلكترونيّ وغيرها. إنّه عمليّة قضم 39% من مساحة أراضي الضّفّة الغربيّة البالغة 5,876 كم2، وتقسيمها إلى ثلاث مناطقَ، وهي: منطقة أمنيّة شرقيّة تسيطر عليها سلطات الاحتلال بالكامل، ثمّ منطقة العزل الغربيّة الممتدّة بين الجدار والخطّ الأخضر، وهي الأقلُّ مساحةً. أمّا الثّالثة؛ فهي المنطقة المتبقّية، وتعادل 61% من مساحة الضّفّة، وهي الّتي من المتوقّع أن تتنازل عنها إسرائيل للفلسطينيّين.

تشير المصادر الفلسطينيّة إلى أنّ طول الجدار سيصل في المراحل النهائيّة إلى 770 كم، حسب معهد الأبحاث التطبيقيّة في القدس (أريج). بينما يقدّر مكتب تنسيق الشّؤون الإنسانيّة التّابع للأمم المتّحدة، أنّ طول الجدار بحسب المخطّط الموضوع له، سيصل إلى 709 كم. في حين تشير أرقام منظّمة التّحرير الفلسطينيّة إلى طولٍ قد يبلغ 711 كم. تناقض الأرقام هذا، سببه التّعديلات المستمرّة الّتي تجريها الحكومة الإسرائيليّة على مسار الجدار. وتبعًا لذلك يتفاوت تقدير مساحة المناطق الّتي يعزلها الجدار.


3. مكوّنات الجدار ومواصفاته

والجدار؛ عكس ما قد يوحي به اسمه، ليس جدارًا واحدًا. فالكتاب يصف الجدار بأنّه على الجانب الفلسطينيّ عبارة عن ستّ لفّات (أحزمة) من الأسلاك الشّائكة، يليها خندق عميق، ثمّ طريق ترابيّ لمرور الدّوريات، ثمّ سياج إلكترونيّ بارتفاع ثلاثة أمتار. أمّا على الجانب الإسرائيليّ؛ فيتكوّن من طريق معبّد على جانبيه ممرّان رمليّان لاقتفاء أثر المتسلّلين، وأسلاك شائكة، ثمّ أجهزة إنذار إلكترونيّة. ويبلغ عرض الحاجز في بعض أجزائه 60 مترًا، أمّا الحائط الإسمنتيّ؛ فيقام في أماكن الكثافة السّكانيّة، ويبلغ ارتفاعه ثمانية أمتار. وتوجد بين المناطق الّتي فصلها الجدار، بوّاباتٌ يقوم عليها الجنود، وعندها تتركّز معاناة الفلسطينيّين من تفتيش، وتدقيق، وإهانات، وحرمان من الوصول إلى الأراضي الزراعيّة والمدارس، ونقل السّلع والموادّ الطبّيّة وغيرها، وما يرافق ذلك من صنوف العذاب اليوميّ. ويخضع فتح البوّابات لمزاج السّلطات، على الرّغم من تصنيفٍ سابق للبوّابات، منها ما يُفتح يوميًّا ولفترات محدودة، ومنها ما يفتح مرّةً كلّ أسبوع وأخرى موسميّة الفتح، وتبقى بوّابة بلعين الوحيدة المفتوحة 24 ساعةً في اليوم، بقرارٍ نجح الفلسطينيّون في استصداره من محكمة الأمن العليا الإسرائيليّة.


ثانيًا- الجدار أمام القانون

1. أمام محكمة العدل الدوليّة

يستعرض هذا الفصل من الكتاب موقف القانون الدّوليّ من الجدار، ورفض إسرائيل المستمرّ للقرارات الصّادرة في هذا الشّأن - كعادتها في رفض جميع قرارات الهيئات الدوليّة - ومساندة الولايات المتّحدة لها عبر استخدامها حقّ النّقض، لإبطال أيّ مشروع يدين إسرائيل أو يستوجب انصياعها. ففي أوّل محاولة لوقف مشروع الجدار، استخدمت الولايات المتّحدة حقّها في النّقض لإسقاط مشروع قرارٍ تقدّمت به المجموعة العربيّة إلى مجلس الأمن في عام 2003 لإلغاء مشروع الجدار؛ لكونه أخلّ بخطّ هدنة 1949. فأحيل الموضوع بعد ذلك إلى الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة، الّتي اتّخذت بتاريخ 21/10/2003 قرارًا يطالب إسرائيل بوقف بناء الجدار، ويقدّم بموجبه الأمين العامّ للمنظّمة الدّوليّة تقريرًا شهريًّا عن مدى التزام السّلطات الإسرائيليّة بتنفيذ القرار. وقد أفاد الأمين العامّ في أوّل تقريرٍ له، أنّ إسرائيل لم توقف المشروع، فأحيل الأمرُ إلى محكمة العدل الدّوليّة في لاهاي لإبداء الرّأي، إلّا أنّ إسرائيل رفضت التّعاون مع المحكمة بادّعاء "عدم الاختصاص"، مُعتبرةً أنّه شأن ثنائيّ بينها وبين الفلسطينيّين. ولكن المحكمة نظرت إلى القضيّة من جانب مدى قانونيّة الجدار في ضوء القانون الدّوليّ لحقوق الإنسان، مُعتبرةً أنّ الجدار يمسّ الحقّ في حرّيّة الحركة والتّنقّل، الّتي يكفلها البندان 12 و17 من الميثاق الدّوليّ الخاصّ بالحقوق المدنيّة والسّياسيّة. كما أنّه يمسّ الحقّ في العمل والصّحّة والتّعليم، الذي تكفله البنود 6 و11 و12 و13 من الميثاق الدّوليّ الخاصّ بالحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. كما استندت المحكمة على انتهاك إسرائيل لاتفاقيّة لاهاي لسنة 1907، التي تحظر على الاحتلال مصادرة ممتلكات المحتَلّ أو تدميرها. واتفاقيّة جنيف الرّابعة لعام 1949، التي تنصّ على حظر نقل السّكّان الخاضعين للاحتلال. 

أمّا ما صدر عن المحكمة بتاريخ 9/7/2004، فهو محض رأيٍ استشاريّ، عدّ الجدار مخالفًا للقانون الدّوليّ، وتَضَمّن دعوةً لإلغاء الجدار، وإعادة الممتلكات المصادرة، وتعويض المتضرّرين. وقد صادقت الجمعيّة العامّة للأمم المتّحدة على ذلك الرّأي في 20/7/2004، مُطالبةً إسرائيل بالتقيّد بما جاء فيه. لكن -كعادتها- لم تعر إسرائيل كلّ ذلك بالًا، فواصلت بناء الجدار متسلّحةً برفض المحكمة العليا الإسرائيليّة فتوى محكمة العدل الدوليّة بذريعة كونها لا تراعي ضرورات إسرائيل الأمنيّة. 


2. 
أمام المحكمة العليا الإسرائيليّة

لا يتعدّى دور هذه المحكمة النّظر في الأمور اليوميّة، ويرى المراقب من بعيد، أنّ ما بتّت فيه هذه المحكمة من التماسات المواطنين الفلسطينيّين المدعّمة بالقوانين -على الرّغم من أنّها نجحت في تغيير مسار الجدار في بعض المناطق- لا تعدو كونها مَضيعةً لوقت الفلسطينيّين تلهيهم عن جوهر معاناتهم ومسبّبها، ألا وهو الجدار، الّذي يقوم ويكبر يومًا بعد يوم، ويقضم في طريقه أجزاء كبيرة من الضّفّة، ويجلب المآسي لحياة الفلسطينيّين.

لكنّ خرقًا قد حصل، حين وافقت المحكمة العليا الإسرائيليّة على تعديل مسار الجدار في مقطعي جيوس-فلاميّة في عام 2007، ومعالي أدوميم في عام 2008 الواقع شرق مدينة القدس. وبذلك أُعيدت آلاف الدونمات المصادرة لأصحابها الفلسطينيّين. كذلك الأمر بالنّسبة إلى مقطع بلعين، حيث وافقت المحكمة بقرارٍ أصدرته في عام 2007 على تغيير المسار وإعادة 1100 دونم من الأراضي المصادرة. لكنّ هذا القرار لم ينفَّذ.


ثالثًا- الجدار والاستيطان

1. توسيع المستوطنات

أقيم الجدار كما هو مخطّط له، بحيث يحيط بالمستوطنات، لكنّه في أحيانٍ كثيرة يصل بُعده عن آخر منزل في بعض المستوطنات إلى آلاف الأمتار، وهو ما يُثبت أنّ أحد أهداف الجدار هو توسيع المستوطنات، بحيث أنّ هذا التّوسّع بات يفسح المجال لإقامة مستوطناتٍ جديدة. ويقام الجدار حول 237 مستوطنة يسكنها أكثر من 540 ألف مستوطن إسرائيليّ. ومن أمثلة التّوسع في المستوطنات، أنّه سيتم زيادة عدد قاطني مستوطنة تسوفين قرب قلقيلية، من ألف إلى ستّة آلاف مستوطن.


2. سرقة الأراضي الزّراعيّة

لا شكّ في أنّ الماء هو العنصر الأوّل في تفكير إسرائيل لدى التّخطيط للاستيلاء على الأراضي. وليس أدلّ على ذلك من حروب المياه التي تستعدّ للشّروع فيها ضدّ العالم العربيّ بدءًا من جنوب السّودان ودول حوض النّيل وسيناء والجنوب اللّبناني، إلى الدّعم الذي قدّمته لإقامة سدّ أتاتورك التّركيّ على نهر الفرات، وصولًا إلى الاستحواذ على مصادر المياه في كامل المحيط الجغرافيّ والأراضي الفلسطينيّة المحتلّة بالطّبع.

وقد انتزع الجدار العازل الأراضي الزراعيّة والغابات والمناطق المفتوحة، ووضع العراقيل أمام أصحابها لمنعهم من الوصول إليها، تمهيدًا لتوزيعها على المستوطنين الإسرائيليّين. وبلغت مساحة الأراضي الواقعة غرب الجدار، والّتي وضع المستوطنون أيديهم عليها 733 كم2. والأمر ذاته ينطبق على المياه، حيث سيساعد الجدار في سرقة إسرائيل للمياه التي تقع غربه. فهو سيؤدّي إلى تدمير أو عزل تسعين بئرًا، والسّيطرة على 165 بئرًا و53 نبعًا؛ تصل طاقاتها التّصريفيّة مجتمعةً إلى نحو 734 مليون م3 سنويًّا، إضافةً إلى المسطّحات المائيّة والأنهار، أي ما نسبته 99% من مجاري المياه في الضّفّة. سوف يؤدّي هذا الأمر إلى حرمان الفلسطينيّين ومزروعاتهم من هذه المياه، وهو ما يعدّ خرقًا للقرار الّذي أصدرته الأمم المتّحدة بتاريخ 29/7/2010، والّذي يجد الحصول على مياهٍ نظيفة حقًّا من حقوق الإنسان. ومن نتائج الاستيلاء على المصادر المائيّة للضّفّة على الواقع الغذائيّ، تحوّل طولكرم -الّتي تعدّ جزءًا من سلّة غذاء الضّفّة الغربيّة- إلى مستورد للقمح، للمرّة الأولى في تاريخها. ويُعدّ هذا الإجراء جزءًا من سياسة الإبادة الجماعيّة للعرب، المستمدّة من أيديولوجيّة إسرائيل؛ كون التّوراة "تربّي أتباعها على أنّه لا خلاصَ لليهود إلّا بإبادة جميع الشّعوب غير اليهوديّة، الّتي تزاحمهم على مصادر العيش والماء والنّفوذ السّياسيّ والعسكريّ"[2].


رابعًا: معاناة الفلسطينيّين بسبب الجدار

1. أرقام وإحصائيّات

إنّ الجدار أشبه بكابوس يوميّ طرأ على حياة الشّعب الفلسطينيّ وجعلها تنقلب وتتغيّر عمّا كانت عليه من قبل. فبغضّ النّظر عن المنازل الّتي هدمها، والأراضي التي صادرها في طريقه، أدّى الجدار إلى عزل المدن والقرى الفلسطينيّة عن بعضها البعض، ووضع العراقيل أمام تنقّل المواطنين وتواصلهم. ويتناول الكتاب -بالأرقام- المنازل المهدّمة والأراضي المصادرة. فخلال ثلاث سنوات، وحتّى تاريخ 3/4/2008، هدّمت السّلطات الإسرائيليّة 166 منزلًا في محيط أو مسار الجدار، مع توقّع هدم 754 منزلًا آخر. أمّا الأراضي المصادرة، فقد بلغت مساحتها حتّى حزيران / يونيو 2008، نحو 49291 دونمًا. وقد صودرت أراضي 19.2% من الأسر المتأثّرة بالجدار بشكلٍ كلّي، فيما صودر 28.5% من أراضي أسرٍ أخرى بشكلٍ جزئيّ. ومعظم تلك الأراضي كان يُستخدم لأغراض الزّراعة.

أمّا الأضرار التي يسبّبها الجدار، فتعود إلى عاملين هما العزل وإعاقة الحركة بين المناطق المجاورة للجدار. فقد تأثّرت حياة المواطنين على كافّة الصّعد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والصّحيّة والتّعليميّة، حيث يحصر في جيوب مغلقة ما يقارب 425 ألف فلسطينيّ، يحتاج معظمهم إلى تصاريحَ من الجيش الإسرائيليّ للتّنقّل، بسبب إعلانه المنطقة بين الجدار والخطّ الأخضر منطقة عسكريّة مغلقة. ويخضع لنظام التصاريح حتّى أولئك المتّجهون إلى العمل في أراضيهم الزراعيّة الخاصّة. وبذلك تمّ عزل مساحة 274607 دونمًا من الأراضي الزراعيّة، حيث لا يستطيع أصحابها الوصول إليها. وقد تهجّر 27841 شخصًا من التّجمّعات التي مرّ بها الجدار حتّى تاريخ 2008، وكلّ ذلك بحسب أرقام الجهاز المركزيّ للإحصاء الفلسطينيّ. كما ارتفعت نسبة البطالة إلى درجةٍ كبيرة، وصلت عام 2006 إلى 32% بين سكّان المناطق المعزولة والقريبة من الجدار. وأغلقت 3551 منشأة اقتصاديّة حتّى عام 2008، بسبب قلّة حركة الزّبائن نتيجة إغلاق الطّرق التي تقع عليها هذه المنشآت. كما انخفض الإنتاج الزراعيّ في الضّفّة بنسبة 20%، ولم يتبقَّ سوى نسبة 15% من المساحات الرّعوية في منطقة العزل الشرقيّة وحدها.

وإضافةً إلى الأضرار الاجتماعيّة وانفصال الأقارب، كان للجدار تأثيرٌ في الجانب الطّبّي، حيث شكّل عائقًا أمام 65% من الواقعين في مناطق تأثيره لتلقّي الخدمات الصّحيّة. علاوةً على ذلك؛ فإنّ الآثار النفسيّة للجدار تبدو جليّة على المجاورين له، حيث تظهر على شكل اكتئاب يصيب هؤلاء السكّان، إضافةً إلى اضطراب النّوم الذي يصيب الكبار والصّغار على السّواء، وما يترتّب على هذه الآثار النفسيّة من آثارٍ جسديّة رصدتها دراسةٌ للمركز الفلسطينيّ للإرشاد عن الآثار النفسيّة للجدار على سكّان قلقيلية.

من جهةٍ أخرى، تضرّرت 124 مدرسة يدرس فيها 14 ألف طالب جرّاء الجدار، ممّا أثّر في التّحصيل العلميّ للطلّاب، بسبب احتجازهم والمدرّسين في المعابر، وتأخّر وصولهم إلى المدارس بشكلٍ متكرّر. وقد تسرّب من المدارس 4% من التلاميذ، بسبب هذا الوضع الذي يعانيه أيضًا طلّاب المعاهد والجامعات. 


2.  
نماذج وشهادات

في هذه الفقرة يقدّم الكتاب مجموعةً من النّماذج التي تصوّر ما يسبّبه الجدار من معاناةٍ للفلسطينيّين على كافّة الصّعد الاقتصاديّة والاجتماعيّة والصحيّة والتعليميّة، والآثار التي يخلّفها عبر سرقة الأراضي ومصادر المياه، إضافةً إلى ممارسات جنود الاحتلال التي تزيد الجدار بلاءً.

فعلى سبيل المثال، يورد الكتاب قصّةً تندرج ضمن المضحك المبكي، تتلخّص في دهم الجيش الإسرائيليّ لمنزل مواطن فلسطينيّ يدعى مُوفق قَبْها في قرية طورة الغربيّة التابعة لجنين، لاعتقال ابنه أحمد المعاق عقليًّا وحركيًّا. لكنّ إعاقة أحمد لم تمنع الجيش الإسرائيليّ من اعتقاله، بعد ضربه بأعقاب البنادق وجرّه بملابس النّوم نحو الحافلة، وإدانته في المحكمة بإلقائه الحجارة على الجدار العازل، وهو المعاق الذي لم يدرك ما وُجّه إليه من اتّهامات، فأمضى 26 يومًا في الاحتجاز، ولم يطلق سراحه إلّا بعد دفع غرامة ماليّة وتوقيع تعهّد. وقصّة أخرى تُروى عن أبٍ منعه الجنود من عبور البوّابة لعلاج ابنته في بلدة حيلة في منطقة قليقيلية، فما كان منه سوى الاتّصال بالطّبيب الذي وافاه إلى الجدار ومن بين الأسلاك مرّر سمّاعته لفحصها، غير أنّه لم يتمكّن من إعطائها الحقنة لتخفيض حرارتها، فأعطاها حبوبًا بدل الحقنة.

وهنالك قصصٌ عن عزل القرى عن أراضيها الزراعيّة، وما يسبّبه ذلك من ضياعٍ لتلك الأراضي، وخسران مورد الرّزق الوحيد لهذه القرى. أمّا القرى المحظوظة فلم تصادر أراضيها كاملةً بل صودرت نسبة 90% منها فقط، غير أنّ الفلّاحين لا يستطيعون الوصول إلى تلك الـ 10% المتبقّية، سوى لثلاث فترات في اليوم، لأقلّ من ساعة في كلّ فترة. كما أدّى الجدار إلى انخفاض عدد رؤوس الماشية التي يربّيها الفلّاحون، بسبب عدم قدرتهم على إيصالها إلى مناطق الرّعي المعتادة الواقعة خلف الجدار.

يحضرنا ونحن نستعرض صور المآسي في هذا الكتاب وفي غيره ممّا تتناقله وسائل الإعلام، تصنيف الصحفيّ والسينمائيّ الأستراليّ جون بيلغر للأبطال الحقيقيّين في زماننا، في كتابه المعنْون بـ"الأبطال"، الذي صدر أوّل مرّة عام 1986. فجميع هؤلاء الّذين رفضوا مغادرة البقع الصّغيرة المتناثرة من الأرض التي تبقّت لهم وأمثالهم من الآلاف ممّن تحمّلوا ما تحمّلوا من معاناةٍ جرّاء الجدار، يصنّفون أبطالًا. حيث كتب بيلغر أنّ الأبطال الحقيقيّين في هذا الزمن، هم أولئك الملايين من البشر المنتشرين حول العالم، والذين جُرِّدوا من عوامل قوّتهم، ومع ذلك يتابعون حياتهم دون التّنازل عن كرامتهم، على الرّغم من أنّ الأقوياء قد حكموا عليهم بسدّ الطريق في وجوههم.


خامسًا: الجدار في القدس (غلاف القدس)

1. عزل القدس عن بقيّة أجزاء الضفّة

عند القدس تنقشع كلّ الغيوم، وعندها تصبّ كلّ النّكبات. إنّها الهدف الأوّل لكلّ ما تحيكه إسرائيل، وأمام أسوارها تستقرّ كلّ مؤامرات هذا الكيان. وللقدس مكانةٌ في الجدار: إنّها أحد أهمّ أهدافه؛ فتهويد المدينة كان ولا يزال الشّغل الشّاغل لحكومة العدوّ. أمّا جدارها؛ وهو ما يسمّيه الإسرائيليّون بـ "غلاف القدس"، فهدفه الأوّل تخفيض نسبة العرب في المدينة من 35% إلى 22% كمرحلةٍ أولى، بحسب المكتب الوطنيّ للدّفاع عن الأراضي في فلسطين.

لقد أبقى الجدار المناطق ذات الكثافة السكّانية الفلسطينية خارج غلاف القدس، وكذلك الأمر بالنّسبة إلى القرى. فالجدار المخصّص للقدس، والذي يمتدّ على طول 167 كم، يهدف إلى عزلها عن الضفّة الغربيّة وعن القرى المحيطة بها، تمهيدًا لتفريغها من سكّانها الأصليّين. فهو سيعزل غربه 43% من مساحة محافظة القدس، يعيش عليها 56% من سكّان المحافظة. ويسيطر الجيش الإسرائيليّ على المعابر المؤدّية إليها، حيث لن يُسمح لسكّان الضفّة بدخول القدس الشرقيّة سوى بتصاريح من هذا الجيش، تعطى أو تُسحب وقتما يشاء.


2. 
معاناة سكّان القدس بسبب الجدار

معاناة سكّان القدس هي معاناة باقي السكّان الفلسطينيّين القاطنين بمحاذاة الجدار، مضافًا إليها البعد المعنويّ، بسبب ما تمثّله القدس من أهمّية تاريخيّة للفلسطينيّين، ومركزيّتها في مسار تطوّر القضيّة الفلسطينيّة، علاوةً على البعد الدينيّ للمدينة، ورمزيّتها لدى مئات ملايين المسلمين عبر العالم. 

ومن آثار الجدار على المدينة، تهجير السكّان. فتبعًا لدراسة إحصائيّة، غيّر نحو 53.9% من المقدسيّين أماكن إقامتهم بسبب الجدار منذ عام 2002، فيما يحتاج 86.7% منهم للعمل والضّمان الاجتماعيّ وبقيّة الخدمات، ليتمكّنوا من الصّمود في أماكنهم. وبسبب القانون الإسرائيليّ الذي يهدّد بسحب الهويّة المقدسيّة ممّن تجاوزت فترة إقامته خارج حدود بلديّة القدس السّبع سنوات، يضّطر السكّان للإقامة داخل حدود البلديّة، بما يشكّله ذلك من اكتظاظٍ وتكاليفَ باهظة التّعليم والمعيشة إضافةً إلى الضّرائب. وقد أجبر الجدار الكثير من سكّان المناطق المحيطة بالقدس من البدو على الرّحيل، كما حصل مع قبيلة "الجهالين" شرق القدس وعشيرتي "السلامات" و"الحمادين".  

أمّا الأثر الاقتصاديّ للجدار في القدس ومحيطها، فهو مدمّر بسبب العقبات التي وضعها أمام حركة التّجّار والبضائع من المدينة وإليها، وتسبّبه في زيادة نسبة البطالة التي وصلت إلى عتبة 19.3% سنة 2006، تبعًا لتقريرٍ صادر عن مكتب تنسيق الشّؤون الإنسانيّة التابع للأمم المتّحدة. كما أدّى إلى إغلاق الكثير من المنشآت الاقتصاديّة والمحالّ التجاريّة، بسبب تراجع حركة الزّبائن. وسبّب الجدار خسارة الأراضي للقرى التّابعة للقدس كقرية بيت سوريم، حيث لم يتبقَّ من أراضيها التي كانت تبلغ 13 ألف دونم في عام 1948 سوى 6800 دونم، سيسرق الجدار منها 5500 دونم، فلا يبقى منها سوى 1300300 دونم، لن تفي بحاجة القرية للاستثمار الزراعيّ، وهو ما سيدفعهم للهجرة، بعد أن خسروا حتّى أماكن دفن موتاهم.

أمّا من الناحية الاجتماعيّة، فالجدار عائق أمام التّواصل بين الأقارب المقيمين على جانبيه، كما قلّل فرص الزّواج بسبب ممانعة الأهل للزّواج من أفرادٍ مقيمين على الطّرف الآخر. أمّا من النّاحية الصحّية، وكما في الضفّة الغربيّة وفي القدس ومحيطها، يعدّ الجدار عائقًا أمام السكّان، في الحصول على الرّعاية الصحّية والدّواء، والوصول إلى مستشفيات شرق القدس التي توفّر رعايةً صحيّة عالية، وهي التي كان يقصدها سكّان الضفّة أيضًا، نظرًا لهذه الميزة. كما أنّ صعوبة المرور منعت الكثير من أفراد الطّواقم الطبّية من الضفّة، من الوصول إلى مكان عملها في مشافي القدس، حيث تناقص العدد بنسبة 38% سنة 2009، ممّا زاد من صعوبة تأمين الخدمات الطبّية كالجراحات، وأدّى أيضًا إلى صعوبات إداريّة. 

أمّا بالنّسبة إلى المعاناة التي خلّفها الجدار من ناحية التّعليم، فيمكن إيراد رقم يختصر هذه المعاناة وانعكاساتها المستقبليّة على الجيل الجديد. فمن بين 33 ألف طالب وأكثر من ألفي مدرّس، يواجه ستّة آلاف طالب و650 مدرّسًا مصاعبَ في الوصول إلى أماكن تعليمهم. كما أنّ طلّاب الجامعات يتحمّلون المعاناة ذاتها. فإضافةً إلى إعاقة الوصول، يتّخذ من يستطيع المرور مسارات تستغرق ساعات، بعد أن كانت تستغرق دقائقَ قليلة. وتنعكس هذه الصّعوبات في تسرّب طلّاب المدارس، الذين لم يعودوا يحتملون مشقّة الطّريق، ليضافوا إلى أولئك الذين لم يجدوا سبيلًا للوصول إلى أماكن تعليمهم. ويضاف إلى ذلك ما أحدثه الجدار من تدميرٍ لبعض المدارس، أو مصادرة لملاعب مدارس أخرى، أو تقسيم المدارس إلى نصفين، كما حصل لمدرسة عناتا الثانويّة، حيث عزل الجدار ملعبيها، وبقيت ساحة صغيرة لا تتّسع للطلّاب. والأمر ينطبق أيضًا على فروع جامعة القدس الثّلاثة، في أبو ديس وبيت حنينا والبلدة القديمة. أمّا الأثر في العمليّة التعليميّة، فهو ما سيظهر في المستقبل من جهة التّحصيل العلميّ، بسبب عدم انتظام العمليّة التعليميّة في المدارس والجامعات، وعدم استيفاء المناهج المقرّرة لحقّها في الشّرح والتأخّر في إكمالها.


سادسًا: مواجهة الجدار ... بلعين نموذجًا

تتصدّر قرية بلعين الأنباء التي تتحدّث عن مقاومة الجدار بشكلٍ أسبوعيّ، كون المظاهرات التي تنظّمها ضدّ الجدار كلّ يوم جمعة، قد استمرّت منذ 20 شباط / فبراير 2005 لحظة إقامة الجدار في هذه القرية، وحتّى يومنا هذا. ولهذه المظاهرات الأسبوعيّة مميّزات تبدأ بنوعيّتها، وأشكال الاحتجاج التي ترافقها، ولا تتوقّف عند استمراريّتها. فقرية بلعين التي قضمت مستوطنة "مودعين عليت" الإسرائيليّة 800 دونم من مساحة أراضيها البالغة 4000 دونم، يهدّد الجدار بقضم ألفي دونم أخرى منها، ممّا يبقى لسكّانها البالغ عددهم 1800 نسمة نحو 1200 دونم فقط من أراضيهم. وانطلاقًا من تصميم أهالي القرية على منع إقامة الجدار في أراضيهم، أو على الأقلّ منعه من قضم مساحاتٍ كبيرة، استمرّوا في مظاهراتهم ومقاومتهم، مبتدعين أشكالًا كثيرة لهذه المقاومة التي اكتسبت أنصارًا من كلّ أنحاء العالم، شاركوا الأهالي معاناتهم ومقاومتهم. ويقول عبد الله أبو رحمة، منسّق اللّجنة الشعبيّة لمقاومة الجدار في القرية: "يقولون العين لا تقاوم المخرز، هذا المثل ينطبق على أيّ مكان باستثناء بلعين، هم سلبونا أرضنا، ونحن لن نقف صامتين، فمن هنا سيبدأ انهيار الجدار".

وشارك أهالي القرية في مقاومتهم ناشطو سلامٍ إسرائيليّون وأوروبيّون من حركة التّضامن الدوليّة. وقد أُصيب عددٌ من النّاشطين الإسرائيليّين في هذه المظاهرات، ومن هؤلاء يوناتان بولاك الذي أصيب عدّة مرّات، وهو من حركة "فوضويون ضدّ الجدار"، ويشارك أسبوعيًّا في مظاهرة بلعين. كما تعرّض المحامي الإسرائيليّ ليمور غولدشتاين بالرّصاص المطاطيّ في رأسه، وأصيبت أيضًا الناشطة الدوليّة ميريد كوريغان الحائزة على جائزة نوبل للسّلام في نيسان 2007 برصاصةٍ في رجلها، كما أصيبت نائبة رئيس البرلمان الأوروبي لويزا مركانيتي، والقاضي الإيطاليّ خوليو توسكانو بجروحٍ أثناء مشاركتهما في إحدى التّظاهرات عام 2008. كما فقد أهالي القرية العديد من الشّهداء في تلك المواجهات، وتعرّض كثير منهم للأذى، بسبب الرّصاص أو استنشاق الغاز المسيل للدّموع.

وبرز استخدام قوّات العدوّ الإسرائيليّ لأنواعٍ جديدة من الأسلحة، يُعتقد أنّه يتمّ تجريبها على سكّان بلعين، لاستخدامها فيما بعد في قمع التّظاهرات داخل الكيان أو تسويقها على المستوى الدوليّ. وقد أوردت صحيفة هآرتس تحقيقًا عن الموضوع، قالت فيه إنّه إضافةً إلى الجيش الإسرائيليّ، تقوم مصلحة السّجون في الكيان بالمشاركة في هذه التّجارب. ومن هذه الأسلحة قنابل إسفنجيّة تصيب الأفراد برضوضٍ كبيرة، وأسلحة صوتيّة تؤدّي عند توجيهها عبر مكبّرات صوت ضخمة نحو شخص ما إلى فقدان قدرته على التّوازن.

ومن أشكال المقاومة، أن قامت عائلتان من القرية باحتلال منزل في مستوطنة "مودعين عليت" ووضعتا فيه أغراضهما وألعاب أطفالهما، ورفعتا العلم الفلسطينيّ فوقه. لكن قوّات الاحتلال أخرجتهما منه، إلّا أنّهما قدّمتا أوراقًا ووثائق تثبت عدم شرعيّة هذه المستوطنة، فتمّ هدم عدد من بيوتها، واستعاد الأهالي الأرض التي كانت تُقام عليها.

وعلى الرّغم من القمع الذي تتعرّض له هذه التّظاهرات وأشكال المقاومة الأخرى، نجح الأهالي في 4/9/2007 باستصدار قرار من المحكمة الإسرائيليّة العليا، يقضي بتغيير مسار الجدار في محيط القرية، عزّزه قرارٌ آخر عن المحكمة نفسها بتاريخ 15/12/2008 يستردّ بموجبه أهالي بلعين نصف أراضيهم الواقعة غرب الجدار.

وكما عَرّف الكتاب الجدار بأنّه أكثر من فصلٍ عنصريّ، فإنّه يمكننا تعريف كتاب "الجدار العازل في الضفّة الغربيّة" بأنّه أكثر من كتاب. إنّه وثيقة تاريخيّة تتصدّى لهذا الجدار من أجل وضع كلّ المعنيّين بالحقّ الفلسطينيّ أمام أنفسهم، ليتفكّروا في الخطر الذي يداهم القضيّة الفلسطينيّة جرّاء إقامته. وقضيّة الجدار هي قضيّة جديدة تُضاف إلى الكثير من القضايا الأخرى التي ترسم مأساة الشّعب الفلسطينيّ، كقضيّة اللّاجئين وقضيّة الأسرى وقضيّة القدس. وخطورته لا تقلّ عن خطورة نكبة 1948 إن لم نقل إنّه نكبة جديدة تقلّص - بقضمه للأراضي الفلسطينيّة وعزله القرى والمدن عن بعضها البعض- فرص إقامة دولة فلسطينيّة مستقلّة فوق كيانٍ واضحِ المعالم.


 

[1]  حمد سعيد الموعد، الأبارتيد الصهيوني، الطبعة الأولى، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2001)، ص 10.

[2]   غازي حسين، العنصرية والإبادة الجماعية في الفكر والممارسة الصهيونية، الطبعة الأولى، (دمشق: اتحاد الكتاب العرب، 2002)، ص 14.